فقدت الثقافة العربية في مصر ثلاثة من أبرز رموزها خلال بضعة أيام: علي الراعي، فتحي غانم، ولطفي الخولي رحلوا قبل أن يلمّ القرن أذياله ويمضي. الثلاثة من مواليد العشرينات، وهم ينتمون بحكم انخراطهم في الادب والسياسة، الى الجيل الذي تلا جيل الرواد: هيكل، العقاد، طه حسين، والحكيم، ثم نجيب محفوظ. وقد عاشوا حقبة صاخبة من تاريخ الثقافة العربيّة، شهدت معركة كتاب "في الشعر الجاهلي" طه حسين، والتجديد الموسيقي على يد سيد درويش، وبدء انطلاقة ام كلثوم، وزعامة سعد زغلول لمصر. وتكوّن كل من الراعي وغانم والخولي في عقد الأربعينات بزخمه الفكري والسياسي، واشتركوا بارتباطهم الحاسم بثورة تموز يوليو 1952 التي عملوا في مؤسساتها، وكانوا ملء السمع والبصر على اختلاف مواقفهم. وقد اصطدم الثلاثة، بشكل او بآخر، بالسلطة في عهد الرئيس السادات، ثم عادوا بقوة الى الساحة العامة بعد انتهاء عهده. وبرحيلهم تفقد الثقافة المصرية بعض علاماتها البارزة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لطفي الخولي : تحولات ومعارك يعتبر لطفي الخولي 71 سنة من اكثر الكتاب والمفكرين المصريين قدرة على اثارة الجدل، وجرأة في المواجهة. والخولي احد المفكرين القلائل الذين غيروا مواقعهم وانتماءاتهم الفكرية واعلنوا عن ذلك التحوّل بوضوح شديد لا لبس فيه. إنتمى الخولي مبكراً الى حركة اليسار المصري، واعتقل مرتين في عهد الرئيس عبد الناصر باعتباره شيوعياً، ثم التحق بالعمل في "الاهرام" العام 1963. وترأس تحرير مجلة "الطليعة" التقدمية من 1965 إلى 1977. ثم اصطدم بنظام حكم الرئيس السادات، خصوصاً عندما قرر زيارة القدس. ودعا الخولي وقتذاك الى اعتصام مفتوح في ميدان التحرير في قلب القاهرة احتجاجاً على زيارة القدس ومن بعدها اتفاقية كامب ديفيد، ثم ترك مصر منفياً إلى باريس، ورافضاً سياسة الحكومة المصرية الداعية الى سلام منفرد مع اسرائيل. وعصفت رياح التاريخ بمسيرة لطفي الخولي، فنقلت الماركسي السابق الى ضفاف اخرى بعيدة، واذا به يتحوّل إلى خندق دعاة الحوار مع اسرائيل، ويكون أحد المؤسسين لتحالف كوبنهاغن من اجل السلام ثم جمعية القاهرة للسلام. كما سافر الى القدس للتظاهر ضد بنيامين نتانياهو. وهذا التحول جلب للخولي الكثير من العداءات، خصوصاً في حزب "التجمع" الذي كان من قياداته، وفي نقابة الصحافيين المصريين التي حذرته من مواصلة اتصالاته مع اسرائيل التي يمنعها قرار الجمعية العمومية للنقابة، وفي الوسط الثقافي المصري الرافض بشكل عام اي شكل من أشكال التطبيع مع اسرائيل. وخاض الخولي، دفاعاً عن قناعاته، معارك عدّة، كان اكثرها حدة مواجهته مع الراحل سعد الدين وهبة الذي عرف بمواقفه المتصلّبة في مناهضة التطبيع. ولعلّ الحضور السياسي الطاغي للطفي الخولي، حجب وجهاً آخر، لا يقلّ أهميّة، إن لم يكن الأكثر أهميّة، ألا وهو الوجه الابداعي. فقد برز الراحل كاتباً وأديباً، خصوصاً في مجال المسرح والقصة القصيرة. وقدّم خلال العصر الذهبي للمسرح المصري: "قهوة الملوك" 1958، "القضية" 1961، "الأرانب" 1963، اما مجموعاته القصصية فهي: "رجال وحديد" 1955، "ياقوت مطحون" 1966، "المجانين لا يركبون القطار" 1986. وبين مؤلفاته السياسية نشير إلى: "الميثاق الوطني: قضايا ومناقشات" 1962، "دراسات في الواقع المصري المعاصر" 1964، "حوار مع برتراند رسل وجان بول سارتر" 1968، "5 يونيو: الحقيقة والمستقبل" 1968، "ملف عبد الناصر بين اليسار المصري وتوفيق الحكيم" بالاشتراك مع الحكيم وخالد محيي الدين وآخرين - 1975، "عن الثورة، في الثورة، مع الثورة" دراسة عن الجزائر وحوار مع بومدين - 1975، "الصراع العربي الاسرائيلي عام 2000" 1987، "مدرسة السادات السياسية واليسار المصري" 1981، "الانتفاضة والدولة الفلسطينية" 1988، "عرب نعم وشرق أوسطيون" 1998. فتحي غانم: قلق وصدامات وعزلة لعلّ فتحي غانم 75 سنة هو الكاتب الاكثر قلقاً في جيله، والأكثر تطلّباً من موضوعه ولغته وروايته. وقد تكون إحدى المشاكل الأساسيّة التي عانى منها هذا الأديب الراحل أنّه كان شديد الاستقلالية، وميالاً للعزلة حتى في حياته الاجتماعية، فهو لم ينتمِ الى جيل، أو شلة، أو حزب، أو اتجاه سياسي، إلا انه كان صاحب فكر مستنير وداعياً الى الديموقراطية والنهضة، وقبل ذلك كله الى الأدب الجيد. وعُرف عنه ولعه بالفلسفة الغربية والتاريخ ولعب الشطرنج. فتحي غانم أهم روائي مصري بعد نجيب محفوظ، لكنّه لم يلقَ الاعتراف الذي لقيه صاحب الثلاثية عربياً وعالمياً. لم يلتفت الى ادبه سوى القراء فقط، فلم يكتب عنه احد تقريباً، إذا استثنينا مجلة متخصصة في الدراسات والطب النفسي، وبعض الكتابات الانطباعية في الصحف. وعلى الرغم من ان غانم حقوقي، فقد ارتبط بالصحافة اعتباراً من العام 1950 في مجلة "الفصول" ثم انتقل الى مجلة "روزاليوسف" العام 1952، ثم مجلة "آخر ساعة" في عهد محمد حسنين هيكل، وعاد الى "روز اليوسف" العام 1956، قبل أن يتولى رئاسة تحرير مجلة "صباح الخير". ثم ترأس مجلس ادارة وكالة انباء الشرق الاوسط في شباط فبراير 1966، ومجلس ادارة دار التحرير للطباعة والنشر في تشرين الثاني نوفمبر 1966 التي ظل يعمل بها حتى العام 1971. وقد استقى مادة اهم عملين له من تلك المهنة: "الرجل الذي فقد ظله" و"زينب والعرش"، إذ اجتهد كثيرون في محاولة الربط بين ابطال الروايتين ونجوم الصحافة حينذاك: محمد التابعي، محمد حسنين هيكل، مصطفى امين، احمد بهاء الدين، واحسان عبد القدوس. وقد عززت الصحافة تجذر أدبه في المجتمع الذي راح يعكس صراعاته ويصطدم به. والصدام كان جزءاً من تجربة فتحي غانم. ففي بداياته هاجم طه حسين واعتبره عقبة في طريق الادباء الجدد بسبب اسلوبه المتأنق في الكتابة. ثم هاجم يوسف السباعي، ووصفه بانه "التلميذ البليد يكتب في فوائد الحديد"، وعبد الرحمن الخميسي ومحمود امين العالم الذي كتب في "روزاليوسف" مقالاً بعنوان "النقد الأسود وفتحي غانم"! كان هذا في بداياته، ولم تترك له زاويته الصداميّة "أدب وقلة أدب" في مجلة "آخر ساعة" أي مجال لعقد صداقات أو صفقات مع النقاد والأدباء. وساهم في تلك القطيعة إصراره على ان يكون مستقلاً بشكل حازم ونهائي، ورغبته في ان يسلك طريقاً لم يسبقه إليها أحد في الكتابة، بدءاً من اللغة التي اختار أن تكون بسيطة وعادية ومباشرة، ومن الموضوع الذي لا يبدأه إلا من خلال قضية تتحداه ويقرر مواجهتها. انقطع فتحي غانم تماماً عن الأدب بين 1966 و1971، ثم عاد إليه في السبعينات بعد أن انهكته السياسة، وصدمته اتفاقات "كامب ديفيد". لكنّ رواياته ليست بعيدة عن الأدب السياسي، اذ انّها مسكونة بالصراع الذي يحرّك المجتمع بمختلف شرائحه وقطاعاته. ومن أعماله: "عيون الغرباء" مجموعة قصصية، 1997، "الجبل" 1959، "الرجل الذي فقد ظله" 1962، "زينب والعرش" 1978، "قليل من الحب كثير من العنف" 1985، "أحمد وداوود" 1989. علي الراعي : نهضة الستينات سيشعر كثير من الكتاب باليتم بعد رحيل الدكتور علي الراعي 78 سنة، إذ كان خصص وقته وجهده في السنوات الأخيرة للاهتمام بالأدب المسكوت عنه نقدياً في مصر، حتى ان بعضهم وصفه بأنه يبالغ في ابراز الكتّاب الشبان. فقد كان الراعي يفاجئ الوسط الثقافي بالكتابة عن هذا الأديب أو ذاك ممن لم يقدّمهم أحد، تماماً مثلما يكتب عن ثلاثية نجيب محفوظ. فالقيمة الابداعيّة هي المعيار الأوحد الذي كان يهمّه، أما دافعه الأساسي فكان رغبة عارمة في تقديم التجارب الجديدة، انطلاقاً من أهمية النقد ودوره في العملية الابداعية. لكن الانجاز الاساسي لعلي الراعي ارتبط بنهضة المسرح المصري في الخمسينات والستينات. فبعد حصوله على ليسانس في اللغة الانكليزية من آداب القاهرة العام 1943، وبعد عمله مذيعاً، سافر الى انكلترا العام 1951 في بعثة دراسية نال في نهايتها الدكتوراه من جامعة برمنغهام في "المصادر الفكرية والفنية لمسرح جورج برناردشو". ثم عاد الى مصر العام 1955 ليعمل مدرساً في آداب عين شمس، ورئيساً للقسم الادبي في جريدة المساء، ورئيساً لتحرير مجلة "المجلة" الصادرة عن وزارة الثقافة. وبين 1959 و1967 عمل الراعي رئيساً للهيئة العامة للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية، وهي السنوات التي يعيش مسرح الدولة في مصر على ذكراها حتى الآن. وتتم استعادة تلك المرحلة كدليل قاطع على امكان بعث هذا المسرح من جديد في اللحظة الراهنة. تسلم الراحل مسؤولية مسرح الدولة القومي، الاوبرا، فاستحدث مسرح العرائس، الفرقة القومية للفنون الشعبية، مسرح الجيب، السيرك القومي، المسرح الكوميدي، المسرح الحديث، وفرق الاقاليم... في تلك السنوات انفتح باب المسرح على مصراعيه أمام نصوص توفيق الحكيم، الفريد فرج، نعمان عاشور، عبد الرحمن الشرقاوي، سعد الدين وهبة، صلاح عبد الصبور، يوسف ادريس، رشاد رشدي وسعد الله ونوس... كما انفتح على المسرح العالمي مع وليم شكسبير، برناردشو، برتولد بريخت، لوركا، وناظم حكمت. وفي تلك السنوات تألّقت اسماء ممثلين مثل سناء جميل، عبد الله غيث، سميحة ايوب، سهير البابلي، ملك الجمل، عبد المنعم ابراهيم، شفيق نور الدين، وتوفيق الدقن، ومخرجين مثل سعد أردش، جلال الشرقاوي، كرم مطاوع، كمال ياسين، عبد الرحيم الزرقاني، حمدي غيث، فتوح نشاطي، ونبيل الالفي. كان الراعي قائداً مبدعاً لمسيرة المسرح المصري في تلك السنوات، وارتبطت مؤلفاته الرئيسية بالمسرح. واعتباراً من العام 1968 تفرغ للصحافة، وكان بين الموقعين على بيان المثقفين الشهير شباط/ فبراير 1973 الذي اغضب أنور السادات، فتم وقفه عن العمل في الصحافة مع آخرين. سافر الراعي الى جامعة الكويت استاذاً للادب المسرحي، ولم يعد إلا العام 1982. وبعد عشر سنوات فاز بجائزة الدولة التقديرية في الأدب. وتفرّغ في العقدين الأخيرين، للكتابة النقدية في مجلة "المصور" حتى 1995، ثم في صحيفة "الاهرام". اعتمد علي الراعي في كتاباته على البساطة المدهشة، وكان يحب عند المبدعين تلك البساطة نفسها، حتّى أنّه كان أميل الى تفسير الاعمال التي يكتب عنها، من النزوع الى النقد الاكاديمي. وقد بدا هذا الاختيار واضحاً في السنوات الاخيرة، بعد أن أخذ على عاتقه تقديم الرواية الجديدة التي اضاءت كتاباته الكثير من نصوصها. ومن مؤلفاته: "الكوميديا المرتجلة"، "فنون الكوميديا" "مسرح الدم والدموع"، "شخصية المحتال"، و"هموم المسرح القومي"