رحل عنا فتحي غانم في الرابع والعشرين من آذار مارس سنة 1999، وذلك منذ نحو اثني عشر عاماً وقد أحسنت لجنة القصة في المجلس الأعلى للثقافة في الاحتفاء بذكراه في آذار مارس الماضي الذي وافق الذكرى السابعة والثمانين لمولده في الرابع من آذار سنة 1924 وقد عاش فتحي غانم حياة صحافية طويلة وعريضة منذ أن عمل في"الفصول"بعد تخرجه في كلية الحقوق سنة 1944 قبل عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الثانية وعرف طريقه بعد ذلك إلى"روز اليوسف"التي ظلت بيته الأثير إلى أن فارق الدنيا وقد جذبته كتابة القصة منذ البداية بدأ بكتابة القصة القصيرة كالمعتاد، لاحقاً بجيل نجيب محفوظ الذي ولد في كانون الأول ديسمبر 1911، وكان قد أخذ يعرف طريقه إلى الشهرة مع تخرج فتحي غانم الحقوقي، وعمله في الصحافة الذي واكب بداية حياته الأدبية في الكتابة الإبداعية، وأغرى جيل فتحي غانم بالكتابة في السياق الذي سرعان ما لحق به يوسف إدريس الطبيب الشاب المولود سنة 1927 والذي اقترن ظهوره الأدبي في جريدة"المصري"الوفدية التي ضمت الطلائع اليسارية المختلفة في تكوينها عن التكوين الليبرالي الراسخ في كلية الحقوق المصرية التي خرجت أمثال لطفي السيد ومحمد حسين هيكل والسنهوري الكبير وغيرهم. ويبدو أن اندماج فتحي غانم في عالم الصحافة أتاح له من آفاق الكتابة ما جعله يمضي في طريق خاص، فلم ينشغل بعالم الطبقة الوسطى الصغيرة في أحياء القاهرة القديمة التي فتنت نجيب محفوظ قصر الشوق، السكرية، زقاق المدق، خان الخليلي، بين القصرين إلخ فانشغل بمحاولات صعود شرائحها الصغرى إلى شرائح أعلى طبقياً، وبالتحولات الاجتماعية السياسية التي تمر بها هذه الطبقة، وبالزمن الذي يقف وراء كل تطور وتغير في رحلة الأجيال التي ظلت علامة على روايات نجيب محفوظ، وزميله عبد الحميد جودة السحار إلى حد ما أما فتحي غانم فقد بهره عالم الصحافة وتحولاته وصراعاته، خصوصاً من حيث هو فضاء تمرح فيه السلطة والقوة السياسية ويختلط رأس المال بالقوة الإعلامية للصحافة، خصوصا من منظور التحالف الذي يتم فيه تبادل الأدوار واختلاطها. وقد عرف فتحي غانم الصحافة وعالمها كما لم يعرفها سوى القلة من أمثاله، وتقلب في مناصبها، فكان رئيس تحرير صباح الخير من عام 1959إلى عام 1966 ورئيس مجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط عام 1966 ورئيس تحرير الجمهورية ما بين 1966 و1971 ورئيس تحرير روز اليوسف ما بين 1973 - 1977، ووكيل نقابة الصحافيين من 1964 إلى 1968 وكلها مناصب تؤكد القدرة على إقامة علاقة ناجحة مع السلطة الناصرية والساداتية على السواء، خصوصاً في مفاصل تحولاتهما التي أدت إلى الهيمنة على الصحافة وتأميمها أو الاستيلاء عليها بلا فارق، إلى انقلاب السادات على السلطة الناصرية والتيارات التي اقترنت بها، وتحالفه مع جماعات الإسلام السياسي التي أدّت إلى ظهور التعصب الديني الذي أدى إلى الإرهاب الديني وقد عالج فتحي غانم في رواياته"الرجل الذي فقد ظله"و"زينب والعرش"تحولات الصحافة من عصر الملكية إلى عصر التسلط الناصري أما روايته العلامة"الأفيال"فقد عالج فيها ظاهرة الإرهاب الديني وكيفية تشكيل جماعاته وإعادة غسيل عقول الشباب المنجذب إليه لعوامل كثيرة وقد عاود معالجة التطرف الديني في"بنت من شبرا"، وذلك في موازاة دراسة شخصية الإرهابي السياسي وتقديمها تقديماً إبداعياً تحليلياً أصبح علامة على إبداع فتحي غانم الروائي وأولويات اهتماماته. ويمكن لفت الانتباه إلى بعض الأولويات التي جذبتني إلى أعمال فتحي غانم، ودفعتني إلى الكتابة عنه أكثر من مرة خلال حياته، خصوصاً بعد أن جمعت بيننا صداقة أعتز بها، طوال سنوات عملي أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة، فقد توليت هذا المنصب، وكان المرحوم علي الراعي رئيساً للجنة القصة في المجلس غير أنه سرعان ما رحل عن دنيانا، وترك المنصب شاغراًَ، فعرضت الأمر على فتحي غانم الذي قبل المنصب مرحباً، وكان ذلك بعد عامين - إن لم تخني الذاكرة من حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1994 وتعمقت العلاقة بيننا شيئاً فشيئاً وتعددت الجلسات التي جعلتني أقترب من عالمه الإبداعي والشخصي في آن ولعل أول ما لفتني في هذا الجانب هو غرام فتحي غانم بلعب الشطرنج، فقد كان لاعباً ماهراً لا يشق له غبار، خصوصاً من حيث رؤية العلاقات التي لم يكن يراها سواه في الحركات الممكنة عقلاً لقطع الشطرنج وإمكانات تحريكها في استراتيجيات وتكتيكات، لم تكن تكشف عن غرامه بالشطرنج فحسب، وإنما عن غرامه بمعرفة أسرار العقل الإنساني نفسه وآليات عمله الممكنة، سواء في حالة السواء المقترن بسرعة الاستجابة، حيث الدرجات الصاعدة للذكاء، أو حالة عدم السواء المقترن ببطء الاستجابة، حيث المستويات المتباينة التي تتراوح ما بين البلاهة والغباء والجنون. ومن المؤكد أن اكتشافي لذلك في علاقتي بفتحي غانم هو الذي جعلني أنظر بمنظور مختلف إلى أعمال مثل"الغبي"و"سور حديد مدبب"وكلاهما تحليل إبداعي، يستبطن شخصيات غير سوية، على نحو مختلف، وأعمق كثيراً، من معالجة نجيب محفوظ الذي سبقه إلى المقاربة الإبداعية لظاهرة الجنون في قصته"همس الجنون"لكن ما فعله فتحي غانم هو شيء فريد وغير مسبوق، وأغلب الظن غير مكرر، فهو تجربة روائية، تظل تعتمد على التحليل العميق لتراكب مستويات الذهن، ومحاولة استثنائية للنفاذ فيها وإلقاء الضوء عليها. ويبدو أن الحديث عن"الغبي"و"سور حديد مدبب"وهما عملان لا أظن أن الدراسات النقدية في الرواية قد سلطت عليهما الضوء الكافي لتفردهما يجرنا إلى"حكاية تو"وهى رواية غريبة، موضوعها ابن أحد المعتقلين وقائد السجن الذي أشرف على تعذيبه حتى الموت ويلتقي الاثنان بعد إحالة الضابط الكبير إلى المعاش، وتحول طفل السجين إلى شاب يتعرف إلى قاتل أبيه في أحد الأندية، وتعمل كتابة فتحي غانم في اقتدار سردي على الكشف عن هواجس الأول وقلقه من احتمال أن يكون الابن يغرر به للثأر لأبيه، بينما لا نعرف نحن القراء ما في عالم الابن الذي يبدو بريئاً بسيطاً بساطة كتابة فتحي غانم الخادعة التي يمكن أن يكتفي القارئ الساذج بسطحها، دون أن يتمعن في الطبقات الخفية من الدلالات المتواشجة. ويبدو أن هذا الغرام بتحريك الشخوص الروائية على مربعات سرد كل رواية على حدة، هو الذي أغرى فتحي غانم لا بالحركة الخارجية للشخصيات، وإنما بالعالم الداخلي لعقل كل شخصية منها، ومراقبة كيفية عمل هذا العقل، غوصاً في الخاص إلى العام، وفي الفردي إلى الجمعي، ولكن بما يجعل الروائي يدرك دائماً أنه، مهما غاص في أعماق الشخصية وتلافيف عقلها، فإن معرفته بها تظل نسبية، وليس ذلك لأن معرفة الروائي نفسها بشخصياته تظل محدودة، وإنما لأن المعرفة الإنسانية كلها محدودة ونسبية وأفضل طريقة للتعامل مع الواقع وشخصياته الحية، مع إدراك حدود هذه المعرفة ونسبيتها هو النظر إلى الموضوع نفسه من أكثر من زاوية، على الأقل حتى يتجلى الموضوع بتعدد أبعاده وتعدد وجهات النظر إليه. زوايا نظر وأتصور أن فتحي غانم انتهى إلى الإيمان بما ذهب إليه قبله الكاتب العالمى ألكسندر داريل صاحب"رباعيات الإسكندرية"الشهيرة، فللرباعيات موضوع واحد فضاؤه المكاني والزماني هو الزمن الاستعماري، حيث كانت الأحياء الراقية للإسكندرية فضاء لحركة أبطال مثل جوستين، وبلتازار، وماونت أوليف، وكليا في إسكندرية التي لم يعرف هذا الجانب منها أبناؤها الوطنيون، والمراد بتعدد الشخصيات هو تعدد زوايا النظر إلى الموضوع الواحد، أملاً بمعرفة أشمل بحدوده، لكن داخل الدائرة النسبية للمعرفة الإنسانية ومن المنظور نفسه جاءت رباعية"الرجل الذي فقد ظله"مسرودة من منظور أربع شخصيات مختلفة، ترتبط كلها بتعدد الزوايا إلى الرحلة الانتهازية للبطل، وقدرته الحربائية على التلون مع كل عصر، والصعود الدائم في سلم الانتهازية التي تحاول التحالف مع قطبي الثروة والسلطة الحاكمة وقدرة فتحي غانم على تقديم موازاة روائية بالغة الدلالة على تحولات ثنائية الثروة والسلطة كاشفة، لا تتردد في تعرية الكثير من جوانب العالم الصحافي الذي كان فتحي غانم أدرى الناس بدهاليزه وهو الأمر الذي فعله في"زينب والعرش"والعرش المقصود، في هذا السياق، هو عرش صاحبة الجلالة الصحافة أما زينب فهي شخصية نمطية بالمعنى الذي قصد إليه لوكاش، ولذلك فهي من الشخصيات التي نقرؤها فنعيش معها، ونتذكر تفاصيل جسدها وسلوكها لأن تفردها ينطوي على عمومية النمط الفريد، فإمكان وجودها، يجعلها دالة على غيرها، في جدل الخاص والعام ولذلك نتذكرها مثلما نتذكر محمد ناجي، أو نتذكر شخصية"يوسف". وكان فتحي غانم يؤثر هذا الاسم فأطلقه على الكثير من أبطاله، ربما ليوحي بتعدد أشكال الغواية أو تعدد أنواع الشراك التي يحوم حولها البطل، فيسقط في قرارة الغواية، أو ينجو كما نجا يوسف من تلك التي راودته عن نفسه، وهو في بيتها، وقالت هيت لك ولقد قيل إن بطل"الرجل الذي فقد ظله"كان مستلهماً من شخصية الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل ولكني أنظر إلى الأمر من منظور فني، فالنمط أو النموذج Type في الأدب الواقعي بتنوعاته لا يشير إلى شخص بعينه، وإلا فقد صفته من حيث هو نمط، ولذلك يظل منطوياً على إمكانات التشابه مع شخصيات واقعية معروفة، لكنه ليس إياها على سبيل الحقيقة، سواء كان هذا الشخص في الواقع أو غير موجود حرفياً، خصوصاً في أفق علاقة المثقفين الصحافيين تخصيصاً بالسلطة وهو موضوع من مواضيع فتحي غانم الأثيرة، كتب عنه سلسلة مقالات دالة، جمعها في كتاب له بعنوان"المثقفون والسلطة"وهو كتاب تزداد دلالته عمقاً واتساعاً إذا وضعناه في سياق واحد مع كتاب محمد حسنين هيكل الناطق باسم عبد الناصر وكاتب أهم وثائقه السياسية الميثاق عن أزمة المثقفين، فالمقارنة بين الكتابين تكشف عن أفكار صحافي كبير لازم زعيم أمة لوقت طويل، وزميل له ليبرالي الهوى، لا يستريح إلى النزعة الاستبدادية، وإن عرف كيف يتعامل معها. وأحسب، أخيراً، أن هذا الاهتمام بقراءة إبداعات الآخر ومعرفته هو الذي جعله مغرماً بتأمل كتابة الروايات العالمية وكان يقرأ بالإنكليزية والفرنسية وغرامه برواية مارسيل بروست"البحث عن الزمن الضائع"غرام دال في هذا الاتجاه وأذكر أنه أخبرني ذات يوم أنه تعود عندما تستعصي عليه الكتابة الروائية أن يفتح إحدى صفحات مارسيل بروست، ويأخذ في نسخ ما يستطيع من صفحات الرواية، إلى أن يفتح عليه مرأى الجمل التي ينقلها على ورقه الخاص شهيته للكتابة، فيتوقف عن النسخ ويواصل مجرى ما انقطع من إبداعه الروائي الذي سيظل علامة فريدة في تاريخ الرواية العربية.