منذ أقل من ثلاثة أشهر انقطع علي الراعي عن كتابة مقاله الاسبوعي صباح الاحد في "الاهرام"، وقبلها اعتذر مرات متفرقة عن عدم كتابة المقال نفسه، ثم توقف نهائياً بغيابه عن عمر ناهز تسعة وسبعين عاماً، ولد في آب/ اغسطس 1920. بغياب علي الراعي تكاد مرحلة كاملة من تاريخنا النقدي والفكري تغيب، بل يكاد يكون آخر الذين عاصروا حلقات متصلة من حياتنا الفنية والثقافية منذ الخمسينات الى الآن. نصف قرن من المسرح والرواية والنقد والعمل الفكري المتواصل. هذا هو علي الراعي الذي فقدناه. أغلب الظن أن الراعي كان بدأ في الانسحاب مختاراً، بعدما شاهد تداعي وانكسار كل القيم التي دافع عنها: مثل الجدية والنبل والاستقلال الفكري والتأصيل. والمعاني السابقة ليست إنشائية بل هي جوهر ذلك الجيل من المفكرين الذين شغلوا بتحويل تلك المعاني العامة الى عمل متواصل، وكدح لا يعرف أنصاف الحلول، أو ما يسمى بفن الممكن، كما لا يعرف المراوغة والتخفي وراء أقنعة، أو اللجوء الى حيل شتى، مثلما فعل الكثيرون، بل ظل الراعي واضحاً أقصى الوضوح في دفاعه الشرس والنبيل، ايضاً، عن القيم التي نذر حياته من أجلها. وكان الراعي ايضاً واحداً ممن أتيحت لهم الفرصة لتطبيق هذه المعاني في مؤسسات الدولة الرسمية على مدى سنوات، وخاض تجربة في العمل العام حتى اضطر - باختياره ايضاً - الى مغادرة مقعده في وظيفة مرموقة. على أي حال كان انجاز الراعي الاساسي في المسرح منذ العشرينات، حين شاهد من شرفة حجرته في مدينة الاسماعيلية ملصقاً عن فيلم جديد ليوسف وهبى مأخوذ عن مسرحية شهيرة له. كانت الألوان الصارخة للملصق هي ما جذبت انتباهه، ولم يهدأ - كما يروي في كتابه "هموم المسرح وهمومي" - قبل ان يدبر ثمن تذكرة السينما ويشاهد الفيلم . وهكذا عرف طريقه بعد ذلك، حين انتقل الى القاهرة ليلتحق بالتعليم الثانوي لمشاهدة المسرح، ثم ترجم في الفترة نفسها إحدى المسرحيات التعليمية. وبسبب تفوقه حصل على التعليم المجاني في دراسته الثانوية. والتحق الراعي بكلية الآداب وتخرج فيها في أواخر الاربعينات وعمل في بداية الأمر في الإذاعة المصرية مذيعاً ومخرجاً ما اتاح له الاحتكاك المباشر بذلك العالم الأثير لديه، حتى جاءته منحة من جامعة برمنغهام في انكلترا لدراسة المسرح، وكان البروفيسور الشهير ألاردايس نيكول من بين من ناقشوه حين اختار الراعي برناردشو ليعد اطروحته للدكتوراه. وحين عاد من بعثته كان حكام تموز يوليو عهدوا لفتحي رضوان المثقف والمنتمي الى الحزب الوطني القديم ب وزارة الارشاد القومي، وبدوره عهد فتحي رضوان الى يحيى حقي باستحداث مصلحة مستقلة للفنون يعاونه طاقم من المثقفين والمبدعين مثل نجيب محفوظ وعلي احمد باكثير وغيرهما. في مصلحة الفنون بدأت مرحلة جديدة من حياة الراعي ومن حياة المجتمع المصري والمؤسسة الثقافية الرسمية. كان "حكام يوليو" يبدأون اولى خطواتهم في الحكم وفي تأسيس دولتهم، كما كانوا ادركوا دور الثقافة في صياغة مستقبل لم يكن واضحاً تماما أمامهم. لعبت مصلحة الفنون دوراً بالغ الاهمية، بل هي التي مهدت لإنشاء وزارة الثقافة، وهي ثامن وزارة مختصة بالثقافة، ومن جانبه اسهم الراعي في انشاء أول فرقة للرقص الشعبي. كان الزمن هو زمن الشعب والفولكلور والبحث عن الجذور والتأصيل - كما اسهم في انشاء عدد من الفرق الموسيقية وتولى مؤسسة المسرح حوالى سبع سنوات بدءاً من عام 1957، تلك كانت سنوات الازدهار، فالدولة ترعى الفنون وتدعمها وتقدمها ايضاً. وهنا كانت صدامات الراعي الاولى مع المؤسسة، وعانى من تدخلات الرقابة - كما يروي في شهادته في كتابه "هموم المسرح وهمومي" - خصوصاً في مسرحية "الفتى مهران" لعبدالرحمن الشرقاوي. واستمر عمل الراعي في مؤسسة المسرح اثناء تولي ثروت عكاشة وزارة الثقافة، وعلى يديه اقيم مسرح العرائس وفرقة الفنون الشعبية وفرق المسرح المختلفة. وأغلب الظن أنه أدرك على نحو ما ان هناك سقفاً لكل شيء، وأن الدولة لها مصالحها وأجهزتها على هذه المصالح، فقدم استقالته ليعود الى عمله التنظيري والفكري الذي كان أجله بعدما اصدر كتابيه الاولين: "مسرح برناردشو" و "دراسات في الرواية المصرية". وفي السبعينيات تلقى دعوة من الكويت لزيارة معهد المسرح الذي كان زكي طليمات انشأه هناك، وقضى الراعي تسع سنوات متصلة هناك، حيث قام بتطوير هذا المعهد وتحويله من معهد يماثل المرحلة الثانوية الى معهد عالٍ، وبجهوده مع سعد اردش وكرم مطاوع اقيم اول مؤتمر للمسرح العربي. وفي هذه الفترة شارك الراعي بنصيب وافر في العمل الثقافي والفني من خلال التلفزيون والصحافة. ولعل احد أهم انجازات الراعي كتبه الثلاثة المتتالية حول المسرح والتي أصّل فيها هوية مسرح عربي وهي الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري، وفنون الكوميديا من خيال الظل الى نجيب الريحاني، ومسرح الدم والدموع، في هذه الكتب الثلاثة تحديداً تتجسد رؤية الراعي وعمله النقدي التأصيلي، فقد عاد الى الأشكال والصياغات والأساليب الاولى للمسرح في مصر - على نحو غير مسبوق - وأعاد اكتشاف البدايات. اما "جداريته" المسماة "المسرح في الوطن العربي" فتعد ايضاً احد اهم الوثائق التاريخية للمسرح في المشرق والمغرب العربيين، فبعد تجربته في الكويت وزياراته المتعددة للمسرح في المغرب وتونس، قدم اول "جدارية" عن واقع المسرح العربي. وعندما عاد الى مصر كتب فترة في مجلة "روزاليوسف" مقالات يتابع من خلالها حياتنا المسرحية والفنية، قبل ان ينتقل في النصف الثاني من الثمانينات الى مجلة "المصور" ليكتب مقاله الاسبوعي. وفي "المصور" اكتشف الراعي عدداً واسعاً من الكتاب الذين كانوا ينشرون اوائل أعمالهم القصصية والروائية.. والراعي احد النقاد النادرين الذين لا يهتمون بالكاتب بل بالنص والنص وحده. بالطبع قد يبدو هذا أمراً مفروغاً منه، أي ان النص هو الذي يقدم الكاتب، وليس العكس، ولكن في عالم ادارة الاعمال والمصالح المتبادلة والمكاسب الرخيصة كان الراعي نسيجاً مختلفاً. لم يتوقف إسهام الراحل عند المسرح، فقد اصدر بعد ذلك "جداريته" الثانية "الرواية في الوطن العربي" وهي بدورها مسح شامل لأكثر من سبعين رواية عربية من كل الأقطار قدمها بمدخل تحت عنوان "المجد للرواية العربية". لفت فيها الانتباه الى الازدهار الذي شهدته الرواية العربية، والدور الذي بدأت تلعبه في حياتنا المعاصرة. بعدها انتقل الى "الاهرام" كاتباً متفرغاً يكتب مقاله الاسبوعي ويتابع من خلاله الاعمال الإبداعية الجديدة ويقدمها بدأب وإصرار وبلغة تتسم بالوضوح الناصع، فقد كان مدركاً الدور الذي تلعبه الصحافة التي يقرأها القارئ العادي. ثم قدم شهادته الأخيرة "هموم المسرح وهمومي" قبل ان يبدأ في انسحابه المنظم من الحياة العامة واعتكافه الاختياري واعتذاره عن كل الدعوات التي توجه اليه. علي الراعي واحد من آخر "الحرس القديم" الذي ادرك حجم الزيف والكاريكاتورية الرخيصة التي تحيط بحياتنا الثقافية، خصوصا بعد ان تولى لمرة واحدة رئاسة مهرجان المسرح التجريبي وعرف الى أي مدى من الانحدار وصلنا. هل كانت مصادفة ألا يحضر مسؤول رسمي واحد عزاءه، وهل كانت مصادفة ايضا هذا العزاء الهزيل. حتى صحيفة "الاهرام"، التي كان يعمل فيها، اكتفت بنشر خبر صغير من عدة أسطر؟