في هذه الحلقة يتحدث الدكتور حسن الترابي رئيس المجلس الوطني السوداني البرلمان عن نشأته ودراسته في السودان ثم احتكاكه بالغرب ونشأة الحركة الاسلامية في بلاده وسقوط اول ديكتاتورية عسكرية في سودان ما بعد الاستقلال. وهنا نص الحلقة الأخيرة: أين ولدت ومتى؟ - كان أبي قاضياً يتنقل في السودان، ولدت في الرابع والعشرين من رمضان عام 1350 هجرية الاول من فبراير/ شباط 1932 في مدينة كسلا في الشرق. وهي ليست بلد أصل الأسرة التي تنتمي الى قرية ودالترابي على بعد 84 كيلومتراً الى جنوبالخرطوم وتنسب الى الجد السابع او الثامن للاجيال الحاضرة. المغزى من نشأتي انني كنت اتحرك مع تنقلات والدي، اذ بدأت وعيي في مدينة النهود في الغرب وبدأت التعليم الاولي في أم روابة في كردفان غرب وأتممته في الروصيرص وهي في اقصى الشرق. وبعد ذلك انتقل والدي الى شمال السودان، الى أبو حمد في صحراء العتمور وتابعته هناك لكنني كنت اعود الى المدرسة. يحكى الكثير عن ان والدك اعطاكم عدة تعليمية وثقافية مهمة. ماذا علّمكم؟ - كان اول الدفعة الاولى من خريجي المعهد العلمي العالي في ام درمان في العام 1925، وهو معهد ديني عالٍ تسمى شهادته الشهادة العالمية. وكان يتجرد من المجتمع ويتباعد من الناس لانه كان قاضياً لا يريد ان يصل نفسه بالعلاقات ليجرد وظيفته من الشبهات. وكان من علماء تلك الايام وألقى عليَّ بكل منهجه العلمي. وما يسميه الناس عطلة مدرسية كان هو الشغل بالنسبة اليّ. وكانت ايام المدرسة أخفُ عليّ وكانت راحتي في موسم الدراسة لا موسم العيش معه لأنك في اوقات الدراسة قد تراجع عندما يقترب الامتحان اما معه فالعمل متواصل. ماذا علّمك؟ - اولاً، اللغة العربية كلها والى اقصى درجات النحو فيها. حفظت كل المنظومات المعروفة مثل الألفية والمنظومات الصرفية التي لا تدرّس الآن. والصرف مهم في تكويني، وكذلك البلاغة ومنظوماتها وكتب العروض والقوافي والشعر والاوزان وحفظ المعلّقات، ليس كلها، لكن غالبها. وبعد ذلك كتب الفقه. في أي عمر بدأ هذا البرنامج؟ - في عمر 12 عاماً كنت احسن من أساتذتي في اللغة العربية في المدرسة، شعراً وصرفاً ونحواً وأدباً ولغة. ومن الجانب الآخر كانت الدروس الدينية كلها، تفسيراً وفقهاً وعقيدة. والأمران فتحا امامي حب اللغة العربية الذي ما زال متمكناً فيَّ، وحبب الى التقاط اللغات الاخرى. ومستواي في اللغة الانكليزية لم يكن من والدي، بل من اخوتي الكبار، مما جعلني في مستوى افضل من مستوى المرحلة التي كنت فيها. وكنت اقفز سنوات في مراحل التعليم. أين بدأت تعليمك في المدارس؟ - قبلت في مدرسة مدينة النهود لكنني دخلت المدرسة في أم روابة واكملتها في الروصيرص وهذه مسافة تصل الى آلاف الكيلومترات. والمرحلة الثانوية. - كانت في مدرسة حنتوب، شرق مدينة ودمدني. وقبلها درست المرحلة الوسطى بين مدينة رفاعة وودمدني. ثانوية حنتوب صنع فيها مستقبل السودان. - لم تكن في البلاد الا مدرستان ثانويتان واحدة هي وادي سيدنا وواحدة في حنتوب. كم كان عمرك عندما دخلت حنتوب؟ - بين 14 و15 عاماً. وكانت غالبية اساتذة المدرسة من البريطانيين، عدا قلة. من هم اشهر من بروزا في السياسة ممن زاملتهم؟ - كان هناك الرئيس السابق جعفر نميري الذي عرفته في السكن الداخلي في داخلية تسمى ابو عنجة. وقادة الشيوعيين هناك ومنهم محمد ابراهيم نقد الامين العام للحزب الشيوعي. الاحزاب التقليدية لم يكن فيها تعليم، كان كثيرون من ابناء أسر من الاحزاب لكنهم يتجردون منها مباشرة، وكانت الشيوعية متمكنة. رياض لا أفكار ألم يستهوك الفكر الشيوعي؟ - تعرضت للشيوعية قبل ان أتعرض لصحوة الاسلام. كان الاسلام تراثاً جامداً في نفسي. تعرضت للشيوعية مع بعض اصدقائي وزملائي. هل حاول نقد تجنيدك؟ - لا، اشخاص آخرون قدموا لي كتباً مثل كتب خالد محمد خالد وجادلوني، لكن مستواي الفكري جعل من العسير عليهم اقناعي، بالعكس كنت اجادل مباشرة. هذا العرض جردني منها، وحصّنني وزوّدني حججاً ونقداً للمعروضات؟ كيف كان نميري؟ - كان لاعباً ناشطاً في جميع مجالات الرياضة سباحة وجرياً وكرة، لكنه كان في الدروس صفراً. هل كانت له اسئلة فكرية؟ - لا، ابداً. ومحمد ابراهيم نقد؟ - هو الرجل نفسه الآن، اقرب الى التفكير منه الى العمل السياسي. وخرج من حنتوب الى اوروبا. والحركة الاسلامية؟ - لم تكن دخلت بعد، الشيوعية سبقتها الى المدرسة. في هذه المرحلة من العمر يكون الفرد معجباً برموز وقادة وابطال. بمن كنت معجباً؟ - من كثرة التراث في البيت والمدرسة لم أرتهن لأحد أصوب عليه اهتمامي. هل كنت تحب المتنبي؟ - كنت أؤلف شعراً وأعلم موازنته وكنت اطالع الرسالة مثلاً واحفظ الشعر الجاهلي والحديث شعر المتنبي وشوقي. مراكزي الشعرية كانت من الجاهليين الى المتنبي الى شوقي. هل له تقدير خاص عندك؟ - لغوياً، نعم. ولعل رحلاته وتحركه الكثير ساعدت نفسي على التحرك في حياتي وحركة الوالد من بلد الى بلد جعلتني لا أرتهن لقبيلة او لمحل. وشوقي كان كذلك. لم أتعلق بزعيم معيّن لكنني كنت التقط منهم جميعاً. ومكتبة المدرسة كانت غنية جداً وكنت أقرأ فيها الموسوعات وكان لي صحيفة ثقافية مشتركة مع زميل. أي نوع من الشعر كتبت في هذه المرحلة، الغزل مثلاً؟ - على رغم ان الشعراء الذين كنت أتعلّم منهم يبدأون بالغزل، الا انني لم افعل ذلك. كنت افكر في نهضة بالمجتمع وبنفسي. هل كنت تلعب الكرة مع نميري؟ - نعم. ونُقُد؟ - لم يكن يلعب الكرة. كيف كانت العلاقة بين نُقُد ونميري؟ - سكنهما الداخلي كان مختلفاً. كم كان عدد الطلاب؟ - نحو 500 طالب في مدرسة حكومية. وكنا كلنا في السكن الداخلي. هل هناك اشياء اخرى مهمة في هذه المرحلة؟ - هناك الاضرابات. بدأناها في المرحلة الوسطى ضد اساتذة بائسين في ادائهم العلمي، وكنا نتفنن فيها مثل وضع قسم نقول ان لا كفارة بعده لنسدّ طريق التراجع امام بعض الزملاء. ومثل ان تكون التوقيعات على شكل دائري حتى لا تخص ادارة المدرسة احداً بالعقاب من دون غيره. وفي المرحلة المتوسطة بدأ محمود محمد طه زعيم الحزب الجمهوري الاشتراكي الذي أُعدم في عهد نميري يتنبأ. وكانت تراوده فكرة النبوة وترقى في آخر حياته نحو الالوهية وقصته مشهورة. بدأ هذا الامر في رفاعة حيث كنت ادرس ودخلنا في حملة ضده وغزونا الحصاحيصا عبر النيل وكسرنا مركز المفتش البريطاني والادارة والشرطة. في اي عام كان ذلك؟ - في منتصف الاربعينات. وبعد حنتوب؟ - قفزت عاماً في حنتوب وتقدمت سنة وكنت معقداً من الامر لأن الآخرين درسوا سنة لم أعشها مثلهم. وكان الوالد حينذاك عاد الى بلده في ود الترابي وبدأت اعمل في الزراعة لسنوات طويلة وكنت أبني البيوت. هذا الامر بدأ منذ المرحلة الوسطى. اعطاني هذا تجربة عمل مباشرة ودراسة ولم يكن عندي وقت للتحضير لسنة قفزتها. لكن على رغم ذلك، وبحمد الله، حصلت على الشهادة الاولى. كيف دخلت الجامعة؟ - تحيّرت بهذه الشهادة الممتازة، هل أدخل الطب ام اللغة. ودخلت كلية القانون كمنطقة محايدة. وبمجرد دخولنا الجامعة كان النشاط الشيوعي قوياً وكانت هناك حركة اسلامية تمثل نوعاً من رد الفعل على هذا النشاط تسمى "حركة التحرير الاسلامي". هذا كان قبل الاستقلال. وكانت الشيوعية "تسمى حركة التحرر الوطني" لأن الروس لا يعترفون بحزب شيوعي في بلد لم يستقل بعد. وهذه سميت "حركة التحرير الاسلامي" ضدها. وسبقني الى هذه الحركة أناس دعوني الى الدخول فيها. تهرّبت في البداية لكنني دخلت في النهاية. هذا كان في اوائل الخمسينات. هل هذه الحركة هي جماعة "الاخوان المسلمين"؟ - لا، كانت تأخذ من كتب "الاخوان" ومن كتّاب شمال افريقيا مثل مالك بن نبي وكتب مترجمة عن ابو الأعلى المودودي وكانت تدخل في الاصول مباشرة. لكن الفرق بينها وبين ثقافتي القديمة هي قدرتها على احياء هذه الثقافة التي كانت كالمحفوظات الجامدة فاستيقظت كلها. بدأت المعارك مع الشيوعيين في الجامعة. - كانت معارك حادة جداً. حركتنا كانت صغيرة جداً في حين كان الشيوعيين يسيطرون على المناخ. وكان عسيراً ان تقف ضدهم الا اذا كنت جريئاً جداً. المنافسة مع الشيوعيين والتظاهرات؟ - كانت تظاهرات وطنية ايام الاستقلال وكنا ننافس الشيوعيين وزلزلنا عليهم قاعدتهم الطلابية تماماً. كانت السيطرة لهم لكن جاء حين في وقت الاستقلال تجنبوا فيه الحديث عن الاستقلال فقلبنا عليهم الطلاب. ولم يكن هناك عنف. من كان رمز الشيوعيين البارزين؟ - اعداد، غالبهم ترك الشيوعية الآن. كانت هناك صراعات حادة وكان هناك مستقلون وموالون للبريطانيين هم انكليز في زيّهم وسلوكهم.. ثلاث قوى عملياً؟ - نعم، واستمرت لفترة طويلة. متى تخرّجت من الجامعة؟ - العام 1955. قبل الاستقلال بعام. ماذا فعلت خلال هذا العام؟ - على رغم انني كنت ضد البريطانيين في ثقافتي وكانوا هم ضدي، الا ان بريطانياً آخر لا يعمل بذلك كان في ادارة الجامعة عينني مباشرة بعد شهادتي، لأن شهادتي كانت الاولى، استاذاً في الجامعة. حصل ذلك على رغم ان آخرين قالوا لي لن تجد مكاناً في هذه الجامعة. وعندما جاؤوا وجدوني اجلس مساعداً للتدريس استعد للذهاب الى بريطانيا للدراسة. سافرت الى بريطانيا وحضرت الاستقلال فيها. الدراسة في كلية القانون كانت خفيفة جداً عليّ فأتاحت لي فرصة دخول المكتبات ومتابعة مناهج طلاب الشريعة. الدراسة الرسمية لم تكلفني عناء كثيراً. الى أي جامعة بريطانية ذهبت وكم أمضيت؟ - جامعة لندن وقضيت فيها عامين لإعداد الماجستير. جمعيات في بريطانيا كيف كان الاتصال بالغرب؟ - أول ما عملناه كان أن تجمعنا في مجموعة إسلامية صغيرة في مسجد صغير في لندن أصبح الآن مسجداً كبيراً. وأقمنا جماعة إسلامية في الجامعة، وجمعيات لنصرة الجزائر وقضايا أخرى كثيرة. هل كانت هذه أول جمعية إسلامية جامعية في بريطانيا؟ - نعم. تجمعنا وأقمنا حلقات إسلامية وجمعيات، منها الجبهة الإسلامية لنصرة الجزائر مع آسيويين. درست دراسات عميقة ولم أكن أقرأ المقررات فقط، بل كل شيء من صحف وكتب في المكتبات. وأصبحت سكرتيراً لاتحاد الطلاب السودانيين في بريطانيا. بالانتخاب؟ - نعم. وعلى رغم ان الغالبية كانت من الشيوعيين وان الرئيس كان يسارياً، وكان الصادق المهدي عضواً في اللجنة حين كان يدرس في جامعة اوكسفورد، سافرنا هو وأنا ومعنا اثنان آخران إلى براغ إلى منظمة كانت شيوعية هي الاتحاد العالمي للطلاب في العام 1956 أو 1957. وهناك التقيت صديقاً لي منذ ذلك الحين وحتى الآن هو ياسر عرفات. هو جاء من اتحاد الطلاب الفلسطينيين في مصر وكان وفدهم لا يتكلم الانكليزية ولا يحسن العمل الطلابي. وتبنينا نحن القضية الفلسطينية في المؤتمر. صداقتنا بدأت هناك. أقمنا علاقات مع طلاب من كل أنحاء العالم. هذا العمل العالمي جمعنا مع آخرين. والتقيت هناك مصطفى السباعي وكان المراقب العام للاخوان المسلمين في سورية، وهو عالم كان يقود الحركة الإسلامية في سورية. كنت اتحرك معه وأقوم بمهمات الترجمة. هل قابلت الصادق المهدي هناك؟ - لا، كان طالباً معنا في جامعة الخرطوم لبعض الوقت. واضطر إلى ترك الجامعة بعد حوادث آذار مارس قبل الاستقلال، إذ تجمع الأنصار لدى زيارة الرئيس المصري السابق محمد نجيب الذي اضطر للخروج من بوابة أخرى للمطار. وحاولوا الهجوم على القصر الجمهوري واطلق الرصاص ومات عدد كبير. الصادق خرج بعد ذلك من الجامعة. هو طبعاً تربى تربية أخرى. وعلاقتك مع ياسر عرفات لا تزال جيدة؟ - إلى الآن. على رغم اتفاق أوسلو؟ - إينما التقيته في أي مكان نجتمع. وكلما جاء السودان يزورني في بيتي. هل اختلفتما؟ - نعم حصل ان اختلفنا في مواقف. هو كان في الماضي إسلامياً في أيام حركة "فتح" الأولى التي كانت إسلامية، لكنه عندما دخل إلى نادي الحكام تغيّر وبدأ موقفه يتبدل عن مواقفه الأولى. لكن علاقتنا استمرت ونحن نلتقي باستمرار. هل هو زعيم مهم؟ - طبعاً، هو بالنسبة إلى العالم كان رمزاً جديداً لانتفاضة فلسطينية وأصبح بعد ذلك هو الذي يمثل فلسطين تماماً، ومعه آخرون حتى الذين قتلوا في تونس مثل أبو جهاد. هل تقوم بوساطات حالياً بين "حماس" والسلطة الفلسطينية؟ - قمنا بوساطة في الخرطوم، وفي مرة تالية تعسر عليه ان يأتي إلى الخرطوم لأنه سيغضب بلداناً عربية وغربية كثيرة، لذا أحاول التوسط بالمراسلات. عندما عرفته لم تكن "حماس" موجودة. ألم يستهوك الغرب بديموقراطيته وعيشه؟ - درست تجاربه السياسية والاقتصادية، أما تجاربه الاجتماعية فلم تستهوني أصلاً. احتقرت منهجه الاجتماعي المنقبض الذي لا يعرف ضيفاً ولا زائراً. واستهجنت منهج المرأة التي ينصرف غالب جهدها إلى إبراز جسدها وليس شخصها، فباتت أداة للدعاية. هل نستطيع القول إنك تكره الغرب؟ - لا أكرهه. أنا ناقد لا أكره ولا أحب. لا أترك لعاطفتي أن تجنح بيّ، فأحب وأعمى عن عيوب أو أكره فأعمى عن حسنات. لست عاطفياً؟ - لا. هل أنت قاسي القلب؟ - لا اظن ذلك. هل نشأت علاقة قوية بينك وبين الصادق المهدي في لندن؟ - نعم. هل كان هناك تنافس بينكما في تلك المرحلة؟ - لا، بالعكس كان هناك تفاوض معه ومع عمه أحمد المهدي. وكان يزورني ونتناقش في جميع القضايا. كانت عنده أفكار يسارية تروتسكية، واوكسفورد كانت بلد الأزياء الفكرية. تجربة بريطانيا أنضجت في داخلي الالتزام الإسلامي وترجمته إلى رؤى مفصلة للحياة. درست بمنحة؟ - كنت مبعوثاً من الجامعة، وعدت في العام 1957 لأعين استاذاً فيها. هل بدأت هنا العلاقة مع "الاخوان المسلمين"؟ - في بريطانيا أقمت علاقات عالمية إسلامية، و"حركة التحرير الإسلامي" سميت "الاخوان المسلمين" قبل أن اسافر إلى بريطانيا. وجلسنا في مؤتمرها التأسيسي الأول. والشيوعيون هم الذين سلطوا علينا اسم "الاخوان المسلمين" حتى يسلطوا علينا الاعلام المصري الذي كان طاغياً في السودان وكان ضد "الاخوان". يعني انك انتميت إلى "الاخوان" في العام 1955؟ - لا، هي حركة واحدة. لا صلة لها بتلك، هي حركة التحرير الإسلامي. تسمية "الاخوان" لم تكونوا جزءاً من حركة "الاخوان المسلمين"؟ - الشيوعيون هم الذين سمونا "الاخوان المسلمين" بهدف إثارة الاعلام المصري ضدنا، وقلنا نقبل التحدي. اسمنا الأول كان سرياً. حركتكم لم تأت من "الاخوان المسلمين" في مصر؟ - كان هناك طلاب درسوا في مصر. نحن جئنا من المدارس الثانوية وجامعة الخرطوم. وعندما كنت في الجامعة مثلاً كنت أرعى تنظيمنا في عدد من المدارس الثانوية، وكذلك كان آخرون. لم تكن لدينا عضوية خارج المدارس. عدت، وحدث انقلاب عبود... - عندما عدت كانت البلاد تنعم بحرية، وفي الجامعة بدأت معركة التعريب وكانت معركة حادة مع الخط البريطاني. مدير الجامعة كان سودانياً، لكنه كان لا يستطيع مقاومة البريطانيين. أنا قاومتهم وعرّبت بعض ما أُدرسه، على رغم ان لغتي الانكليزية كانت متقدمة جداً، أردت الأمر تعبيراً عن اصالة وأردت ان أغير المنهج، كانت معارك مع البريطانيين في الجامعة. القومية العربية كلمة بلا مضمون وماذا كان موقف الشيوعيين؟ - المعارك معهم كانت في الساحة الخارجية، في ذلك الوقت كانوا أمامنا وكنا نحاول أن نلحق بهم. وبدأنا نذهب حيثما ذهبوا. اهتموا بالعمال ففعلنا الشيء ذاته، وكذلك مع الحركة النسوية، وفي النقابات. كنا نلاحق التحدي. وفي الحركة العمالية مثلاً كنا نتحالف مع الأحزاب ضد الشيوعيين. لم تكن لها قوة كبيرة في هذه الأوساط لكننا كنا نحاول. هل اعجبت بالرئيس جمال عبدالناصر؟ - أنا اعجبت بالذي قاد الثورة الرئيس محمد نجيب، ليس لأنه كان يحمل دماً سودانياً، ولكن لأنه كان رجلاً قوياً وراشداً. والثورية لا تدعو إلى الطيش. عبدالناصر كان يدعو إلى قومية عربية، وكنا نتجرد من القومية الافريقية والعربية. لم تعجب به في أية مرحلة؟ - أعرف صدامه مع البريطانيين ودوره في العالم العربي. لكنني لم اعجب به وكنت أقدّر أن هذه دفعة بغير مضمون يمكن ان تحمل الناس وينتفخوا لكن إذا نفّستهم لن تجد شيئاً بعد ذلك. هذا كان ظني. هل تأثر موقفك من عبدالناصر بموقفه من "الاخوان" في مصر؟ - ليس بهذه الدرجة ولا بموقفه من الغرب ودخوله مع الأميركيين ضد البريطانيين ثم استقلاله عن الغرب. وعلى رغم ان موقفه في الساحة العربية كان مختلفاً، كان رأيي أن ما يفعله تفتيت للعالم العربي من أجل كلمة. القومية العربية كلمة ليس لها مضمون. ما هو منهجها السياسي أو الاقتصادي أو الفكري؟ هي فقط عرب يجتمعون معاً مثل القبيلة. هي قبيلة واسعة. هل دخلت الحركة الإسلامية الانتخابات؟ - لم تكن لدينا قوة ندخل بها الانتخابات. كانت حركة دستور إسلامي وحملتنا، كانت حملة الدستور الإسلامي، وقلنا إننا لن نترشح وندعو المرشحين إلى تأييد الدعوة إلى الدستور الإسلامي. مع من تحالفتم في هذه المرحلة؟ - مع رجال علماء ووطنيين كانوا يتحمسون لمشروعنا. لكن معظم السودانيين في الساحة لم يكونوا يعرفون شيئاً اسمه عمل سياسي إسلامي. والطوائف التي كانت تقود الأحزاب كان بعضها يكرهنا أكثر مما يكره الشيوعيين ويقول لنفسه: إذا أتى هؤلاء بالإسلام فسيسحبون البساط من تحت أقدامنا. لم نجد حماساً من قيادات الأحزاب للدستور الإسلامي. سقطت التجربة الديموقراطية وأتى حكم الفريق إبراهيم عبود. أين كنت حينذاك؟ - كنت في الجامعة. ولم أتعرض لشيء. وكان الناس قد زهدوا في أحزابهم واستقبلوا عبود بارتياح لفرط ما رأوا من فساد واضطراب وحكومات تأتلف وتختلف وحزب ينشق. حزب اتحادي مع مصر ترك الاتحادية وصار مع الاستقلال ثم انشق بين الرجال الذين حملوا السياسة وبين رجل الدين والطائفة. وتحدثوا عن صراع القداسة والسياسة. حصلت نزعة علمانية وصراع بين السياسة والدين لكنها لم تكن علمانية واعية. الرئيس اسماعيل الأزهري الذي قاد السياسة كان متديناً جداً، هو قاد حركة الاستقلال ثم قاد حركة الاستقلال بالحزب عن الطائفة. المحطة الفرنسية وذهبت الى السوربون. - بدأت أتعلم الفرنسية منذ أيامي في بريطانيا لأني أحب اللغات. وعندما رغبت في دراسة الدكتوراه في فرنسا قاومني البريطانيون في الجامعة مقاومة شديدة، لم يكن هناك مخرج، هم يحتكرون كل اللجان الاكاديمية وبعد معارك حادة استطعت ان أفلت منهم الى فرنسا. وعندما ذهبت الى فرنسا لم أجد سودانيين سوى سفارة ليس فيها من السودان شيء. كنت أقرأ لكنني لم أكن أتكلم الفرنسية. كانت مشقات عسيرة. كان علي أن أذهب الى الفصل مباشرة وفي الأيام الأولى كنت أفهم بعض كلام الاساتذة ولا أفهم الباقي. كنت أقرأ لكنني لم أكن أنطق اللغة. حاولت ان أجمع كل الفرنسية في وقت وجيز، الأمر الثاني بدأت أبحث علني أجد بعض الطلاب الاسلاميين. لكن هذا الأمر كان أعسر علي من بريطانيا. طلاب شمال افريقيا كانوا يسمونهم المسلمين، لكن غالبتيهم كانت من الشيوعيين. في بريطانيا كانوا قوميين عرباً، أما في فرنسا فهم من شمال افريقيا يساريون ولا يتحدثون العربية. ذهبت الى باريس عام 1959، كم بقيت فيها؟ - في تلك السنوات العسيرة أقمنا أول جمعية اسلامية في باريس بإذن من مجلس الوزراء طبعاً. فرنسا ليس كبريطانيا، ففي الأخيرة الإنسان حر ولا يستأذن أحداً لإنشاء جمعية والمهم ان الجمعية ضمت عدداً من الطلاب بعضهم من الشرق. وغالبيتهم من لبنان وسورية ومن افريقيا. وكانت أول جمعية اسلامية للطلاب. وكذلك في بريطانيا؟ - في بريطانيا تكاثرت بعد ذلك، وأيضاً في فرنسا، كنا نتعامل مع سعيد رمضان من "الاخوان المسلمين" فقد أقام مركزاً وكنا نذهب الىه ومعه سودانيون يعملون في المكتب. كان نشاطي في المجال الاسلامي في فرنسا فكرياً، الجزائر كانت مضروبة لكن لا أحد كان يجرؤ على إقامة جمعية مع الجزائر. وكان لا بد ان استكمل الدراسة ليس فقط لأنال الدكتوراه، لكنني كنت أريد ان أجمع الثقافة الفرنسية القانونية والتاريخية والدينية، خصوصاً الصراع بين الدين والحكم في فرنسا والثورة الفرنسية. الطلاب حولي، ومنهم المصريون، كانوا يستغربون أنني لا أقرأ في المقرر. ويقولون ما هي الرسالة التي تعدها، فأقول لهم أنا جئت الى فرنسا من أجل الثقافة لا من أجل الشهادة. أعددت دكتوراه في القانون الدولي؟ - دكتوراه دولة في أحكام الأزمات الدستورية والقضائية، أي إذا حصلت حرب أو أزمات اقتصادية وأمنية، ماذا تفعل الحكومات في كل العالم. قارنتها كلها. تعودت على صياغة الدساتير وفقاً للأزمات؟ - منذ عهدي ببريطانيا بدأت أدرس الدساتير الاتحادية المقارنة. ورجعت الى السودان؟ - رجعت قبل الرسالة ودرست في الجامعة عاماً. وكانت هناك معارك حادة في أيام عبود، وأقمنا نهضة كبيرة في الحركة الاسلامية شبه سرية، ثم عدت الى فرنسا وأكملت الشهادة. متى عدت الى السودان؟ - عدت نهائياً في العام 1964. قبل ثورة اكتوبر؟ - ظننت أنني سأكون استاذاً، وحضرت كل خططي للتدريس وكنت الاستاذ السوداني الوحيد أمام الناس، كنت رئيس شعبة، أخرجنا الانكليز من الجامعة وأصبحت عميداً للكلية. وجاءت الثورة، دعيت الى ندوة نظمتها جمعية اجتماعية للحديث عن قضية الجنوب التي استعصت على عبود وجماعته. حولتها من قضية اجتماعية الى قضية سياسية، لم يكن أحد يجرؤ على ذلك. عن قضية الجنوب؟ - قضية السودان ليست في الجنوب وحده. في موضوع الجنوب طرحت قضية الحكم الاقليمي وفي شأن السودان كله، طرحت قضية الحريات والدستور. وبدأت الثورة. الطلاب بدأوا الثورة وكنا من قوى الطلاب، والطلاب كانوا اسلاميين ونحن كأساتذة كنا نقود الطلاب. وكنت أقود الاساتذة من مكتبي، كان الأمر صعباً عليهم لكننا بدأنا توجيه المذكرات الى الدولة. الثورة كانت في الجامعة، في ذلك الوقت كانت الأوضاع انقلبت، فالغالبية داخل الجامعة والشيوعيون لم يسمعوا بالثورة، كانوا متعاطفين مع حكومة عبود بعد زيارة ليونيد بريجنيف وحصل ود بينهم وبين الحكومة. من الذي حرك الثورة؟ - أقول كل الحقيقة، نحن في الحركة الاسلامية قررنا تحريك عمل ثوري، ووزعنا عدداً من المنشورات لم تكن تحمل اسمنا في أوساط العمال والمزارعين والموظفين. كانت باسم "الحركة الاسلامية". نحن حركنا هذه القطاعات. وأين كانت الاحزاب التقليدية؟ - كنا نبحث عنهم في الليل لنخرجهم الى التظاهرات؟ ألم يشاركوا؟ - في النهاية عندما اقترب عبود من الاستسلام واستشهد أحد للطلاب حملته أنا الى المستشفى. كنا نقود التظاهرات الطلابية التي حصل فيها الضرب والندوات. استلفت سيارة من أحد الاساتذة وكنت أنقل بها الطلاب المصابين الى المستشفى. الاساتذة أبعدوا انفسهم قليلاً. نحن قدنا التظاهرة الرئيسية التي فجرت الثورة في اليوم التالي لاستشهاد الطالب، وبمجرد اشتعال النيران في السيارات بدأت الثورة، عندما كان الاستعداد لإرسال الجثمان الى أهله في النيل الأبيض. وبعد ذلك بدأت المذكرات والثورة في القضائية. من قاد التظاهرة الرئيسية؟ - نحن الاساتذة والطلاب. ذهبت الى الصادق المهدي ليلاً واخبرته اننا سننظم تظاهرة في الغد، وذهبت الى الأزهري لكنني لم أقل له عن التظاهرة تحديداً. وشارك الصادق المهدي وقدمته للصلاة على الجنازة. وبدأنا بعد ذلك بالحديث في الميكروفونات. وبمجرد اشتعال النيران بدأت الثورة، ونزلت كل الاحزاب الى الساحة. أنتم فجرتم الثورة وهم انضموا اليها؟ - لم يكن عندنا وزن خاص بنا، وزننا في الساحة العامة ان ننظم تظاهرات وان نهاجم الحكومة وان نهيج الجامعات، تحدثنا مع العمال والمزارعين. والشيوعيون، ماذا كان دورهم؟ - كانوا مستغربين، وبعد حدوثها استدركوا الأمر وبدأوا في إقامة الهيئات وسرقوها. هم أذكى منا في الثورات لأن عندهم أدب ثورات لكننا لم نكن نعرف أدب الثورات. وافقتم على المشاركة في الحكم بعد الثورة؟ - نعم، كان حكماً انتقالياً. كان يمثلنا الدكتور محمد صالح عمر وبعد شهر جاء بدلاً منه الرشيد الطاهر. وكان هناك ممثل للحزب الشيوعي