تحلقنا حول التلفزيون في سجن كوبر وابتهج الترابي بانهيار المعسكر الاشتراكي الحزبان الكبيران و"الاخوان" تنكروا لمبادئ ثورة اكتوبر قصة تأسيس الحزب الشيوعي السوداني كيف تأسس الحزب الشيوعي السوداني وأين كان في المحطات البارزة التي أعقبت الاستقلال وأين تكمن خصوصية تجربته وكيف استقبل انهيار المعسكر الاشتراكي؟ اسئلة كثيرة طرحناها على التيجاني الطيب عضو سكرتيرية اللجنة المركزية للحزب وهنا نص الحلقة الثالثة والاخيرة: من أين جاء التيجاني الطيب؟ - ولدت في قرية في شمال مدينة شندي التي تبعد 170 كيلومتراً الى الشمال من الخرطوم. قريتنا على النيل وأنا ولدت الاربعاء في طقس جيد، حسبما قال والدي، وكان ذلك في 1926. تعلّمت قليلاً في القرية ثم تلقيت معظم تعليمي في مدينة ام درمان. درست في مدرسة الشيخ بابكر بدري، وهو من رواد التعليم الاهلي وتعليم البنات في السودان، وكان اسمها "الاحفاد" وتعلمت مع احفاده. اسمي التيجاني الطيب بابكر وهو الاسم الثلاثي. ولدت في عائلة تضم 15 ولداً. تابعت الدراسة الثانوية في مدرسة ام درمان وهي كانت الثانوية الوحيدة في السودان. درست في صف واحد مع عبدالخالق محجوب. بعد المرحلة الثانوية ذهبت الى كلية الطب في السودان. خلال ذلك الوقت عرض وزير المعارف في مصر عبدالرزاق السنهوري باشا قبول عدد من الطلاب السودانيين واعطاءهم منحة مقدارها خمسة جنيهات شهرياً فضلاً عن التعليم المجاني والسكن. ذهبت الى مصر والتحقت بكلية الهندسة. وفور وصولي اتصل بي الشيوعيون ودعيت كي أكون عضواً في منظمة شيوعية اسمها "الحركة المصرية للتحرر الوطني" وقبلت. كان ذلك في اوائل يناير كانون الثاني 1947. هل كان عبدالخالق شيوعياً في المدرسة الثانوية في أم درمان؟ - لا، لم يكن احد منا شيوعياً. بعد خروجنا جاء مدرس شيوعي بريطاني ونقل هذه الافكار الى عدد من الطلاب. تعرف عبدالخالق إلى الشيوعية سنة 1946 وكنا نحن خرجنا من الثانوية في 1945. لم يذهب عبدالخالق معنا الى الجامعة في السودان اذ كان قرر باكراً ان يدرس في مصر التي سبقنا اليها بعدما وصل مقتنعاً بالشيوعية منذ منتصف 1946. جاء بعبدالخالق الى الشيوعية طالب من دفعتنا اسمه محمد احمد داود وهو الذي طلب مني الانضمام الى الشيوعيين حين وصلت الى مصر. وداود من النوبيين في شمال السودان واصبح شيوعياً في مصر وكان قبل ذلك في السودان، وكان رئيس تحرير صحيفة يكتب مقالات ملتهبة جداً ضد الاستعمار. وكانت "الحركة المصرية للتحرر الوطني" منظمة شيوعية بارزة تضم الى المصريين عدداً من النوبيين والسودانيين. وكان من أبرز المسؤولين فيها هنري كورييل وسليمان الرفاعي وغيرهما. وكانت المنظمة تضم عمالاً. وتولى الرفاعي منصب سكرتير المنظمة بعد ابعاد كورييل. وفي كلية الهندسة انغمست في العمل السياسي وحين جاءت حرب فلسطين كنت اعتقلت في 18 أيار مايو 1948. كانت التهمة انني شيوعي واعتقلت في سجن "الهايكستاب" الذي كان في السابق معتقلاً لأسرى الحرب الالمان والايطاليين وهو في منطقة القاهرة على طرف الصحراء. امضينا في السجن سنة كاملة وكان معنا عدد من الشيوعيين المصريين واليهود. وقبل ذلك كنت اعتقلت لبضعة أيام خلال السنة نفسها. واتحدت "الحركة المصرية للتحرر الوطني" مع تنظيم آخر وكوّنا "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني حديتو" وحصلت معارك كثيرة. كنت سكرتيراً لاتحاد الطلاب السودانيين في مصر، وكان الاتحاد تحت نفوذ الشيوعيين. وكان عبدالخالق عضواً قيادياً في سكرتيرية اللجنة المركزية ل "الحركة المصرية" و"الحركة الديموقراطية". لكنه لم يعتقل في مصر. وحين جاءت حرب فلسطين كان مريضاً بالدرن. وحين كان في المعتقل كان في المستشفى القريب وكنا على اتصال. خرجت من السجن وعدت الى السودان وكان عبدالخالق سبقني اليه في فبراير شباط 1949. عملت مدرساً نحو 20 شهراً وبعدها تفرغت في 1951 للعمل في الحزب الذي كان تأسس في 16 اغسطس آب 1946. مرحلة التأسيس كيف تأسس الحزب الشيوعي السوداني؟ - اسسته مجموعة من السودانيين جاءت من حلقات شيوعية في السودان ومصر. تعلم السودانيون الشيوعية من اساتذة انكليز وضابط انكليزي يدعى ستوري. ولم أكن وعبدالخالق في التأسيس. شارك حسن الطاهر زروق وهو أول نائب شيوعي في العالم العربي وعزالدين علي عامر وعبدالوهاب زين العابدين وآخرون. مجموعة بسيطة لا تزيد على ثمانية اشخاص وكان عبدالوهاب زين العابدين سكرتير الحركة التي سميت "الحركة السودانية للتحرر الوطني". وكنت من اوائل المتفرغين مع ابراهيم زكريا الذي كان سكرتيراً لاتحاد النقابات العالمي ثم صار رئيساً له وتفرغ عبدالخالق في السنة نفسها. وكان هناك الجزولي سعيد وعبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة. ناضل الشيوعيون بوسائل حديثة ضد الحكم البريطاني وبادروا الى تأسيس الحركة النقابية السودانية، خصوصاً نقابات العمال والموظفين والمزارعين وعمال السكك الحديد وغيرها. الحركة النقابية تأسست في 1947 بين عمال السكة الحديد أولاً ثم انتشرت الى أماكن أخرى. وهناك اتحادات الطلاب. الى أي حد ساهم الحزب في معركة الاستقلال في 1956؟ - كان العنصر المنظم في حركة النضال من أجل الحرية الوطنية. لم يكن حزباً كبيراً وكان محصوراً بالمدن والمناطق الحديثة في السودان. لا نزعم ان نفوذه كان طاغياً في اوساط المثقفين والمتعلمين. كانت هناك دائرة للخريجين في أول انتخابات سودانية وحصل فيها الحزب على نائب من اصل خمسة. في 1953 حين حاولنا ترشيح اناس اكتشفنا ان عدداً بسيطاً يصل عمره الى 30 سنة وهذا من شروط الترشيح. سكرتير الحزب عبدالخالق محجوب كان عمره 26 عاماً وكان تولى هذا المنصب في 1949 وفي تلك السنة دخلت اللجنة المركزية. عقدنا أول مؤتمر للحزب في اكتوبر تشرين الأول 1950 في ام درمان. عقدناه سراً بالطبع. نحن حزب سري على امتداد خمسين عاماً باستثناء خمس سنوات. بقي الحزب خارج القانون 45 سنة وتمتعنا بالشرعية القانونية خمس سنوات فقط. اول برنامج متفهم للظروف ويأخذ في الاعتبار تطلعات السودانيين هو برنامج الحزب في مؤتمره الثالث في فبراير 1956 وهو برنامج لحكم وطني ديموقراطي يتدرج نحو الاشتراكية. في أول انتخابات كانت الغالبية البرلمانية للحزب الوطني الاتحادي الذي تشكل من مجموع الاحزاب الاتحادية سنة 1953. كانت أحزاب عدة تطالب بالاتحاد مع مصر، حزب "الاتحاديين" و"الاشقاء" و"الاحرار" وانضمت تحت ضغط المصريين والحركة الوطنية السودانية وكونت حزباً واحداً للحركة الاتحادية برعاية السيد علي الميرغني. من الناحية الثانية كان هناك حزب الأمة الذي ضم كل الاستقلاليين. نحن كنا القوة الوحيدة التي لم تنضم الى اي من الفريقين وطرحنا شعاراً اعتبرناه عاقلاً، وهو جلاء الاستعمار البريطاني عن وادي النيل وحق تقرير المصير للشعب السوداني الذي يجب ان يقرر في جو حر الانضمام الى مصر او الاستقلال. وكانت الزعامة الروحية في حزب الامة للسيد عبدالرحمن المهدي نجل المهدي الكبير وكانت رئاسة الحزب لابنه الصديق المهدي والد السيد الصادق، وكان عبدالله خليل السكرتير العام للحزب. بدأ دور الصادق المهدي بالظهور بعد مجيء الحكم الديكتاتوري الأول في 1958. يمكن القول ان الديموقراطية استمرت من 1954 الى 1958 وكان هناك برلمان وتعددية لكننا كنا نعتبر حزباً غير مشروع. انقلاب عبود في 1958 استولى الفريق ابراهيم عبود على السلطة، ماذا فعلتم؟ - عرفنا بالانقلاب قبل وقوعه فطبعنا منشورات ونبهنا في صحيفتنا "الميدان" الى وجود مؤامرة اميركية لتنظيم انقلاب عسكري ونقل الصراع السياسي من حيزه الديموقراطي الى حيز اشهار العنف ضد الشعب، وطالبنا الناس بالعمل على احباط ذلك، لكن الانقلاب حصل في 17 نوفمبر تشرين الثاني 1958. وأصدرنا في اليوم التالي بياناً أدنا فيه الانقلاب واعتبرناه ديكتاتوريا ودعونا الناس الى مقاومته، وناشدنا الضباط والجنود الوطنيين الاتحاد مع الشعب لاسقاط الحكم الانقلابي واتخذنا قراراً بالاختفاء. في 1958 كان محمد ابراهيم نقد تخرج من بلغاريا حيث درس الفلسفة والاقتصاد وعاد الى السودان وتفرغ في الحزب، علماً انه كان باستطاعته ان يعمل استاذاً في الجامعة. وكانت أولى خطوة لنظام عبود بعد شهر اعتقال عدد من الشيوعيين بينهم الشفيع احمد الشيخ والقاسم امين ومحمد ابراهيم نقد وقدموا الى أول محاكمة عسكرية منذ العام 1924 وحكم عليهم وعلى آخرين بالسجن مدداً متفاوتة. وفي عهد عبود اعتقل عبدالخالق محجوب مرات عدة. جزء من الكادر القيادي اختفى ولكن لم تكن لدينا تجربة في الاختفاء آنذاك فاعتقلنا واحداً بعد آخر. الخبرة جاءت لاحقاً. عبدالخالق اعتقل في 1959 وأنا ايضاً. بقيت في السجن من مايو 1959 الى ديسمبر 1960. اعتقلنا في اقصى جنوب السودان على بعد 15 أو20 كيلومتراً من كينيا ونحن من الشمال ومعظمنا من الخرطوم. السجن في منطقة على ارتفاع 6500 قدم ومحاط بغابات كثيفة والاسلاك الشائكة موجودة داخل السجن نفسه والجيش يطوقه والغابات مليئة بالحيوانات الكاسرة، وتحت الغابة ينشط المتمردون. قسوة بلا مبرر. امضينا ثلاثة أشهر هناك وكنا 25 شخصاً بينهم عزالدين علي عامر واحمد سليمان وجوزف قرنق. في 1960 خرجت من السجن وتابعت العمل الحزبي ولم اختف اذ اختار الحزب من يجب ان يختفي. فقد اطلق سراحه بعد المحاكمة واعتقل نحو سنة وبعدها اختفى وكانت تجربته الأولى في الاختفاء والتي استمرت الى ان انتهى عهد عبود. الانتفاضة الأولى في 1964 حصلت أول انتفاضة في عهد الاستقلال؟ - أول انتفاضة بهذا الاتساع نعم. طبعاً تمرد الجنوب بدأ في 1955 واستمرت الحرب حتى 1972. حصلت معارك حزبية ونقابية. نحن نسميها ثورة اكتوبر 1964. كان دور الحزب كبيراً جداً فيها وأدى الى اندفاع عشرات الآلاف من السودانيين في المدن وخارجها باتجاه الحزب. هناك مناطق لم نكن وصلنا اليها واذا بنا نتلقى رسائل من مجموعات من الشباب تعلن انها شكلت خلايا واختارت مسؤولين عنها. الى أي رقم وصل عدد اعضاء الحزب؟ - للأسف لم يكن لدينا نظام البطاقات. أعلى رقم كان بعد ثورة اكتوبر، والذين اقترعوا لمرشحينا آنذاك كانوا 75 ألفاً. خضنا الانتخابات في المدن والريف. استحدثت دائرة الخريجين وتضم 15 مقعداً وخصصت للذين اتموا الدراسة الثانوية وما فوق. كان باستطاعة عبدالخالق ان يفوز فيها بسهولة لكنه اختار - ووافقت اللجنة المركزية - ان يرشح نفسه ضد اسماعيل الازهري رئيس أول وزارة في السودان ورئيس الحزب الوطني الاتحادي. خسر عبدالخالق بفارق ألف صوت واعتبر ذلك انتصاراً كبيراً حسّن صورة الحزب، وهو ما رمى اليه عبدالخالق، اي ان ينازل الحزب الأكبر في الخرطوم بالذات. وفاز لاحقاً في الدائرة نفسها بفارق 80 صوتاً ثم فاز فيها مجدداً وصارت الدائرة تعرف بدائرة عبدالخالق محجوب. فقد ترشح في دوائر الخريجين وفاز وحصلنا على 11 دائرة من أصل 15 للخريجين كما فاز الترابي للمرة الأولى. عداء الترابي للحزب الشيوعي قديم؟ - عداء من "الاخوان المسلمين" للشيوعيين وهو منقول من مصر. تسلم وتسليم في عهد عبود بدأ اسم الصادق المهدي يتردد؟ - نعم، والده السيد صديق المهدي، إمام الانصار، لعب دوراً كبيراً جداً في مقاومة النظام. في البداية بدوا متعاونين. الحقيقة ان حزب الامة هو الذي جاء بعبود في ما يشبه عملية التسلم والتسليم. بعد الاستقلال مباشرة في فبراير 1956 حصلت ازمة سياسية اضطرت اسماعيل الازهري الى الاستقالة ثم العودة بغالبية ضئيلة ثم قامت حكومة ائتلافية برئاسة الازهري. في ذلك الوقت كان الحزب الوطني الاتحادي انقسم بعدما اختار الاستقلال ورفضت مجموعة اتحادية هذا الموقف. "حزب الشعب الديموقراطي"، برئاسة الشيخ عبدالرحمن والزعامة الروحية للسيد علي الميرغني، كان في الائتلاف مع حزب الامة. اجرت الحكومة انتخابات مطلع 1958 وحصلت على الغالبية. كان الائتلاف مرتكباً. دخلت البلاد ازمة سياسية واقتصادية. وجاءت قصة المعونة الاميركية ونظرية الفراغ لايزنهاور وحصلت للمرة الأولى ازمة في حلايب بين مصر والسودان وبلغت عن طريق حزب الامة حداً خطيراً. وطرحنا تشكيل جبهة واسعة لاسقاط الحكومة وابعاد حزب الامة واشراك حزب الشعب الديموقراطي مع الاحزاب الوطنية الأخرى في حكومة ورفض المعونة الاميركية. كانت الجبهة عريضة وواسعة وجذبت فريقاً من انصار حزب الامة، وكنا على وشك دخول البرلمان في 18 نوفمبر لاسقاط الحكومة وقيام أخرى بديلة. في هذه اللحظة اختار عبدالله خليل من حزب الامة رئيس الوزراء ووزير الدفاع تسليم الحكم الى العسكريين. جاء بقائد الجيش وقال له يجب ان تتسلموا السلطة لانقاذ البلاد. هذا يعني ان حزب الامة يتحمل مسؤولية قيام أول حكم عسكري؟ - بالتأكيد. السيد الصديق المهدي بدأ بعد فترة يقاوم عبود وكانت تكونت في 1960 جبهة لمعارضة النظام شاركنا فيها مع حزب الامة والحزب الوطني الاتحادي بزعامة اسماعيل الازهري وعدد من المستقلين والنقابيين. كان السيد الصديق يرسل نجله الصادق في مهمات سياسية خصوصاً في غرب السودان حيث الغالبية من انصار المهدي. كان عمر الصادق 28 سنة في ثورة اكتوبر. خرج حزبنا من جبهة المعارضة احتجاجاً على طريقة عملها وطرحنا شعار اسقاط النظام عن طريق الاضراب السياسي وهي المرة الأولى التي طرح فيها الموضوع وفق نظرية متكاملة. ركزنا جهودنا في النقابات. وفي 1964 حين بدأت الانتفاضة تكونت جبهة للهيئات العمالية والطلابية عرفت باسم "جبهة الهيئات"، وهي التي قادت العمل من 21 اكتوبر حين اندلعت التظاهرات الى 25 اكتوبر حين أعلن عبود حل المجلس العسكري واصبح حاكماً لوحده. وفي 26 و27 و28 استمرت التظاهرات الى ان تشكلت حكومة دخلتها الاحزاب وتشكلت "الجبهة الوطنية" وشاركت في عملية التسلم والتسليم. بدأت فترة ديموقراطية في ظل حكومة انتقالية تضم ممثلاً لكل حزب وثمانية من "جبهة الهيئات" وثلاثة للجنوبيين وشاركنا نحن عبر احمد سليمان. استمرت المسألة بضعة أشهر. استقدمت الاحزاب التقليدية، خصوصاً حزب الامة، انصارها من الريف وحصلت تظاهرات ادت الى استقالة الحكومة وشكلت حكومة جديدة. في 1965 حصلت انتخابات برلمانية فزنا فيها ب 11 نائباً في دوائر الخريجين، لكن الاصوات التي نلناها في العاصمة الخرطوم كانت 25 ألفاً في حين كنا حصلنا في 1958 على 850 صوتاً. الانتخابات التالية جرت في 1968 وحصلنا في العاصمة على 36 ألف صوت وفاز عبدالخالق في الخرطوم ورفيق آخر في عطبره. أما دوائر الخريجين فالغيت لقطع الطريق على وصول الشيوعيين. سنة 1966 بلغ الصادق الثلاثين عاماً، وهو الشرط المطلوب لخوض الانتخابات النيابية، فأفرغ حزب الامة مقعداً له في دائرة على النيل الابيض ففاز فيه بما يشبه التزكية وأصبح على الفور رئيساً للوزراء. حصلت ازمات وصراعات داخل حزب الامة نفسه وحل البرلمان سنة 1967 بمؤامرة. وحين رشح الصادق نفسه في انتخابات 1968 في الدائرة نفسها سقط وظهر آنذاك ان الحلف الطائفي - القبلي هو الذي يقرر فقد اسقط حفيد الائمة لأنه كان ضد الامام الموجود، أي عمه الهادي الذي كان ورث الموقع عن الصديق والد الصادق. كيف كانت علاقتكم مع الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك؟ - علاقتنا مع عبدالناصر تأرجحت وتقلبت. منذ البداية، خلافاً لمواقف كل الحركة الشيوعية آنذاك، اعتبرنا ما جرى في مصر آنذاك امتداداً لما حصل فيها عام 1919. اتخذنا موقفاً ايجابياً وكنا على صلة بتطور الاحداث قبل حركة عبدالناصر. استمر موقفنا المؤيد الى ان حصل اعدام العاملين خميس والبقري في ضاحية كرموز في الاسكندرية عام 1952. نحن اعتبرناهما عاملين نقابيين ولا يجوز اعدامهما بسبب قيامهما باضراب. اعتبر اضرابهما بمثابة تواطؤ ضد الثورة وحكم عليهما بالاعدام على رغم التدخلات. اتخذنا موقفاً معادياً للنظام المصري لكن هذا الموقف بدأ يتعدل نتيجة مشاركة عبدالناصر في باندونغ ثم جاء تأميم قناة السويس و"العدوان الثلاثي" فكنا على علاقة تحالف قوية مع عبدالناصر. ولم يحصل تغيير في العلاقة الا بعد تولي أنور السادات السلطة. كيف كان وضع السودان حين نفذ نميري انقلابه؟ - حصل انقضاض على ثورة اكتوبر 1964 وارتداد من قبل الحزبين الكبيرين، اضافة الى "الاخوان المسلمين". قام تحالف ثلاثي على أساس اسلامي، والواقع هو ان اللجوء الى الاسلام كان نتيجة شعورهم بالضعف. صدر في نهاية 1965 قرار بحظر الحزب الشيوعي وطرد ثمانية من النواب الشيوعيين، على رغم ان المحكمة اعتبرت الاجراء غير دستوري، اما النواب الثلاثة الباقون فلم يتخذ اجراء بحقهم بسبب وصولهم عبر قوائم اخرى، أو لأن لهم صفة نقابية ولأنهم لم ينزلوا في لائحة معلنة للحزب الشيوعي. استمر التحالف الثلاثي، وفي 1968 صاغت اطرافه دستوراً اسلامياً كان يفترض ان تتبناه جمعية تأسيسية وتجرى على اساسه انتخابات. ترافق ذلك مع ازمة اقتصادية وتصعيد للحرب الدائرة في الجنوب واضطرابات في اكثر من منطقة. في ظل هذه الاجواء جاء نميري في 25 مايو 1969 ملتحفاً ثوب اليسار والديموقراطية ورافعاً شعاراتنا. وكان النظام السابق منهكاً. هل دعم عبدالناصر وصول نميري؟ - بالتأكيد. وبعدها في الفاتح من سبتمبر حصل انقلاب القذافي في ليبيا وفي اكتوبر حصل انقلاب سياد بري. انها سنة انقلابات "يسارية" باستثناء انقلاب القذافي الذي تم تحت لافتة القومية العربية. هل تحصي متى اعتقلت؟ - اعتقلت في مصر واعتقلت في ظل حكم عبود مرتين. اعتقلت وسجنت نحو 43 شهراً في عهد عبود. واعتقلت في عهد نميري من 1980 الى 1985. واعتقل عبدالخالق مرات عدة في عهد عبود إذ دخل السجن من آخر 1959 الى آخر 1960. وفي عهد نميري لم يعثروا على نقد. انا اعتقلت مجدداً بعد انقلاب البشير. الاحزاب الكبيرة لم تعترض على انقلاب نميري وكذلك "الاخوان المسلمون" وكل مطلبهم كان ابعاد الشيوعيين. اعترفت الاحزاب الثلاثة بأن نظامها كان سيئاً ولم تطالب نميري بأكثر من ابعاد الشيوعيين. "الاخوان" كان لديهم نواب في مجالس الشعب في عهد نميري وكذلك حزب الامة والحزب الاتحادي الديموقراطي. وشارك الترابي مشاركة كبيرة في عهد نميري ومن 1975 الى مارس آذار 1985. تولى منصب النائب العام أي وزير العدل ثم عمل مستشاراً لنميري للشؤون القانونية ثم السياسية. انت تتهم الاحزاب الثلاثة بأنها لم تكن حريصة على الديموقراطية؟ - لم تكن حريصة واتخذت موقف المعارضة عندما رفض نميري ابعاد الشيوعيين وابتداء من يوليو 1969 خرج الشريف زين العابدين الهندي احد زعماء الحزب الوطني الاتحادي كلياً. العلاقة مع السوفيات هل شجعكم السوفيات على التعامل بايجابية مع نميري؟ - لا. موقفنا كان مستقلاً. عندما بدأ الصراع بيننا وبين نميري مالت موسكو الى الوقوف معه. بعد اعدام عبدالخالق برزت اجواء جديدة اذ لم يكن في وسع السوفيات تجاهل حدث من هذا النوع. عندما سألونا رأينا في طبيعة العلاقات التي نتوقع ان تقوم بينهم وبين السودان قلنا لهم انتم دولة كبيرة ولديكم حسابات استراتيجية ومصالح واسعة وبالتالي لا بد من ان تكون لديكم علاقات مع نظام نميري ولكن لا تكرروا ما فعلتموه مع نظام عبود اي ان تقولوا انه نظام وطني لاننا سنهاجمكم اذا فعلتم. ماذا قدم إليكم الاتحاد السوفياتي؟ - بعثات دراسية ومنح علاج وفترات راحة. لم نكن نذهب كثيراً الى موسكو. بين 1966 و1968 عملت في مجلة "قضايا السلم والاشتراكية" التي كانت الاحزاب الشيوعية تصدرها من براغ. كنا نرسل رفاقاً الى المدارس الحزبية في موسكو والبلدان الاشتراكية لكن الاسماء البارزة لم تتابع مثل هذه الدراسة. من عرفت من الشيوعيين العرب؟ - عرفت الشيوعيين اللبنانيين نقولا الشاوي وجورج حاوي ونديم عبدالصمد وجورج بطل، وعرفت من السوريين خالد بكداش ويوسف فيصل. ومن اليمن علي ناصر محمد وعلي سالم البيض وبابكر باذيب وأنيس حسن يحيى وعدداً كبيراً من الرفاق الآخرين. هل حصلتم على مساعدات من اليمن الجنوبي؟ - نعم. كان لدينا عدد من المعلمين هناك وكنا نطبع لديهم منشورات. ومن الشيوعيين المصريين؟ - عرفت عدداً كبيراً لأنني عشت في مصر: هنري كورييل، سليمان الرفاعي، زكي مراد، مبارك عبده فضل، رفعت السعيد، محمود امين العالم، لطفي الخولي، كمال عبدالحليم. خصوصية التجربة ما هي خصوصية تجربة الحزب الشيوعي السوداني؟ - انه بنى نفسه من دون مساعدة خارجية وانوجد اصلاً في السودان حيث لا توجد صناعة ولا نسبة عالية من المثقفين والاقتصاد نفسه متخلف، 85 في المئة من السودانيين كانوا يعيشون في الاقتصاد الطبيعي. قيام حزب شيوعي في هذه الظروف ليس سهلاً. ولأن الحزب لا يملك سنداً طائفياً أو قبلياً اهتم بانشاء النقابات والتحم بالجماهير. حاول الحزب الشيوعي السوداني ألا يستجلب شعارات من الخارج. المشروع الوطني الديموقراطي الذي اعده نبع من الواقع ومن النضالات. الى أي حد كان انهيار الاتحاد السوفياتي قاسياً عليك بعد رحلة عمر مع السجون والاختفاء؟ - في البداية كان حدثاً قاسياً جداً. عندما بدأت الانهيارات في الكتلة الاشتراكية كنا في السجن نتابع الاخبار عبر التلفزيون. كان الترابي الشامت الأكبر ولم يخف ارتياحه إلى إنهيار "الشيطان الأكبر". عانى نقد كما عانينا نحن. ثم بدأنا نفكر ونتساءل: هل انهيار الاتحاد السوفياتي يعني انهيار الماركسية والاشتراكية؟ وهل يعني هذا الانهيار ان نودع الحياة السياسية وننكفئ؟ لم نصل الى هذه الاستنتاجات ورحنا ندرس ما حصل. طبعاً في السابق كان لدينا طلاب في البلدان الاشتراكية وكانت لديهم انتقادات لكنها لم تحصل الى حد القول ان كل شيء سينهار. لم نكن تابعين للاتحاد السوفياتي، عندما اعتبر نظام عبود وطنياً قدمنا احتجاجاً. في 1986 حصل الانهيار في الحزب الاشتراكي اليمني، ماذا كان موقفكم؟ - قبل الصراع الدموي اتخذنا موقفاً قلنا فيه ان هذا الصراع ليس صحيحاً ورفضنا الانحياز الى أي من الفريقين. كتبنا في صحيفتنا كيف يمكن هذا الصراع ان يتحول صراعاً قبلياً ومتخلفاً. قلنا اننا لا نستطيع التدخل في الشؤون اليمنية الداخلية. العلاقة مع منغيستو كيف كانت علاقتكم مع نظام منغيستو هايلي مريام؟ - كان نظام هيلا سيلاسي بغيضاً ورجعياً وكنا ضده. الغريب انه عندما حصلت احداث 1971 هرب عدد من الشيوعيين عن طريق اريتريا واثيوبيا ولم يتعرضوا لسوء من ذلك النظام، مر الشيوعيون عبر اريتريا الى اثيوبيا ومنها الى اليمن. في 1974 حصل الانقلاب وكان مرتبكاً لكننا فرحنا بسقوط النظام السابق. حدثت تطورات وبدأ الضباط الصغار بالظهور فأيدنا حركة الضباط الصغار والجنود. وحين امسك منغيستو بالوضع ايدناه. هل قدم منغيستو مساعدات إلى الحزب الشيوعي السوداني؟ - مساندة سياسية والسماح بمرور الشيوعيين. كان هناك في المقابل صراع مستمر بيننا وبينه. "حزب الشعب الثوري" الاثيوبي حزب ربطتنا به علاقات ورفضنا القمع الذي تعرض له على يد منغيستو. وكنا نؤيد ايضاً الثورة الاريترية. لهذه الأسباب كانت العلاقة معقدة فضلاً عن قضية الديموقراطية. هناك شعور بأن الحزب الشيوعي السوداني يدعم المتمردين في جنوب السودان؟ - نحن طالبنا بوضع خاص للجنوبيين منذ 1954. وحين جاء التمرد في اغسطس 1955 رفضناه واعتبرناه مؤامرة بريطانية لكننا رفضنا ردة الفعل العنيفة التي قام بها الجيش. المتمردون قتلوا آنذاك خيرة الشباب السوداني العامل في مناطقهم لأنهم شماليون. طبعاً هذا مرفوض. وحين توجه الجيش الى الجنوب ارتكب فظاعات وهذا مرفوض ايضاً. قلنا آنذاك ان سلوك الجيش لا يمثل الشماليين بل القوى الجلابة اي التجار الشماليين الذين كانوا يذهبون الى الجنوب وتسبب سلوكهم في الممارسات الجنوبية وفي ردة الفعل الشمالية عليها. هل تعتقد بامكان حدوث تغيير قريب في السودان؟ - كل الاسباب لتغيير قريب في السودان موجودة لكن الأمر يعتمد على تنظيم الجماهير واستعدادها لحماية انتفاضتها. الحل هو بانتفاضة محمية بالسلاح تستمر الى ان تتحقق اهدافها. ما هي قوة الحزب الشيوعي اليوم؟ - هو حزب منظم ومقتنع بنظريته. نحن بعد الانهيار السوفياتي طرحنا للنقاش نظرية الحزب وبرنامجه وحتى اسمه وذلك بهدف التجديد. لم نهرول كالآخرين الذين سارعوا الى الاعتذار عن ماضيهم. نحن حزب يسعى الى التغيير والى تجديد فهمه للواقع السوداني بهدف قيام نظام ديموقراطي تعددي. اعلنا اننا مع الديموقراطية البورجوازية ونعتبرها احدى الانجازات الأساسية للبشرية ولسنا ضدها بل ضد بعض النواقص فيها. نحن منذ وقت مبكر وقفنا ضد حكم الحزب الواحد واسقطنا ذلك في عملنا منذ أيام نميري. نحن مع الديموقراطية الليبيرالية. هل يمكننا القول ان الحزب منقسم حالياً بين "الحرس القديم" وجيل شاب؟ - لا أشعر الآن بوجود خلاف واضح ومحدد على اساس الاجيال. خلاف الاجيال اصلاً مسألة طبيعية في العالم كله وفي كل المجتمعات والاحزاب ولا يشذ الحزب الشيوعي عن هذه القاعدة. الانقسامات التي حصلت حدثت بسبب اختلافات في الرؤى والافكار وهي اختلافات ايديولوجية وسياسية. نستطيع ان نتابع مسار الصراعات داخل الحزب منذ نشأته وفي محطات كثيرة. الصراعات الموجودة حالياً لها علاقة بالافكار وليس بالاجيال. هناك مجموعة قادها الخاتم عدلان عضو سكرتيرية اللجنة المركزية وخرجت من الحزب في 1994. وهذا الصراع من نتائج التطورات الأخيرة في الحركة الشيوعية العالمية كما نجم عن الصعوبات التي احاطت بالحزب في اعقاب نشوء نظام ديكتاتوري بعد انقلاب 1989 وما رافقه من تعقيدات عملية وسياسية. احب ان اؤكد ان اجيالاً جديدة في داخل السودان تتقدم باعداد كبيرة نحو الحزب في الوقت الحاضر، ومن تابع احتفالات الحزب بعيده الخمسين في لندن هذا العام يستطيع ان يلمس هذه الحقيقة ويتيقن منها. وضعك العائلي؟ - متزوج ولديّ بنت متزوجة ولديها اولاد. هل تعتبر ان العمر ضاع سدى؟ - لا. نحن نشعر بأن ضميرنا مرتاح. والنضال يمكن ان يستغرق عشرات السنين. متفائل بأن الليل السوداني سينتهي؟ - متفائل تماماً بالتحالف القائم حالياً، واعتقد بأن في الشعب السوداني قوى كبيرة قادرة على بناء سودان ديموقراطي وجميل