سهى شومان معروفة بدورها الرائد في تأسيس وإدارة مركز "دارة الفنون" في عمان. لكنّ الفنانة الفلسطينية - الأردنية برزت بلوحتها المسكونة بالأساطير، التي تحمل الحنين إلى أزمنة ضائعة. صدر أخيراً كتاب يترصّد خصائص تجربتها، ويستعرض مفاصل مسيرتها، يتصدّره نصّ نقدي للأديب الراحل جبرا ابراهيم جبرا بعنوان "أسطورة البتراء". هنا تعريف بالتجربة وصاحبتها. لا يمكن أن نقترب من لوحة سهى شومان، من دون ان نمر أولاً بمدينة البتراء، تلك العاصمة النبطية المنحوتة في الصخور والجبال. فهذه الفنّانة الفلسطينية - الأردنية لا ترسم المعالم الباقية والأطلال الأثرية، بل تتقمّص الحالة السحرية والإبداعية التي كانت تحرك أزاميل الأنباط. عثرت سهى شومان في منعرجات المدينة الطوباوية على المكان الطفولي الأول الذي ضعيته إغترابات الأسفار وشدة الترحال. تطابقت أخاديد ذاكرتها مع تغضنات الجدران المتهافتة، وتناسخت خطوطها ملامح المدينة الوردية، واشتقت مقاماتها اللونية من خضاب شموسها وحرائق رمالها، من شفقها وغروبها. أما نسيج اللوحة وملمسها الخشن فيشبه تضاريس الصخر والجبل، وكثيرا ما ترسم في لوحاتها المتتالية، تحولات وجدانية لألوان الشمس التي تصبغ جسد الحاضرة. فقد توحّدت البتراء عبر قرون من الزمان مع مادتها الجيولوجية وفلذاتها البركانية، قبل أن تتسرب حممها السحرية إلى ألوان شومان : ألوان من الحجر المطفأ في أبخرة التشكّل الكوني من عناصره الأولى. الماء والنار محورا رؤيتها التشكيليّة، وأيضاً "الرمل والحجر" وهو عنوان معرض أقامته في باريس العام 1995، قبل أن تشارك العام الفائت في معرض فرنسي عن الفن الأردني، وفي معرض نظّمه "معهد العالم العربي" عن الفن الفلسطيني. التصوير بالمادة الجغرافية يقول نحات عصر النهضة الإيطالي الاكبر ميكيل آنج: "أعطوني جبلاً أعطيكم مدينة"، وهكذا هي البتراء نحتها إزميل الزمن، حفر في جسدها أطوار التأكّل والحتّ عبر قرون. لذا تتراوح هيئتها بين المدينة التي تسكن الحلم والمدينة المتحجرة التي تحفظ البصمات التي تركتها مخالب الريح، وتتماهى دلالتها وملامحها في تشريح العروق الزهرية، فلا ندري أيهما يستخرج من الآخر: المنارة أم النافذة؟ و تستقي سهى شومان خرائط تكوين لوحتها من الخصائص النمطية للمدينة. فالأفق العمودي الشائع في أعمالها، مستلهم من الشرخ الجبلي المطل على واجهة الخزنة، حيث يبدو كمنفذ نوراني يختم رحلة طويلة في قعر الجبل الظليل. لقد تحول هذا المعبر السحري إلى تشكيل معاصر، يستجيب لذائقة التجريدية متصلة بميراث الرائدة الأردنية فخر النسا زيد. فقد تلمّست سهى شومان في حبواتها الأولى أطيافاً إنسانية، لكنها سرعان ما وضعت عربتها على سكّة التجريد، ودرجت على إجتزاء شرائح مجهرية منماليست من جسد البتراء... هكذا انقلبت لوحتها جداراً صخرياً أو رملياً مسمّداً بالطبشور والحوّار وأقلام الباستيل الترابية الهشة. ويرصّع اللون النيلي أحياناً عندها مساحات الرمل والحجر، فيهدئ من حرارتها اللونية، وقد يتواصل مختبرها الصباغي مع مادة الجداريات الترابية التي أنجزت بها حفائر عصر الكهوف. وكثيراً ما تصوّر على المادة البكر للورق الكثيف، بعضها يأخذ شكل دفاتر المذكرات الموغلة في القدم، وتحفظ رسوم الصفحات المهترئة أنماطاً من التخديش والحك العبثيين. يبلغ هاجس النور في التصوير حدود النار المتأجّجة من سعير الشمس. وهنا تخرج اللوحة عن منهج "التجريدية الغنائية" القائمة أساساً على التوازن الموسيقي بين الطبقات الباردة والدرجات الحارة. فشومان لا تبحث عن هذا التناغم، ولوحاتها مثل "فنون النار" تخرج حرارة ألوانها من أتون الخزف وأفران الآجر، تنقل سخونة الحجر وشواء الرمال تحت الأشعة الملتهبة. ترتشف لوحاتها الحريق البركاني نفسه الذي صاغ فلذات الصخر خلال ملايين السنين. وحينما تعرض صخورها النارية أو البازلتية البركانيّة إلى جانب اللوحات، تحافظ على بهاء عذريتها من دون أي صقل أو تدخل. فهي تمثل بالنسبة إليها عناصر جاهزة للتأمل، وللتخييل والإستبطان التشكيلي. وهذه العناصر الجيولوجية لا تنتمي إلى الإنشاءات الفراغية كما يدعي البعض، لأنها تحتفي بمادة الطبيعة والخلق كما هي، وتعتمد صيغة تذكرنا بمفاهيم الفن المتصحّر، سواء الإيطالي منه المعروف باسم "آربوفيرا"، أو الأمريكي المعروف ب "لاند آرت". إنّها تقترب من طقوس الفنان هايزر الذي درج على إنتزاع الصخور العملاقة من جسد صحراء نيفادا، معّدلاً نحتها قبل أن يعيدها إلى حضانتها الطبيعية. لكنّها تحافظ، في ما يخصّها، على بكارة هذه العناصر، وكأنها سليلة أنصاب الدولمين والمنهير التي تحفظ هيئة الكتل الصخرية من دون أي تشذيب، متصلة بقوى الطبيعة الغامضة، ولعلها أول النصب الهيلكية في تاريخ الفن. توأمية الشمس والحجر تستثمر سهى شومان تعدّدية هذه التقنيات والقوالب التعبيريّة كوسائط تعبير، وذلك بهدف تفعيل اللقاح المتبادل بين الأسطورة الحضرية، والمادة الطبيعية "الإيكولوجية". من هنا أن خصائص لوحتها الجمالية تفلت من التصنيف النقدي التأريخي. إنّها تجمع الفلذات الصخرية واللوحات التجريدية في الحيّز نفسه، ضمن الطقس الإحتفائي نفسه. فهي تسعى أن تولّد مناخاً تأملياً يطوّق المتفرج، بحساسية جديدة تغرف من ملاحم البتراء، وتنتمي الى حريات ما بعد الحداثة... من دون أن تعير الكثير من الانتباه إلى منطق التصنيفات النقدية المتعسّفة، المتعثرة بعادات جمالية منمطة، تطغى عليها الصناعة، ويثقلها هاجس المثاقفة