في وسع افريقيا السوداء ان تعيش حروباً عدة في اسبوع واحد. لكن ميزتها الاخرى ان حروبها بالغة الترابط في ما بينها. فبسبب التداخل الاثني، وبسبب رغبة الانظمة الضعيفة في تصدير مشاكلها، يصعب ان لا نقع في كل واحدة من حروبها على بُعد اقليمي صارخ. وهذا اذا كان يلح على ضرورة العثور على حلول اقليمية، توازي الحلول الاقتصادية التي تتطلبها القارة بالحاح، فالواضح اليوم ان آمالاً في هذا الحجم ليست في الوارد. ذاك أن الوضع الدولي لا يساعد اطلاقاً، بعدما بدا أن الهبة الديموقراطية التي اعقبت انتهاء الحرب الباردة ستلف افريقيا السوداء كلها، عاجلاً أو آجلاً. فاذا أضفنا الى هذا المعطى ضعف تقليد الأمة - الدولة، وتفاهة النخب السياسية في معظم الأقطار الأفريقية، جاز لنا أن نتشاءم تشاؤماً بلا حدود. ففي انغولا الغنية بالنفط، واحد أكبر بلدان القارة، بدأت الحرب المتجددة تكسب مزيداً من الزخم حين تقدمت قوات المتمردين في منظمة "يونيتا" الى مشارف مدينة مالانج. ومنذ البداية كان الطابع الاقليمي بادياً. فقد سارع الرئيس الزامبي فردريك شيلوبا الى نفي دعم التمرد، فيما راح أعضاء مجلس الأمن يحثون عناصر المهمة السلمية التي تشرف عليها الاممالمتحدة ألف شخص على البقاء في أنغولا. ومع هذا اضطر مجلس الامن، اقراراً منه بحراجة الموقف، الى الموافقة على ما كان اعلنه الامين العام كوفي انان حين تحدث عن "نقص في التعاون، بما يجعل من المستحيل على عناصر المهمة السلمية العمل ما دامت الحرب الأهلية متجددة". فبالنسبة الى انان "لم يعد هناك اي سلام للحفاظ عليه"، ذاك ان القتال في أنغولا عاد الى الصدارة في كانون الأول ديسمبر الماضي بعدما انهار وقف اطلاق النار الذي عاش أربع سنوات، ما بين "يونيتا" وحكومة الرئيس جوزيه ادواردو دوس سانتوس. وكان الاخير قد المح الى ان حكومة زامبيا المجاورة التي سبق أن رعت وقف النار الموقع في 1994 تدعم التمرد، كما اتهم بلدين آخرين لم يسمّهما. والحال انه من ضمن استراتيجية "يونيتا" لابقاء الضغط على المدن التي تسيطر عليها الحكومة، واحتلال ما يمكن احتلاله منها، نجحت في الاستيلاء على مدينتي هوامبو وكويتو، فاذا ما اسقطت مالانج باتت تُحكم قبضتها على ثلاث من مقاطعات البلاد ال18. والملاحظ أيضاً أن "يونيتا" تتقدم بسرعة نحو الشمال الغربي انطلاقاً من معقليها الرئيسيين في أندولو وبايلوندو. فاذا صح ما زعمه الناطق بلسانها من انها تزمع التقدم قريباً نحو مدينة سويو، وفيها مصانع تكرير النفط، على المحيط الأطلسي، غدا الوضع برمته أمام معادلات جديدة. ومثلما نفت زامبيا و"يونيتا" تدخل الاولى لمصلحة الثانية، طردت حكومة لواندا صحافيين برتغاليين اشاروا الى تدخل كوبي لمصلحة حكومة دوس سانتوس. فالمعروف أن كوبا احتفظت لسنوات طويلة بالآلاف من جنودها ممن تولى الاقتصاد الانغولي انجاد اقتصادهم المتداعي. وكانت مناسبة تجدد العنف هجوماً شنته القوات الحكومية على معقل قائد "يونيتا"، جوناس سافيمبي، وما لبث القتال ان انتشر على نطاق وطني. لكن في ظل سيطرة القوات الحكومية على معظم المدن ما خلا القليلة التي سقطت أخيراً، وسيطرة "يونيتا" على معظم الأرياف، يصعب ان يحقق اي من الطرفين انتصارا نهائياً، كما يصعب ان تنتهي الحرب بسرعة. وللنزاع هذا تاريخ يسمح بافتراض الأسوأ: فهو يعود الى الفترة التي سبقت استقلال انغولا عن البرتغال في 1975 حينما تفرعت "جيوش التحرير" الى جبهات متواجهة على خطوط اثنية. وبعد الاستقلال تحولت هذه الجبهات الى أدوات في الحرب الباردة، فدعمت واشنطن "يونيتا"، بينما دعم الاتحاد السوفياتي السابق "الحركة الشعبية لتحرير انغولا" التي غدت الحزب الحاكم. وقريباً من أنغولا هناك الوضع غير المستقر في زيمبابوي. فقد كشف صحافيان خضعا للاعتقال وعُذّبا أخيراً عن التقرير الذي اودى بهما الى السجن والتعذيب هذين، ومفاده أن 23 جندياً كانوا اعتُقلوا في 17 كانون الاول ديسمبر الماضي لتحريضهم بعض زملائهم على قلب حكومة الرئيس روبرت موغابي. فهذا الأخير الذي حكم بلاده منذ نيلها الاستقلال من بريطانيا في 1980 وكان اسمها روديسيا يواجه نقمة متصاعدة ذات مصادر ثلاثة: الوضع الاقتصادي البالغ التردي، والاستبداد والديكتاتورية، وتزويده الرئيس الكونغولي لوران كابيلا 8 آلاف جندي لدعمه في حربه الأهلية. وفيما يستبعد المراقبون أن يستطيع موغابي كبت النقمة طويلاً، يوفر الكونغو قصة دامية طويلة بدورها: فهذا البلد الذي "يحتفل" اليوم بالشهر الخامس لاندلاع حربه الثانية، نجح في جر سبعة بلدان من جواره الى حلبة نزاعه الاهلي، وكان تدخل الجيشين الانغولي والموزامبيقي ضمن لكابيلا ردع المعارضة المسلحة من دخول العاصمة كينشاسا. لكن الانتصار الذي تحقق له في ايلول سبتمبر الماضي لم يعن ان النزاع توقف، فيما الحكومة نفسها "تطمئن" السكان الى ان اياماً صعبة ومديدة تنتظرهم. اما كابيلا نفسه الذي ارتفعت شعبيته بعد انتصاره، فما لبث ان بدد رصيده المُستجد بسياسات لم تستقطب اياً من القوى الداخلية كما لم تنجح في مخاطبة الغرب. والحال انه غدا اشد عزلة داخل بلده واكثر اعتماداً على الحلفاء الخارجيين في مواجهة خصوم خارجيين كرواندا واوغندا. وكانت حكومة كابيلا، ابان الهجوم على كينشاسا، قد عبأت الدعم الشعبي لها بدعاية مناهضة للتوتسي ممن يعيشون في شرق الكونغو، وهي الدعاية التي ما لبثت ان مهدت لاعمال اضطهاد وتصفيات جسدية. ومع ان اقامتهم هناك ترقى الى اجيال، فانهم لم يُمنحوا المواطنية الشرعية، ما زاد في ارتباطهم بحكومة التوتسي في رواندا. وسلوك كابيلا بالغ التعبير عن وجه من وجوه السياسة الافريقية. ذاك انه حين اطاح الديكتاتور موبوتو سيسي سيكو في 1997، اعتمد في ذلك على المعونة التي قدمتها له حكومتا اوغندا ورواندا. الا ان قربه من حكومة رواندا التوتسية هو ما ساهم في العزلة الشعبية لنظامه، فحين قرر كسر العزلة لم يوسّع قاعدة النظام بل أنهى علاقاته بحلفائه السابقين. شعور أسود وفوق هذا جميعاً يهيمن على الكونغوليين شعور اسود: فهم يعيشون اوضاعاً اقتصادية بالغة السوء وسط شعور عارم بأن حربهم بلا نهاية. وبدوره يرفض كابيلا الاستجابة لرغبة اكثرية السكان بالتفاوض المباشر مع المتمردين، مكتفياً بالقول ان هؤلاء ألعوبة في أيدي رواندا وأوغندا. صحيح انه تم التوقيع على مسودّة لوقف اطلاق النار قبل ايام، الا ان التشاؤم لا يزال سيد الموقف. فالاتفاق لن يحضره كابيلا ولن يوقعه بالتالي، تبعاً لتمسكه برفض التعامل المباشر معهم. وبدورهم يؤكد متمردو "التجمع الكونغولي للديموقراطية" قبولهم وقف اطلاق النار شرط ان تتبعه سريعاً مفاوضات جدية تتناول مطالبتهم بالديموقراطية السياسية. ويضيف الروانديون عقبة اخرى اذ يقولون ان قواتهم انما أُرسلت الى الكونغو لحماية مصالحهم الأمنية المباشرة، بعدما عجزت حكومة كابيلا عن حماية أمنهم اذ تركت متمردي الهوتو الروانديين يقيمون قواعد عسكرية لهم في شرق الكونغو. وهذا يعني ان رواندا لن تسحب قواتها قبل التوصل الى حل حاسم ونهائي لهذه المسألة الأمنية. بيد أن الكونغو، اي جمهورية الكونغو وعاصمتها برازافيل، ليست في وضع أكثر مدعاة للاطمئنان. فنزاع القوات الحكومية مع ميليشيا "نينجاس" المتحالفة مع الرئيس السابق باسكال ليسوبا، يتجدد هو الآخر على نطاق واسع. فتمردو "نينجاس" يوالون تقدمهم من مواقعهم الريفية في الجنوب للوصول الى العاصمة واطاحة الرئيس دنيس ساسّو نغويسو. وقد تساقطت القذائف على العاصمة قبل ايام، ما دعا الحكومة الفرنسية الى التفكير باجلاء رعاياها. والحال ان برازافيل لم تغادر الحالة الحربية منذ اقدم الضابط نغويسو على رأس ميليشياه "كوبرا"، وبدعم من الأنغوليين، على اطاحة الحكومة المنتخبة في 1997. الا أن ما يحصل في الكونغو برازافيل لا يقاس بما يجري اليوم في غرب أفريقيا، وتحديداً في سييراليون الغنية بالماس. وكانت الحرب هناك قد بدأت في 1991 على يد فوداي سنكوح الذي أسس حركة عصابات راديكالية أسماها "الجبهة الثورية المتحدة"، تستمد قوتها الاساسية من الشبان الريفيين في المناطق الشرقية المعزولة. وحظي سنكوح بدعم الليبيري الشهير تايلور الذي كان يخوض حربه ضد قوات التدخل لغرب افريقيا "ايكموج" في بلاده. وقبل ايام اعلنت "ايكموج" التي تواجه المتمردين في سييراليون، ان الاخيرين حققوا بعض التقدم الميداني، وذلك بعد اسبوعين على نجاحهم في احداث اختراقات كبرى في العاصمة فريتاون. ولا تزال "ايكموج" تواجه متمردي "الجبهة الثورية المتحدة" في مناطق عدة يتقدمون فيها على حساب السلطة المركزية للرئيس المنتخب احمد تيجان كباح. وفي غضون ذلك بدأ القتال يحول دون وصول المعونات الغذائية والطبية الى المناطق المنكوبة، وهذا يتعدى المواصلات البرية الداخلية الى امكان اتصال الخارج بالداخل على ما يدل توقف سفينة ايطالية تحمل 18 الف طن من الأرز في ميناء فريتاون. وتحدث المراسلون الاجانب في تقاريرهم عن الجثث التي تغطي شوارع القتال ومناطقه، والأعمال الوحشية التي يرتكبها المتمردون. وبدوره يوالي مجلس الامن مناشدة الاطراف المتنازعة توفير ظروف اهدأ للعاملين في نشاطات الاغاثة كي يقوموا بعملهم. لكن من يسمع؟ فبحسب ارقام الاممالمتحدة شردت الحرب في سنواتها القليلة الماضية 700 الف شخص من اصل السكان البالغ عددهم 5 ملايين، يضاف اليهم عدد مماثل تم اقتلاعه في الايام الاخيرة من القتال! ومرة أخرى من الغرب الى الجنوب: أعلنت "منظمة العفو الدولية" أمنستي انترناشونال قبل أيام، أن مملكة ليسوثو الصغيرة في الجنوب الأفريقي تشهد توتراً متعاظماً. والسبب المباشر هو "المعاملة اللاإنسانية" التي يلقاها في سجونهم خمسون جندياً كانوا اتُهموا بمحاولة تمرد جرت في ايلول سبتمبر الماضي ضد حزب "مؤتمر ليسوثو للديموقراطية" الحاكم، ارتبطت بحركة اعتراض واسع على انتخابات عامة مزورة أجريت في أيار مايو 1998. والمعروف أن جنوب أفريقيا وبوتسوانا كانتا ارسلتا قواتهما الى ليسوثو، بطلب من حكومتها، لقمع محاولة أيلول. وتبعاً لاتفاقية أشرفت عليها وضمنتها حكومة جنوب أفريقيا، يفترض اجراء انتخابات جديدة خلال ال 18 شهراً المقبلة، فيما تبقى القوات الجنوب أفريقية والبوتسوانية هناك للاشراف على العملية. ولا تزال علامات الاستفهام تحيط بمستقبل ذلك البلد الصغير مليونا نسمة الفقير في كل شيء، ما خلا ثروته المائية. وما من شك في ان مستقبل ليسوثو وجوارها يعتمدان الى حد بعيد على مستقبل الوضع في جنوب افريقيا. وتشير التقديرات الى أن علاقات البيض والسود مرشحة هناك للتدهور بعد تقاعد، او وفاة، صمام الأمان نيلسون مانديللا. وجاءت مقابلة "صنداي تلغراف" البريطانية مع فردريك دي كليرك، رئيس الحكومة السابق في جنوب افريقيا، تصب الزيت على نيران المخاوف. فقد توقع دي كليرك انهيار حكم "المؤتمر الوطني الافريقي" لمصلحة حكم عماده "المعتدلون" من السود والبيض. وترافق نشر المقابلة مع عملية اغتيال غامضة سقط نتيجتها سيفيسو نكابيند، قائد "الحزب الديموقراطي الموحد" المنشق عن حزب المؤتمر. في افريقيا الشرقية تتجه السفن وجهة اخرى. فقد شهدت اروشا، في شمال تنزانيا، مؤتمر قمة هدفه "تسريع الاندماج الاقليمي". فالتقى رؤساء كينياوتنزانياواوغندا لهذا الغرض. وكان دانيال آراب موي كينيا وبنجامين مكابا تنزانيا ويويري موسيفيني أوغندا قد خططوا في الاصل للتوقيع على معاهدة تتأسس بموجبها منطقة موحدة للاستثمارات وسوق اقتصادية واحدة، على أن يصار مستقبلاً الى اعتماد عملة موحدة. الا أن التوقيع أُجّل حتى آب يوليو المقبل لتشعّب النقاشات المتعلقة بشروط الصيغة الجديدة. والمعروف ان كينياوتنزانياواوغندا كانت قد ارتبطت باتحاد سياسي واقتصادي في ما بينها بُعيد نيلها الاستقلال في مطالع الستينات، الا ان الاتحاد انهار وسط خلافات سياسية واقتصادية حادة، ليلفظ انفاسه الاخيرة في 1977. وكائناً ما كان الحال فان الكلام الهادىء الذي يُسمع في الشرق الافريقي لا يزال كلاماً، فيما لا يستطيع احد ان ينسى ان المنطقة نفسها هي التي تحضن الأوضاع الصومالية والتوتر الأثيوبي - الأريتري، من دون ان تكون ذكريات رواندا وبوروندي بعيدة عنها.