يعتبر محمود جبر، الفنان المخضرم، من رواد المسرح السوري الحديث، اذ عرف بتجربته المتألقة على منصة "النادي الشرقي" منذ الخمسينات، قبل ان ينفرد بتأسيس فرقة خاصة، استقطبت مجموعة كبيرة من فنانين وفنانات يحتل بعضهم اليوم مواقع متقدمة في عالم الفن. وتشتمل مسيرة محمود جبر على عشرات الاعمال المسرحية، ولا سيما الكوميدية، اضافة الى ما قدم على الشاشة الصغيرة. ومن هنا ظهر خلال السنوات الأخيرة سؤال حول غياب هذا الفنان الرائد وانحسار حضوره على رغم انه لم يعلن، يوماً، اعتزاله. هنا حوار معه نحاول من خلاله سبر أغوار غيابه، والاستفسار عن موقعه الراهن ومعرفة ما إذا كانت لديه مشاريع فنية للمستقبل. المسرح أبو الفنون، يعيش اليوم في حالة تراجع كما يرى الجميع، ما السبب في رأيك؟ - المسرح وجد منذ وجدت الحياة على سطح الأرض. ولسوف يبقى ما بقيت هذه الحياة. ما حدث للمسرح وما أصابه من تراجع سببه ما حدث لأنماط الحياة التي صار الناس يعيشونها وما أصابها من سلبيات. فقد حلت العزلة محل الحياة الاجتماعية والالفة العائلية كما صارت الوجبات السريعة بديلاً عن الطبخات المنزلية الصحية والشعبية الشهية. وأصبح الاسترخاء وحب الكسل أهم من رياضة المشي ورياضة العمل المفيدة. في الوقت نفسه، غدا الفنانون يفضلون القفز لتسلق سلالم الشهرة. أو "النط والتعربش" على أعمدتها كطريق مختصر، وجهدٍ لا يذكر في سبيل الوصول الى النجومية. وأصيب الناس بفيروس المحطات الفضائية، فأشاحوا بوجوهم عن كل ما يعنيه المسرح، وعن كل ما يرتقي اليه، أو يسمو... وبات خريجو المعاهد يؤثرون العمل السهل في المسلسلات التلفزيونية والقليل جداً منهم يعطي المسرح جزءاً من اهتمامه... وبعضاً من تطلعاته. وكأني بالمسؤولين عن الحركة المسرحية وجدوا فيما سبق سبباً لإهمالهم تقديم أي عون أو مساعدة للفرق المسرحية الملتزمة، بل ذهبوا الى أبعد من ذلك حين راحو يرفعون، وباضطراد، نسبة الضريبة المالية على البطاقة المسرحية، ودخلوا سباقاً مع المسؤولين عن مضاعفة أجور الاعلانات الفنية... وكان من الطبيعي ان يحذو حذوهم وان ينسج على منوالهم أصحاب دور السينما فرفعوا أجور صالاتهم مرات ومرات وهي الصالات التي قد تكون صالحة لشبه مسرح، وفي حقيقتها لا تمت الى المسرح بصلة من الصلات... فكيف للمسرح ان يتقدم في عتمة هذه الظروف. وأمامه تلك السدود المانعة والحواجز العالية؟ ومع ذلك، أقول اذا السواعد شمرت. واذا النوايا أخلصت واذا الدوائر المسؤولة جُندت فإن المسرح سيتقدم وينهض ويسمو كما نحب ونريد. ألا ترى معنا ان الكوميديا هذه الأيام بدأت تنحسر، ما السبب في ذلك في رأيك؟ - الكوميديا نبتة طيبة تحتاج الى بيئة سليمة، ومناخ جيد وتحتاج الى فنانين حقيقيين يتلمسون نبض الحياة اليومية عند الناس ويرصدون بعيون الصقور ظروف المجتمع من أكبر الظاهرات فيه الى أدق الدقائق منه. ثم يستلهمون من الحياة البشرية، ما يرسمون به البسمة البريئة على الشفاه. أو يطلقون به الضحكة العذبة من شغاف القلوب. تنحسر الكوميديا حين يغدو التهريج قوامها. والكلمات الفجة اسلوبها وتنحسر اكثر حين ترى القائمين عليها من غير اهلها.. تنحسر الكوميديا ثم تتحسر حين ترى الغث يطفو على الثمين أو تعلو الطحالب زهر الياسمين. وتصبح أجيرة لوسائل الدعاية القوية، أو للمقدرة التمويلية. وإن نظرة عجلى الى الكوميديين الصاعدين ومقارنة مع الفنانين القدامى تبين الفرق الشاسع بين ما عاناه جيلنا كي يثبت للكوميديا أقدامها... ويرفع اعلامها... ويرسخ مسرحاً كوميدياً ملتزماً وعائلياً. بعيداً عن الإسفاف مترفعاً عن سقط الكلام يعالج المواضيع التي تمس صميم حياة الناس فذلك أمر ما جاء من فراغ، بل جاء ثمرة التعب وجهد وسهر وتضحية، وانصهار في أتون التغلب على الذات. اننا وقد أضعنا كل تلك المقومات، من حق الكوميديا ان تنحسر وان تتحسر على زمنٍ فات. هل هذا هو السبب الذي يجعلنا لا نجد فنانيين كوميديين كثيرين في الوقت الذي تذودنا المعاهد كل سنة بفنانين من الشباب الجدد الصاعدين الى الفن؟ - الفنان الكوميدي يخلق ولا يُطبخ أو يصنّع. فإذا عرف الفنان الكوميدي نفسه وآمن برسالته، فأعطى نفسه حق قدرها من الاحترام. وأغناها بالثقافة، وصقلها بالمثابرة والاجتهاد والسعي الدؤوب على التطور نحو الأفضل فإنه بذلك يحتل مكانه في قلوب الناس ويصبح مقرباً منهم وأثيراً على قلوبهم. وكل هذا لا يأتي من حفظ كتاب، ولا من امتحان يؤدي الى شهادة من معهد ولا حتى من أكبر وأشهر الجامعات. كيف يمكن للمشاهد العربي الذي صرفته طبيعة المرحلة عن أمور كثيرة كالقراءة واللقاءات الاجتماعية الى الاهتمام ببعض الأخبار السطحية والتسلية مع الفضائىات ان يستعيد ثقته بالفن الأصيل والثقافة الحقيقية؟ - المشاهد العربي مظلوم فقد أمسى مشاهداً مدللاً. فالمحطات الفضائىة وقد صارت بالعشرات والعشرات، والقنوات التلفزيونية وما نراه منها وكل ما هو آت، تسعى الى إرضاء المشاهد العربي والكل يتبارى ليغرقه في برامج شتى ومنوعات، ويحوطه بمسلسلات اثر مسلسلات وترمي بين يديه ما هب ودب من فنون وثقافات، ثم يدورون عليه بأكواب وأباريق، مختلفة ألوانها، وما فيها من المشروبات. فنراه متخماً معسّر الهضم، زائغ الرأي والبصر. ومريض هذا العصر... فقد تناول الرأي وضده. فصار له وجه آخر. بل صار هو آخراً. انه الكليل من غير نصب، والمرهق من غير تعب، والعليل من غير حب... فهو الواصل وهو المفارق، الواصل لما يرى ويسمع. والمفارق لمن حوله بذات المهجع... نعم لقد أصبح المشاهد العربي نائياً عن أصالته، هجيناً في حضارته، مغترباً عن حقيقته، فالكل يدعي به وصلاً وهو لعمري عن الكل محجوب، وليس لهذا المشاهد العربي المظلوم من دواء الا الحمية، وقد صدق من قال الحمية رأس الدواء. لماذا لم تتعاون مع الفنان ناجي جبر شقيقك في المسرح؟ - إن أخي الفنان ناجي جبر هو خريج فرقة محمود جبر ولأنه اتخذ لنفسه درباً اختاره وأعمالاً فنية رآها مناسبة له، فذلك أمر أفرح له بصدق، أفرح لكل نجاح يحققه. وان التعاون بيني وبين أخي ناجي رهن أي عمل نتفق عليه. ونحسن اختيار موضوعه فذلك يجدد تعاوننا الى تعاون أشد تألقاً، ونكون أخوين متعاونين متلازمين وملتزمين كما يريد جمهورنا منا. أو كعهده الطيب فينا. لماذا لم تحاول ان تعمل بالدراما السورية خاصة وانها في السنوات الأخيرة تميزت على الفضائيات؟ - مما يثلج الصدر ان تتميز الدراما السورية وانا كفنان مسرحي أقدر وأثمن أي عمل فني. ولكن عندما تصبح النظرة المسبقة الى أي فنان عند نقطة الجمود أو تبلغ درجة التحجر فإن الفنان المسرحي يغدو عند أصحاب هذه النظرة المغرقة في الوهم والخطأ، رهين المسرح أو غير مؤهل للاعمال الدرامية، وبالتالي يصير استبعاده عنها أمراً عادياً. إني وإن كنت أقدس المسرح فأنا احترم الاعمال الدرامية، وهل يختلف تركيب الماء عن تركيب السحاب في شيء؟ وماذا بوسعي ان أفعل وقد عُرفت واشتهرت كفنان كوميدي؟ لقد كنت من المعارضين إزاء دخول ابنتيك مرح وليلى عالم الفن، ثم وافقت على ذلك ما السبب؟ - في بداية الأمر أشفقت عليهن مما أصابني على درب مسيرتي الفنية... وخفت عليهن من التعب المضني، من السهر الطويل ومن القلق الكبير... خفت عليهن من ألسنة لا تعرف الصدق. وتتحول الى مخالب تنهش. مع الزمن تأكدت لي رغبتهن، بعد ان استكملن دراستهن، وتوضح لي ما يمتلكن من موهبة فنية ومن إصرار على السير في الطريق، فما كان مني كأب وفنان الا أن أزودهن بالنصح والإرشاد. وأغذيهن بما اكتسبته من تجارب وخبرات. وحين رأيت أوائل اعمالهن انتابني احساس بالفخر وشعور بالاعتزاز وكبر ذلك حين أصبحن قدوة لأبناء وبنات غيري من الآباء والفنانين. انهن الآن يمارسن مهنة الفن المقدسة واني لراضٍ كل الرضى بما يقول الناس عنهن بصدق وأمانة واخلاص. لماذا ظلت أدوار هيفاء واصف زوجتك محصورة في الأدوار الثانية، مع انه من الممكن ان تكون بطلة أولى؟ - من يذكر أو يشاهد الآن أعمالي المسرحية السابقة يرى انها كانت البطلة الأولى لعشرات من مسرحيات فرقة محمود جبر. أما في الاعمال التي شاركت فيها بعيداً عن الفرقة فقد كانت تقنع بما يراه المخرجون من أدوار تناسبها أو لما يقدرونه من الطاقات الفنية التي تملكها... انهم بذلك يرسمون أدوارها في اطارات محدودة، أو في مساحات معينة، وكم من مخرج أضاع قدرات ممثل أو كتم مواهب ممثلة يعملان معه. وكم من مخرج فجر طاقات مخزونة، أو أطلق مواهب محبوسة. أقول هذا وأنا لست من المخرجين. لماذا تراجع مسرح محمود جبر رغم تزايد المشاكل الاجتماعية في المجتمع؟ - لقد اكسبني مسرح محمود جبر الملتزم ثقة الناس، ومحبة الجمهور، ودعماً شعبياً شرفني بالوصول الى عضوية مجلس الشعب في دورتين تشريعيتين متتاليتين. كنت أنقل هموم الناس وآمالهم الى خشبة المسرح، واشعر بالسعادة حين لأكنت أراهم يضحكون. وكنت أميناً في حمل متاعبهم ومشكلاتهم وآمالهم الى مجلس الشعب واشعر بالسعادة حين يتجاوب المسؤولون مع ما أحمله. ان فرقة محمود جبر ومسرحه أخذا بيد الكثيرين من الفنانين وذلك هو الالتزام الخلقي والفني والأدبي. وقد صار لكل منهم شهرته وسمعته، فما نال مسرح محمود جبر من بعضهم شكراً أو ثناءً أو بعضاً من الوفاء. لقد أنكر من أنكر... وتجاهل من تجاهل... وأدبر من أدبر... لكن مسرح محمود جبر كعهد الناس به يقف عفيفاً عن أي لغوٍ، يشد أوصاله ويستعد لمستقبل جديد بإذن الله.