سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
"كتاب في جريدة" "تمرين وحدوي ثقافي" يدخل عامه الثالث . معتبراً أن القصيدة حوار جنيني بين مكان مستحيل وزمن مصادر شوقي عبدالأمير : الحداثة العربية مهددة والشعر ضد التاريخ !
بعد مرحلة شعريّة كلاسيكيّة ترافقت مع دراسته الجامعيّة في بغداد، انتقل شوقي عبد الأمير إلى الجزائر ثم استقرّ في باريس حيث اكتشف الشعر الحديث بمختلف تيّاراته، واحتكّ ببعض روّاده، وذهب الى قصيدة النثر. والشاعر العراقي الذي يعتبر اليوم من أبرز أبناء جيله، عراقيّاً وعربيّاً، أصدر مجموعات عدّة بالعربيّة: "حديث لمغني الجزيرة" و"مدن الدخان البشري" في باريس، و"حدود وأبابيل" في دمشق، و"حديث النهر" في الرباط. كما أصدر باللغتين العربية والفرنسية "حديث القرمطي" و"حجر ما بعد الطوفان" و"حضرموت" في باريس. واصدر بالفرنسية ست مجموعات منذ العام 1977. وله ترجمات مهمّة من الفرنسية الى العربية وبالعكس. في بيروت حيث يعيش حاليّاً، ويرأس تحرير مطبوعة "كتاب في جريدة"، التقيناه وكان هذا الحوار: هلاّ حدثتنا عن مرحلة التكون الأولى؟ - أقدم صورة للذاكرة جاءت من قراءات مبكرة جداً لمسرحيات شعرية، اذكر منها مسرحية "آتالا" التي نسيت اسم مؤلّفها... أعتقد انني كنت بين العاشرة والحادية عشرة. وأحسست انني أحفظ الأبيات مباشرة بعد قراءتها، وأترنّم بها، وكنت أحاول تقليدها بيني وبين نفسي. أذكر أيضاً حصّة الرسم، وكان مدرس الرسم في "متوسطة الفجر" في الكاظمية في بغداد شخصاً اسمه... مظفر النواب. كان يقرأ علينا في درس الرسم "كوخ العم توم"، وفي تلك الاثناء كنت اكتب. وأتذكر انه كان يتفحص رسوم التلاميذ، وعندما اقترب من طاولتي لم يجد رسماً، بل ابياتاً شعرية، سألني: أهذا شعر؟ وقرأها وابتسم لي، وقال استمر، لا ترسم. مباشرة بعد هذا أقيم مهرجان شعري في الاعدادية نفسها، وكنا ثلاثة، وكانت تلك هي المرة الأولى التي اقرأ فيها ابياتا عمودية وسط جمهور من الطلاب. كنت أواصل بعد نجاح هذه التجربة كتابة مقاطع من الشعر العمودي حتى دخولي الجامعة، كلية الآداب، وفيها مهرجان سنوي معروف للشعر. رحت أتردّد في تقديم قصيدة ضمن المهرجان، فلجأت إلى أحد الأساتذة، المرحوم شفيق الكمالي، وطلبت رأيه بقصيدة لي عن النكسة. كان ذلك العام 1967. فجاءني في اليوم التالي مبتسما، وقال لي: "أين كنت تختبئ؟ ستقرأ القصيدة في المهرجان". وحقاً قرأت القصيدة، بل وفازت بالجائزة الأولى. لم أنشر هذه القصيدة لأنني لم أنشر ديواناً كاملاً في الشعر العمودي. في تلك المرحلة من الشعر العمودي التي توقفت ولي من العمر تسعة عشر عاماً، كنت متأثراً بشاعر هو في الواقع خالي، ولم يكن معروفاً في بغداد، حيث كان يعيش في الناصرية وله جمهوره هناك، اسمه رشيد مجيد، توفي قبل عامين، وكان الوحيد الذي اسمعه قصائدي وأتحاور معه حولها... شاعر جايل السياب وكتب قصائد غنائية في العمود وفي التفعيلة، في غاية الغنى والتوتر، كانت مليئة بالشحنات العاطفية العميقة... ثم تركت بغداد وذهبت إلى الجزائر... - سافرت إلى الجزائر بعد انتهاء الجامعة، وكنت قد انتقلت اثناءها الى كتابة قصيدة التفعيلة. أقمت هناك في منطقة صغيرة وجميلة، في أقصى الطرف الشرقي من الساحل الجزائري، اسمها "جيجل"، وكانت تجربة في غاية الأهمية على كل الاصعدة. كانت الفترة التي اسست فيها لنفسي وكابدت وعانيت من مشاعر وهواجس ومخاطر وتحديات لم اكن اعرفها في بغداد، حيث العائلة والاصدقاء والوطن. اعتقد انني ولدت ثانية في جيجل، وكنت أنا الجنين والقابلة في آن. كانت التجربة صارمة ومفاجئة، صارمة بقسوة المنطقة وانغلاقها والوحشة التي كنت اعاني منها. وهذه الحالة تركت بصماتها في شعري: "جيجل كل صباح تأتيني وتدق على بابي/ وأنا عند سريري/ محموماً أجلد ظلي/ أو خلف فناء الدار/ أعلق اثوابي". وتشاء الظروف أن تكون جيجل هي نقطة انطلاقي إلى الساحة الثقافية العربية. كنت قد تركت قصائد في بغداد لمجلة "الف باء"، وغادرت قبل أن تنشر. وحين التقيت في الجزائر الشاعر المرحوم محمد طالب محمد، أطلعته على شعري، فقال لي لم لا تنشر القصائد في "مواقف"؟ فقلت لا اعرف احداً فيها. فقال يكفي ان تأخذ رقم صندوق البريد، وتكتب رسالة الى أدونيس وينتهي الأمر. وفعلاً ارسلت القصائد مع رسالة قصيرة الى أدونيس، ولم اكن التقيته قط. وفوجئت بعد ذلك بفترة وجيزة برسالة من أدونيس يمتدح فيها القصائد، ويدعوني للكتابة باستمرار في "مواقف"، ويخبرني بأن القصائد ستصدر في العدد المقبل مع الرسالة التي كتبتها. كان ذلك العام 1970. وبعد صدور القصائد في "مواقف"، فوجئت بأن "الف باء" قامت بنشرها أيضاً! ولا تعليق لي على ذلك. تبعيّة لأدونيس ؟ في باريس توطدت العلاقة بينك وبين أدونيس، وأخذت ابعاداً أخرى... - اللقاء والحوار مع ادونيس استمرا وأخذا اشكالاً مختلفة، ولم ينقطعا حتى يومنا هذا. بقينا نتراسل حتى أواخر السبعينات، حيث زرت بيروت للمرة الأولى أثناء الحرب الأهلية، التقيت أدونيس بحضور عدد من الأصدقاء. وبعد الحصار الاسرائيلي لبيروت العام 82 قرر أدونيس المجيء والاقامة في باريس، حيث كنت أعمل مستشاراً ثقافياً في سفارة اليمن الجنوبي. وهنا اخذت العلاقة شكلاً اعمق وأوسع وأكثر يومية، وكان موضوعها الأساسي الشعر. اتهمك بعضهم بالتبعيّة لأدونيس... - دعاني أدونيس للدخول عضواً في هيئة تحرير "مواقف"، والعمل لتحرير المجلة من باريس، وهذا ما حصل. بالطبع نمَت بيننا علاقة صداقة عميقة، لكنّها لم تكن قائمة لا على المحاباة ولا على التبعية، بل على العكس كانت قائمة على التكافؤ والإيمان بأهمية الاختلاف والاصغاء للآخر. والدليل ان القصيدة التي كتبتها يومذاك، مهداة الى أدونيس والتي اعترض فيها على مغادرته بيروت، كان عنوانها "اختلاف" وتبدأ بالسطر التالي: "سأقف على الضفة الغارقة/ لأحتفظ بموطئ قدم على الأرض". طالما قامت علاقتنا على احترام الاختلاف، وعلى حوار مرهف وعميق. ويتواصل اليوم لقائي مع أدونيس، مختلفاً محباً، بعيداً قريباً. ما هي علاقتك باللغة الفرنسيّة؟ - منذ وطأت باريس كان هاجسي الدخول بعمق الى تجربة الشعر الفرنسي. لم اكن افكر لا بدراسة جامعية ولا بوظيفة. ولأجل ذلك كان لا بد من تعلم اللغة فوراً. وبعد ثلاثة أشهر فقط في معهد الأليانس الشهير، صرت اشتري دواوين أندريه بروتون وتريستيان تزارا وأقرأها بمعية قاموس. وأذكر انني بعد ستة أشهر فقط من وصولي إلى باريس، عرّبت قصيدة شهيرة لهنري ميشو، ونشرت في مجلة "الأقلام" 1973. كانت تجربة الدخول الى اللغة الفرنسية من خلال الترجمة الشعرية غنية على كل الأصعدة : لغوياً اولاً، لأنها منحتني مفردات كبيرة وواسعة، وشعرياً بالأخص، لأنني اكتشفت أين تكمن هشاشة اللغة وقوتها، وأين تظهر هشاشة النص الشعري وقوته، من خلال اختبار العبور بين لغتين. وأذكر في هذا الصدد ما قاله صموئيل بيكيت في حوار أجريته معه ل "مواقف": "إن القراءة الحقيقية للنص هي الترجمة، لأنك تلامس الهيكل العظمي للكتابة"، والمعروف أن بيكيت كتب بالفرنسية مع أن لغته الأم هي الانكليزيّة. وأستطيع أن أقول اليوم إن الجزائر شهدت ولادتي الجديدة على المستوى الشخصي، أما باريس فاحتضنت ولادتي الشعريّة الثانية، عبر الاحتكاك باللغة الفرنسيّة وآلام المخاض التي رافقته. كيف انعكس ذلك على علاقتك بالقصيدة؟ - في باريس بدأت بكتابة قصيدة النثر، نتيجة مباشرة لهذا التحول، من دون ان تختفي قصيدة التفعيلة التي اكتب بها حتى الآن. أول قصيدة نثر كتبتها تحت عنوان "البئر"، تحدثت فيها عن الحي الللاتيني وتبدا بالشكل التالي: "بئر صغير وأليف يرافقني في نزهتي المعتادة/ بين الشوارع والمقاهي". لقد صدر ديواني الأول في باريس "حديث لمغني الجزيرة العربية" بعدما رفضته الرقابة في بغداد، وكانت "دار الأديب" تستعد لنشره. وقد اخبرني صاحب "دار الأديب" انه استعاد النص وفيه اشارات الرقيب وتوقيعه. وكان القاص المرحوم موسى كريدي هو الرقيب، وقد أشّر بالأحمر على المقطع التالي من قصيدة "الجسد الآخر" : "ولي جسد غير قاسيون/ وغير الجزيرة/ غير المدائن/ يفتحها المسلمون/ قامرتني الجزيرة ان ارهن/ الزمن البدوي/ عادني طيف بابل/ بابل لا تعرف القادمين/ من القحط/ صحراؤهم تستغيث". هذا المقطع كان مؤشراً بالأحمر، وكان هذا أول ديوان يصدر في باريس بالعربية والفرنسية. العلاقة بالمكان ثمة علاقة واضحة لديك بين القصيدة والمكان. كيف بدأت هذه العلاقة وأين؟ - اكتشفت متأخّراً ذلك الحوار الذي يمكن أن اسميه "جنينياً" بين النصّ والمكان، وتفاصيل هذا الحوار داخل القصيدة التي تنتشر على مساحة رمزية ولغوية متعددة الوجوه. انتبهت بعد سنوات، إلى أن ثمة نسغاً يغذي أغلب النصوص التي أكتبها. إنّها الأرض التي تنقل عبر اللغة في قصائدي ظلالها وأحلامها، ماضيها وحاضرها. وجدت على سبيل المثال انني أفرق بين المكان والأرض، فالأرض بالنسبة إلي هي المكان الذي تطأه قدماي، والمكان هو الأرض التي أحلم بها، وهو الأرض التي تخلد في الذاكرة. بهذا المعنى شعرياً الأرض حيث أكون، والمكان حيث أحلم أن أكون... ومن هذا التداخل، غالباً ما تولد صور القصيدة وتتمحور رؤيتها. لكن الأمر تطور وأخذ شكل مشروع شعري متكامل، انطلاقاً من كون الأرض هي الشيء الوحيد الثابت، المتجسد فيزيائياً. إن الزمن متغير، منفلت بين ماض دفين ومستقبل مترقب وحاضر مصادر. العنصر الوحيد الثابت الذي يحدّد وجودنا هو الأرض، من هنا اعتبر ان مفهوم المنفى البابلي هو أكثر صيغ المنفى دلالة وأعمقها. فالنصوص التي تحدثت عن النفي في بابل أخذت موضوعة الأرض والمكان من مفهوم شمولي انساني واسع. بمعنى ان الأرض للانسان، والانسان للأرض، ولا حدود سياسية ولا جغرافية ولا تاريخية. البابلي منفي فقط لأنه يملك جسده، ولا حاضر نهائياً للجسد، بل مجرّد حالة مرحلية، فيما الماضي أفلت منه والحاضر قيد التلاشي... إن البابلي منفي في غربة لا علاقة لها بالمكان ولا بالجغرافيا، بل هي غربة زمنية، غربة غياب القيثارات، والاختلاف مع الذات ومصادرة الحاضر. انني اعتقد بهذا المعنى أيضاً، ان النص هو مكان لعالم جديد تؤسس له رؤية الشاعر، وقد يصبح أرضاً، أرضاً موعودة... ولهذا فالنص هو مكان بالنسبة إلي. يمكن أن نعتبر أنّك تصالحت مع فكرة المنفى؟ - بعد ثلاثين عاماً من التنقّل بين العواصم والحدود والجنسيات واللغات... صرت أكثر اقتناعاً بأن فكرة المنفى لمجرد اختلاف اللغة أو مغايرتها، ضيقة ولا تتسع إلا لرؤية شعرية عمودية. أنا عشت في اليمن وفرنسا والجزائروبيروت... وتلك الأماكن صارت جزءاً من تكويني الداخلي، أما العراق المهشم في داخلي، فهو الزمن المصادر. العراق اليوم، هو تأمل في غد مجهول وترقب له، أو هو تذكر لماض يتوارى. أنا منفي من العراق، أنا إذاً - كما في الصورة البابلية - أجوس أزقة الماضي والآتي. المنفى الأعمق هو ان تملك جسداً لا حاضر له. نعم للزمن الكلي هل تفسّر تلك النظرة كثافة الرموز والأقنعة والدلالات التاريخية والميثولوجية في شعرك؟ - بالتأكيد، لأنني اعتقد بأن تسمية التاريخ ليست شعرية. كلمة التاريخ تعني شيئاً انتهى وبقيت له آثار ودلالات، تماماً كما الآثار المعروضة في متحف. أفضل التعامل مع موضوعة التاريخ، من خلال فكرة الزمن الكلي، وهي رؤية الفيلسوف الفرنسي برغسون الذي لا يفصل بين ماض وحاضر وآت، بل يعتبر ان الزمن متحد ودائري، يتشكل فيه وجود الانسان، أي ما يسمى بالديمومة المحدودة ما بين الولادة والموت. وبهذا المعنى تمتدّ القصيدة في الزمن الكلي المتحد، من آشور بانيبال إلى اللحظة الراهنة. من هنا أن معركتنا مع اسرائيل صراع على الزمن، أبطالها الملك داوود وسليمان، حتى حين تدور بين موشي دايان وجمال عبدالناصر. الشعر ضد التاريخ، لأن الشعر يتناول المادة التاريخية كجزء من حياة النص، بشكل متداخل ومتركّب مع اجزاء أخرى. وبهذا فإن صفحة المكان هي الأرحب، والأكثر امتلاء، لأنّها تحتوي على كل هذه الرموز والدلالات، وتضعها بشكل متساو. ومن هنا أقول نعم للزمن، للماضي في القصيدة ولا للتاريخ ولا للأسطورة. أنت "تؤسطر" الشعر أحياناً، كما يمكن أن نقول إن أدونيس "يؤرخ" للشعر؟ - لا أعرف إلى أي مدى يجوز تصنيف تجربتي الشعريّة في خانة "الأسطرة". لكن لو نجحت في جعل نصي يتّسع لأحداث ورموز الزمن الذي أعيش، كأسطورة مقبلة، أكون قد حققت شيئاً مهماً. أعتقد ان كاتب قصيدة "هبوط أنانا إلى العالم السفلي" لم يكن يكتب اسطورة، كان يكتب نصاً فقط، كما تكتب واكتب نصي اليوم. ولكن تمثّل ذلك النص لزمنه واحتواءه، وشموله دلالات ورؤى غنية جعلته يتأسطر في أعيننا، وتلك شهادة عبقريته. لم تولد الأساطير كأساطير، الأساطير هي قراءة متأخرة، تبلورت في ضوء التباين الشاسع بين الثقافات والأزمنة. أما "التأريخ"، فمشروع شعري خاض فيه كثيرون، آخرهم أدونيس في "الكتاب" الذي يعتمد سيرورة تاريخية يخترقها بنص شعري، في محاولة محاكمة ذلك التاريخ شعرياً. وهذا مشروع مختلف. كيف يكون للشاعر مشروع برأيك؟ - بعد خمسة آلاف عام على كتابة النص، نقف على هرم معرفي من الأشكال والتجارب والمعلومات والاكتشافات، وآخرها الثورة التكنولوجية التي تشكل نقلة من الصفحة الحجرية إلى صفحة الضوء، مروراً بكل مراحل التطور... ولا يمكن لهذا الانقلاب الكوني الذي ما زالت براكينه تتفجر، إلا أن ينعكس على جسد القصيدة. وما أسئلة الحداثة التي عرفناها في الشعر، إلا اهتزازات صغيرة في سطح اللغة العربية. إننا نعيش فوق أرض بركانية تجرفنا حممها، ولا ندري، تنقلنا من موقع إلى آخر ولا نلتفت. الشعر اليوم عربياً على الأقل، مطالب بأن يخرج من هاجس القصيدة اللقطة، ليكون له مشروع تأسيسي في مواجهة هذه الحضارة الجارفة التي تتحدى كل أشكال كياننا. ولن ندافع عن هوية أو ثقافة أو حضور إنساني اليوم إلا من خلال الابداع، لأن الميادين الأخرى السياسية والديبلوماسية والاقتصادية... ذات سقوف واطئة، ونتائجها شبه مسبقة. المساحة الوحيدة التي يمكننا من خلالها ان نؤسس لهوية وكيان، هي الابداع، والنص بكل أشكاله. الحداثة العربيّة مهدّدة، وأنا أدعو كل المبدعين إلى ضرورة البحث عن مشاريع متكاملة، من شأنها أن تقولب علاقتنا بالذات والعصر والجماعة... هل نستنتج أنّك مع القصيدة الكلية؟ - التسميات قد لا تكون دقيقة أحياناً. ما المقصود بالقصيدة الكلية؟ نحن في حاجة إلى شحنة فلسفية داخل النص. احتواء القصيدة على رؤية ذهنية، لم يعد - من وجهة نظري - مأخذاً عليها... بل ان غياب الرؤية الذهنية يمكن ان يشكل انتقاصاً. الشعر محاولة لتفكيك العالم واعادة صياغته. ولا تكفي العناصر المحسوسة وحدها، لا بد من صهر المحسوس والمجرد في قالب النص. كسر الحواجز أمام الكتاب بصفتك مديراً لمشروع "كتاب في جريدة"، ترى ما هي التحولات والانجازات التي حققها المشروع؟ - كان حلماً شبه طوباوي ان يتفق العرب على العمل معاً في إعداد كتب ابداعية معاصرة وتمويلها وتوزيعها مجاناً، في المنطقة العربية بكاملها. الخطوات الأولى كانت صعبة وشاقة، أما اليوم، بعد مرور أربعة أعوام عامان في التحضير، وعامان في الانتاج، فبوسعنا القول : صار للعرب، تحت رعاية منظمة اليونيسكو، صرح مشترك اسمه "كتاب في جريدة". المشروع تمرين وحدوي ثقافي من الطراز الأول. منذ 24 شهراً، يقرأ العرب في الأربعاء الأول من كل شهر كتاباً مجانياً بمعية كبريات الصحف العربية، كل في بلده، حيث يوزع شهرياً أكثر من مليونين ونصف مليون كتاب مخرجة بشكل جديد ومزينة برسوم كبار الفنانين. وقد بلغت اعداد هذه الكتب الموزعة ارقاماً مذهلة: خمسين مليون كتاب موزع حتى الآن. ان نجاح هذه التجربة، يشكل اساساً لمنطلق ثقافي، على ابواب الألفية الثالثة، نحن بأمسّ الحاجة اليه، وهو كسر الحواجز أمام وصول الكتاب العربي الى قرائه، والوقوف بوجه حالة الانحسار والتردي في العلاقة مع الكتاب. فقد وصلت أرقام الاحصاءات الى درجة كارثية: ما يستهلكه العالم العربي بأجمعه من ورق لصناعة الكتب لا يوازي ما تستهلكه دار نشر فرنسية كبيرة، وأكبر روائي عربي حائز نوبل لا يبيع اكثر من خمسة آلاف نسخة من الرواية الواحدة. وحين نعرف أن "كتاب في جريدة" يوزع كل شهر مليونين ونصف مليون كتاب، نفهم معنى هذا الانجاز وخطورته. ما هي العوائق التي تعترض طريقكم؟ - من الطبيعي أن تعترض عوائق هائلة مشروعاً بهذه الضخامة. إن المصاعب مادية أساساً، لأن المشروع قائم على دعم صناديق التمويل الثقافية والتجارية، إضافة الى مساهمات الصحف بالورق ومساهمة اليونسكو... ولهذا فان استمرارية كل هذه الاطراف في ضخ المشروع ودعمه يشكل التحدي الأكبر. التجربة التي سبقتنا بالاسبانية، توقفت بعد ست سنوات لأسباب مادية، وطموحنا أن يعيش المشروع العربي فترة أطول، لأن الشعوب العربية اغنى مادياً من شعوب اميركا اللاتينية الفقيرة. كما ان تأثير اللغة العربية وآدابها على الحياة العربية واسع وأساسي وحيوي، وتعزيزه يساهم بشكل أساسي في تحديد مستقبل هذه الأمة