ستطير المفاوضات السورية - الاسرائيلية عالياً، فهل ستطير سريعاً؟ لقد كان هذا هو العرض الذي قدمه شمعون بيريز ذات مرة الى الرئيس حافظ الاسد: "تعال نطير عالياً وسريعاً" لكن الظروف التي حالت دون موافقة دمشق على ذلك قبل ثلاث سنوات يبدو انها تراجعت اليوم. لقد كان الاعلان عن الاختراق الكبير مفاجئاً بعض الشيء. وكان لا بد للرئيس بيل كلينتون ان يتولاه بعدما نجحت وزيرة خارجيته مادلين اولبرايت في تذليل العقبات الاخيرة التي كانت تحول دون استئناف المفاوضات من حيث توقفت. ومصدر المفاجأة ان الاطراف المعنية كلها كانت ماضية في الاسابيع الاخيرة، في اطلاق "حملة علاقات عامة مضادة" مؤداها ان الفرصة تكاد تضيع. دمشق، من جهتها، شرعت تخفّف من حجم التفاؤل الذي ابدته بعد انتخاب ايهود باراك وكادت تعتبر ان الرجل خدعها ثانية عندما ادعى انه خليفة رابين ورفض تبني "الوديعة" كجزء من الميراث. وكادت وسائل الاعلام السورية تشبهه ببنيامين نتانياهو. واضطر وزير الخارجية فاروق الشرع في مقابلة صحافية، الى الافصاح عن تفاصيل الحوارات التي دارت بين وزير الخارجية الاميركي السابق وارن كريستوفر والرئيس الاسد. ولما حاول الجانب الاميركي التبرؤ عمد باتريك سيل إلى نشر سلسلة مقالات في الزميلة "الحياة" توضح قصة الوديعة وتنقل الكرة جزئياً الى الملعب الاسرائيلي وبالكامل الى الملعب الاميركي وتضعها بين يدي كلينتون شخصياً الذي سبق له ابلاغ الاسد "ان الوديعة في جيبي". اما اسرائيل فكانت ماضية في تسريبات مؤداها ان الوضع السوري الداخلي لا يحتمل اطلاق المفاوضات وان اسباباً صحية تحول دون ذلك. وجرى ارفاق ذلك بحملة تصريحات تؤكد نهائية الانسحاب من لبنان في الصيف المقبل حتى لو كان ذلك من جانب واحد وبلا اتفاق. ومع ان باراك لم يقل ولو مرة واحدة ان الخروج من لبنان وارد بهذا الشكل فقد تولى آخرون افهام من يريد ان يفهم ان الانسحاب في موعده هو اولوية مطلقة ولو انه قد يتحول الى "شر لا بد منه" واتخذت، في هذا السياق، اجراءات تخص الجولان المحتل في حين اوكل الى الجيش الاسرائيلي الاعداد لخطوة لبنانية قد لا تكون مرتبطة بحسم المفاوضات مع سورية. وقد انعكس هذا الجو المتشائم في لبنان نفسه فأبدى مسؤولوه تشدداً وتصرفوا كمن يستعد لأسوأ الاحتمالات، بما في ذلك الانسحاب الاحادي الجانب واستمرار شكل من اشكال التوتر العسكري عبر الحدود. ولما شرعت اولبرايت تستعد لزيارتها الى الشرق الاوسط سبقها "قصف" اعلامي مركّز يطالب بخفض سقف التوقعات ويستبعد احداث اي اختراق ويرفض اي رهان على تطور دراماتيكي. وتعزز ذلك من الاجواء التي سادت بعد لقاءات باريس وبعد زيارة وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين الى دمشق وبيروت، خصوصاً بعدما مرّ كلينتون شخصياً في تركيا من دون ان يجد ما يستدعي حضوره الى دمشق او ترتيب اي لقاء له مع الاسد او مع باراك. ولكن ما ان حطّت اولبرايت اقدامها في سورية والتقت الاسد حتى قالت كلاماً ذا مغزى "لقد شعرت بتفاؤل كبير". وهذا التصريح، منها، مهم لأن المعروف هو ان ما تحاول تجنبه هو الوقوع في ما تعتبره شركاً وقع فيه سلفها كريستوفر عندما اكثر من زياراته الى المنطقة وتصريحاته المتفائلة فيها من دون جدوى. والانطباع المتفائل تحول، في اليوم التالي، الى تقدير سياسي دقيق يتحدث عن "تقدم كبير" ويؤكد انها باتت تملك ما يسمح لها بالاشارة الى انفراج، ولذا، وبعد ساعات من لقائها مع باراك، كان كلينتون يزف الخبر الى العالم: ان المفاوضات السورية - الاسرائيلية ستستأنف قريباً. كانت المفاجأة مزدوجة بعض الشيء فالموعد المضروب للاستئناف قريب جداً. هذا اولاً. ثانياً، ان مستوى المتفاوضين هو الاعلى. فباراك سيمثّل الجانب الاسرائيلي والشرع الجانب السوري. والذين يعرفون "شيفرة" المفاوضات السورية - الاسرائيلية يدركون فوراً الامر اكثر من جدي. فالسوريون لا يمكنهم قبول هذا المستوى الرفيع الا اذا كانوا على ثقة من ان النتائج ستليق به. وتفسر ذلك تصريحات اولبرايت في اسرائيل حيث تحدثت عن الاحتمالات الراجحة للوصول الى نتيجة سريعة. ان الشرع الذي يتعافى من ازمة قلبية لن يضيع وقتاً طويلاً في مماحكات تفصيلية. وكلينتون يحتاج، وبسرعة، الى نصر في السياسة الخارجية يعوّض عليه الفشل المهين الذي تعرّض له في عقر داره حين انهارت مفاوضات سياتل من اجل المزيد من تحرير التجارة الخارجية. وهو، في كل الاحوال، يحتاج، قبل دخول الحملة الرئاسية منعطفها الجدي، الى ورقة تستطيع الادارة ان تلعبها من اجل مساعدة الحملة الرمادية التي يخوضها آل غور، واي ورقة، في عالم اليوم، اثمن من اتفاق سوري - اسرائيلي يفتح ابواب الشرق الاوسط على سلام واستقرار ويضع اسرائيل في موقع اقوى للبت في نتائج المفاوضات النهائية مع الفلسطينيين. وباراك نفسه مستعجل لاسباب لها صلة بمفاوضاته مع عرفات، لكن اكثر بما يعتبره فرصة سانحة لتوقيع اتفاق مع الاسد شخصياً. ولقد سبق له التصريح، مرات ومرات، ان تفويت هذه الفرصة سيقفل نافذة السلام مع سورية لسنوات جديدة. وبما انه بات متورطاً حتى الاذنين بوعد تموز يوليو اللبناني فان ضغوط الروزنامة عليه، كما على مفاوضيه، يجعله يحسم امره حتى لو قاده ذلك الى اعطاء اولوية للمسارين السوري واللبناني على المسار الفلسطيني. والمعروف ان "العقيدة الرابينية"، المدعومة اميركياً، تدعم هذا الترتيب للاولويات لانها ترى فيه مفتاح ضبط الوضع الاقليمي العام بما في ذلك مع ايران والعراق… في حين ان التأثيرات الاستراتيجية كل على المسار الفلسطيني متراجعة. هل ستبدأ المفاوضات فعلاً من حيث انتهت؟ من العبث التصور ان كل شيء كان مجمداً بانتظار ان ينطق باراك بالجملة السحرية التي تحدد خطوط 4 حزيران يونيو حدوداً للانسحاب. فهو اعلن وكرر ان تعهداً مسبقاً من هذا النوع صعب وينهي المفاوضات قبل ان تبدأ. ولذا انصبّ الشغل الاميركي والاوروبي على تثبيت ان الانسحاب الكامل الى هذه الحدود هو الخاتمة الطبيعية للمفاوضات. وانصبّ العمل، كذلك، على محاولة الحصول على ما يمكن اعتباره "وديعة سورية" توضح المقابل الذي تنوي دمشق دفعه لقاء حصولها على ارضها المحتلة. وليس سراً ان الاميركيين وجهوا الى السوريين مجموعة اسئلة حول "البعد غير الاقليمي" في التسوية، وان الشرع حملها معه من واشنطن بعد لقائه كلينتون. ولما بدا ان الاجوبة السورية تتأخر كان الاميركيون يؤكدون انه من الافضل كثيراً ان تتأخر من ان تكون سلبية. والواضح ان ما سمح بالاعلان عن استئناف المفاوضات هو حصول واشنطن على حد ادنى متماسك يمكن اعتباره "بيان نيّات" من الطرفين يتناول الانسحاب طبعاً ولكن، ايضاً، الاطار العام للثمن المقابل. ويلاحظ المراقبون تدرجاً في الموقف السوري، فلقد اصرت دمشق، على الدوام، على شرطها، لكنها اعربت اسبوعاً بعد اسبوع، عن فهمها ان تعهد رابين لا يعني وحده اتفاقاً، وان شروط بلورة اي اتفاق هو توافر ردود على هذه الوديعة تخاطب المطالب الاسرائيلية. وعندما يقول كبار المسؤولين في دمشق ان ثمانين من المئة من القضايا الخلافية كان جرى حلّها بين 1992 و1996 فإنهم يعلنون استعدادهم، المقابل، لالتزام ما وعدوا به في تلك المفاوضات ورغبتهم في حسم ما تبقى. كان يقال، عن حق، ان المفاوضات السورية - الاسرائيلية طبخة تغلي في قدر مقفل. اي انها تختمر وتنضج من دون اثارة ضجيج ومن دون الغرق في الديبلوماسية العلنية. ولذلك، ايضاً، كان يقال، وعن حق ايضاً، ان من طبيعة هذه المفاوضات ان تكون المسافة قصيرة بين لحظة الاعلان عن استئنافها ولحظة الاعلان عن خاتمة سعيدة لها. ويستند ذلك الى ما بات معروفاً من تسويات حصلت حول امور عدة لبنان والعمل المسلح والتطبيع والمياه والترتيبات الخ… فهذه التسويات بعضها موثق لدى الادارة الاميركية التي شاركت في مراحل المفاوضات السابقة، وبعضها موجود، نظرياً، في "لا ورقة" اهداف الترتيبات الامنية ومبادئها وبعضها الآخر، ربما، في حصيلة مفاوضات رون لاودر. ويمكن الجزم، بلا خوف من المبالغة، ان اموراً كثيرة جرى حلها في خلال الاشهر الماضية وهو الامر الذي يعني ان الاختراق الكبير قد لا يكون استئناف المفاوضات، وانما توقع تقدمها بسرعة وصولاً الى اتفاق في خلال بضعة اشهر. ان باراك والشرع مطالبان بإعادة وضع الاطار العام لما تم التوصل اليه، ورسمه وتحديده واعطاء دفعة قوية لحل القضايا العالقة. ومن المتوقع بروز ازمات جدية في قضايا من نوع المياه والامن وربط مراحل الانسحاب بمراحل التطبيع. ولكن هذه الازمات لا تبدو عصية على الحل. ولذا فان النافذة التي اعيد فتحها لن تغلق هذه المرة الا والعلاقات الاسرائيلية مع سورية ولبنان والمحيط الاقليمي متغيرة بشكل كبير