الأفكار تسافر، تنام وقد تستيقظ! والمهم في تاريخ الفكر ليس الفكرة في ذاتها بل الدور الذي تقوم به في النظام الفكري العام في وقت معين. أما الفكرة التي تبقى يتيمة معزولة عاقراً فهي لا تدخل التاريخ. وهل يدخل التاريخ أحد بمفرده؟ يصدق هذا على جميع الأفكار التي ماتت ولا حصر لها. ولكن قد يحدث أيضاً أن فكرة ما تدخل التاريخ بفعل ظروف معينة لتقوم بدور معين. فإذا أصبح لها تاريخ اندفع الناس الى البحث لها عن "ما قبل تاريخها". إن الفكر البشري، وبخاصة فكر المؤرخ للفكر، لا يقنع عادة بعقد ميلاد الفكرة التي تستقطب اهتمامه بل كثيراً ما تراه يبحث عن أصول للمولود الجديد. يبدو أنه ليس الماء هو وحده الذي "يخشى الفراغ" - وذلك هو ما يجعله يندفع الى أعلى في المضخات حسب التفسير القديم - بل الفكر البشري نفسه "يخشى الفراغ" فلا يقبل ببداية لا شيء وراءها. الانسان يبحث دوماً عن متكأ، وفي هذا الاطار يندرج قول القائل: "أعطوني متكأ أضع عليه قدمي وسأحمل الكرة الأرضية على كتفي"! والبحث الفلسفي منذ كان وهو يبحث عن "هذا" المتكأ! أبت هذه الخواطر إلا أن تستبد بمقدمة هذا المقال الذي نريد تخصيصه لتطور فكرة "العقد الاجتماعي" عبر التاريخ. ذلك لأن هذه الفكرة هي من تلك الأفكار التي لم يكن لها تاريخ، حتى إذا ظهرت في القرن السابع عشر في أوروبا، وفي اطار الصراع بين الكنيسة والدولة، وتبين في ما بعد لمؤرخي الفكر السياسي الأوروبي أن هذه الفكرة قد قامت بدور مهم في المسلسل الذي أدى الى قيام الدولة الديموقراطية الأوروبية الحديثة، حينذاك اتجهوا الى البحث عن "جذورها"، عن "ما قبل تاريخها". لماذا البحث عن هذا ال"ما قبل التاريخ"؟ الذي يقع وراء فكرة لم تدخل التاريخ بفعل ما قبلها، بل دخلته بفضل ما قامت هي به من دور، بل أدوار، في التاريخ الذي يقع بعد ميلادها؟ إن المسألة لا تخص فكرة "العقد الاجتماعي" وحدها بل تعم جميع الأفكار التي كتب مؤرخو الفكر في أوروبا تاريخها منذ القرن الماضي، حينما أخذوا في إعادة كتابة تاريخهم معتمدين ما عرف عندهم ب"المنهج الفيلولوجي" الذي يقوم على رد كل فكرة الى أصول سبقتها وجذور أسستها، عامدين هكذا الى تأسيس ثقافتهم على أصول ترجع الى الاغريق، فجعلوا بداية تاريخهم في اليونان ومنها يمتد الى روما ومن روما الى فرنسا وبريطانيا الخ. إن إعادة كتابة التاريخ تنطوي في الواقع على إعادة تشكيل الوعي. مفهوم "العقد الاجتماعي" له مكان ما في بنية الوعي الأوروبي لأنه مفهوم بنوا له موقعاً في تاريخهم. أما نحن فهذا المفهوم ما زال غريباً عنا، وبالعكس منه "عقد البيعة" مثلاً. فإذا كنا نريد أن نؤسس في وعينا لعقد اجتماعي خاص بنا، أو كنا نريد أن نجدد مفهوم البيعة في وعينا وأن نجعله موازناً لمفهوم العقد الاجتماعي نفسه، فمن الضروري التعرف أولا على مضمون هذا المفهوم، لا من خلال تعريف معجمي قاموسي فهذا لا يفيد في تشكيل الوعي ولا في إعادة تشكيله بل من خلال التعرف على تاريخه، على المحطات التي قطعها في أسفاره. في هذا الاطار يجب أن نضع هذا الذي ينتمي الى "ما قبل تاريخ" نظرية "العقد الاجتماعي" في أوروبا. نحن نريد أن نفهم كيف نشأت فكرة العقد الاجتماعي في أوروبا، نريد أن نتعرف على العوامل التي جعلتها تظهر هناك لنقارن، بعد ذلك، بين "ما قبل تاريخها" هناك وبين الوضع عندنا نحن، وهو وضع "ما قبل تاريخ" ما زال ممتداً في الحاضر لم يترك بعد مكانه ل"التاريخ". يتحدث الباحثون الأوروبيون عن ظهور فكرة "العقد الاجتماعي"، بصورة أو بأخرى، في العصور القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، عند الفيلسوف الصيني موتزو وعند السوفسطائيين اليونانيين، ثم عند الأبيقوريين في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم عند الرومان وعند شيشيرون خاصة، في القرن الأول ق.م، ويشيرون الى أنه كان لها صدى في القانون الروماني يعود الى التقليد الروماني القديم الخاص بالوفاق الشعبي. بينما يبحث بعضهم عن أصول لها في النصوص المقدسة فيجدون في "العهد القديم" عدداً من الأمثلة على "العقد الاجتماعي"، على رأسها "ميثاق بني اسرائيل"، بينهم وبين يهوه الله، والعقد الذي أبرموه مع الملك سليمان. ويتتبع المؤرخون فكرة العقد الاجتماعي في القرون الوسطى المسيحية، ويجد بعضهم نموذجاً عملياً ل"عقد الاجتماع" في "ميثاق الاتحاد" Pactum Unions الذي اتفق عليه الآباء المهاجرون الذي رحلوا عن انكلترا لينشئوا أول مستعمرة في "نيوإنجلند" بالولايات المتحدة الأميركية عام 1620، حيث أعلنوا أنهم يتعاهدون على أن يتجمعوا ويعيشوا معاً في مجتمع مدني واحد. أما "عقد الحكومة" أو عقد الرعية مع الحاكم Pactum Subjectionis فقد وجد المؤرخون له أمثلة في العقود التي أبرمت، ابتداء من القرن الخامس، وفي عدد من الممالك الجرمانية، بين الملوك ورعاياهم. أما النموذج والمثال لهذا النوع من العقد فيجده هؤلاء المؤرخون في "الميثاق الأعظم" Magna Carta الذي وقعه الملك جون عام 1215 ورضخ فيه لثورة النبلاء وقبل شروطهم. ومع ذلك، فنحن نرى أن هذه الأمثلة والنماذج كانت تقع خارج ما نعتبره هنا "ما قبل تاريخ" فكرة العقد الاجتماعي، فليست هناك أية علاقة بين هذه الأمثلة التاريخية، الفكرية والعملية، وبين فكرة العقد الاجتماعي كما ظهرت في القرن السابع عشر. ذلك أن فكرة التعاقد بين الحاكم والمحكومين عقد الحكومة لم تصبح ذات شأن في التاريخ الأوروبي إلا حين اشتد الصراع بين الامبراطورية وبين الكنيسة البابوية ولجأت هذه الأخيرة الى تبرير تدخلها بإقحام فكرة "العقد". لقد ادعت الكنيسة لنفسها الحق في عزل الملوك الطغاة مستندة في ذلك الى أن البابا يملك السلطة الروحية، الشيء الذي يعني أنه المسؤول عن السعادة الروحية للشعب، وبالتالي فمن حقه أن يحرر هذا الشعب الذي يعاني مادياً وروحياً من استبداد الملوك المستبدين، وذلك بجعله في حل من الالتزام الذي يوجبه ذلك "العقد" إزاء صاحب السلطة الزمنية: الملك. كان ذلك على عهد البابا غريغوار السابع 1073 - 1085 الذي خاض صراعاً مريراً مع الامبراطور هنري الرابع فانتصر عليه وسن عدة قوانين كهنوتية في اطار ما عرف بالاصلاح الغريغوري. لقد بنى هذا البابا اصلاحه في هذا المجال على فكرة أن سلطة الملوك مستمدة من الشعب بينما سلطة البابا مستمدة من الله. وهذا ينتج منه أن سلطة البابا أسمى وأشرف من سلطة الملك، وأن سلطة هذا الأخير تفقد شرعيتها إذا مارس الطغيان والاستبداد على الشعب الذي انما يحكمه بموجب عقد قوامه الحكم بالعدل والعمل لصالح السعادة المادية للرعية، جنباً الى جنب مع البابا المكلف بتوفير السعادة الروحية لنفس الرعية. فالحاكم الزمني ليس حاكماً مطلقاً بل له شريك أسمى منه هو البابا. هنا تبدو فكرة "العقد"، عقد الحكومة، وكأنها قد وظفت لمصلحة الرعية ضد الملك، بتوسط طرف ثالث هو الكنيسة. غير أن القصد الأول والأخير منها هو تبرير تدخل الكنيسة بين الملوك والرعايا، بوصفها سلطة عليا. فالمسألة في هذه المرحلة، تندرج في اطار الصراع بين الكنيسة والامبراطورية، وليس في اطار الصراع بين الحاكم والمحكومين. ومع ذلك فقد أخذت الفكرة تشق طريقها لتنخرط في هذا الاطار الأخير وتصبح فاعلة فيه. وهكذا ركز بعض المنظرين للمذهب الغريغوري على كون الشعب هو الذي ينصب الملوك حكاماً عليه وأنه انما يفعل ذلك بهدف حماية نفسه من طغيان الطغاة، الشيء الذي يعني أن الملك انما يحكم بموجب "عقد مشروط" بينه وبين الرعية. ومن هنا خطا بعض أنصار المذهب الغريغوري خطوة أخرى فقالوا: ان خرق الملك للعقد الذي بينه وبين الرعية يجعل هذه الأخيرة في حل من الالتزام بطاعته وان تدخل البابا انما هو عبارة عن إضفاء الصبغة العملية على ما استوجبه طغيان الأمير. وهكذا فبعد أن كانت فكرة "العقد" تبرر تدخل البابا لتحرير الشعب أصبحت تبرر ثورة الشعب، أما دور البابا فقد تقلص ليصبح محصوراً في مجرد إضفاء الشرعية على أمر واقع هو ثورة الشعب. ويأتي القديس توما الأكويني 1225 - 1275، وهو من أكبر فلاسفة اللاهوت المسيحي إن لم يكن أكبرهم على الاطلاق، ليناقش المسألة في اطار اهتماماته الفكرية الخاصة التي كانت مركزة حول التوفيق بين الفلسفة واللاهوت. كان الاكويني من شراح أرسطو وقد تأثر الى حد كبير بآراء ابن رشد في مسألة ترتيب العلاقة بين الدين والفلسفة فضلا عن أخذه برأيه في مسألة العقل والنفس، كما هو معروف عند المختصين. وما يهمنا إبرازه هنا هو أن الأكويني تبنى وجهة النظر الأرسطية في أصل الاجتماع ومنشأ الدولة فقرر أن الاجتماع الانساني أمر طبيعي كاجتماع النمل والنحل، مع هذا الفارق وهو أن الاجتماع الحيواني يخضع للغريزة، اما الاجتماع الانساني فيقوم على الإرادة ويدبره العقل وبالتالي فهو اجتماع تعاقد لا اجتماع فطرة وغريزة. ويميز توما الأكويني بين الانسان كحيوان اجتماعي والانسان كحيوان مؤمن. فمن ناحية: "الانسان حيوان اجتماعي" بوصفه كائناً يخضع لقوانين الطبيعة التي تفرض عليه التعاون مع بني جنسه ليستقيم أمره، ومن ناحية أخرى هناك "الانسان - المؤمن"، وهو يتميز بانتمائه الى نوع من الاجتماع خاص هو الكيان الروحي الذي تشكله الكنيسة. هنا سيوظف الأكويني، التمييز بين السبب الأول والأسباب الثانوية - وهو تمييز يرجع الى أرسطو وقد انتشر في الفكر الفلسفي في الاسلام - سيوظفه توظيفاً رشدياً ولكن في مجال السياسة والحكم. لقد اعتبر أرسطو السبب الأول المحرك الأول، الله مبدأ لكل شيء ولكنه جعله لا يتدخل كل مرة وفي جميع الجزئيات، بل هناك الطبيعة وقوانينها التي تشكل الأسباب الثانوية، وهي المسؤولة عما يجري في الكون من حوادث جزئية. كان الفارابي وابن سينا قد اتجها بالفكرة اتجاهاً آخر فاعتبرا العقول السماوية الملائكة فائضة عن العقل الأول الله وجعلوها هي الأسباب الثانوية. أما ابن رشد فقد احتفظ بفكرة أرسطو كما هي: المحرك الأول هو السبب الأول وهو الله، ثم المحركات الأخرى الأجرام السماوية التي رتب الله حركتها وتأثيرها لتشكل ما نسميه القوانين الطبيعية، وهي الأسباب الثانوية. وفي هذا الاتجاه سار توما الأكويني فشيد رؤية جديدة لثنائية الزمني والروحي، فربط الزمني بالأسباب الثانوية والروحي بالسبب الأول. في اطار هذه الرؤية الجديدة لثنائية الزمني والروحي يقرر توما الأكويني أن سلطة الحاكم، وبالتالي الدولة، ليست نتيجة تدخل مباشر من السبب الأول الله بل هي ترجع الى "الأسباب الثانوية"، أي الى القوانين الطبيعية التي بفعلها تم الاجتماع ونصبت الدولة، ولا يكون حكم الحاكم مشروعاً إلا إذا كان متوافقاً مع القوانين الطبيعية أي مع العقل، لأن العقل ليس شيئاً آخر غير إدراك الأسباب كما يقول أرسطو وكرر ذلك ابن رشد مراراً وتكراراً. فبدون الاهتداء بالعقل والعمل بموجب قوانينه، التي هي من قوانين الطبيعة التي خطتها الإرادة الإلهية، تكون سلطة الأمير ظلماً فاحشاً. ذلك أن غاية الاجتماع ليست في حصول الانسان على المتعة والشهوة بل الغاية منه حصول الفرد البشري على كماله الانساني. ومهمة الدولة تكمن في مساعدته على ذلك خصوصاً في ما لا تطوله قواه الخاصة من الأمور التي تنتمي الى عالم المادة، بما في ذلك الحياة الاجتماعية ومقتضياتها. أما الناحية الروحية، الدينية الخلقية، فتتكفل بها الكنيسة. يمكن اعتبار هذا الفصل الذي أقامه القديس توما الأكويني بين الدولة والكنيسة بذرة البذور لما سيعرف في العصر الحديث ب"العلمانية"، كما يذهب الى ذلك بعض المحللين. لن نخوض في هذا الموضوع الآن، وقد تكون لنا عودة اليه. المهم بالنسبة لموضوعنا هو أن نسجل أن الترويج لمثل هذه الأفكار في القرن الثالث عشر الميلادي من طرف الكنيسة كان من الناحية التاريخية، أعني من ناحية النتيجة، بمثابة اشعال النار في حقل الحكم الامبراطوري الاقطاعي