ترددت في السنوات الأخيرة في الساحة الفكرية العربية نداءات تدعو الى صياغة وابرام "عقد اجتماعي عربي جديد". ونحن هنا لا نرمي من وراء هذه "الهوامش" الى الدخول في مناقشة مضامين هذه الدعوات! كل ما نهدف اليه هو القاء بعض الضوء على هذا المفهوم - "العقد الاجتماعي" - كما طرح ووظف في تاريخ الفكر الغربي مع الاطلالة على الكيفية أو الكيفيات التي طرح بها هذا المفهوم نفسه، أو ما يوازنه أو يرتبط به نوعاً من الارتباط، في الحضارة العربية الاسلامية. ولكي نقترب من صلب الموضوع منذ البداية نرى من المفيد التذكير بأن مفهوم "العقد الاجتماعي" هو فرضية - قد يكون لها أساس ما في الواقع البشري أو لا يكون - كان الغرض منها تأسيس السلطة السياسية على رضى المحكومين، وبالتالي بيان كيف نشأت الدولة وكيف يمكن تأسيس الديموقراطية، كما سنرى لاحقاً. كانت هناك نظرية شائعة سادت في العصور القديمة والوسطى تقول إن ظهور الدولة كان أمراً "طبيعياً" اقتضاه كون الانسان لا يستطيع ان يعيش بمفرده ويقوم بجميع حاجاته وبالتالي لا بد له من التعاون مع غيره. وبتنظيم هذا التعاون تطور الأمر الى ما نسميه الدولة، إما انطلاقاً من الأسرة التي تطورت فاصبحت قبيلة تحالفت مع غيرها فأقامت الذولة، او ابتداء من بروز شخصية او بطل في ظروف مكنته من تولي السلطة وتنظيم التعاون الخ. يمكن وصف هذه النظرية التي سادت في العصور القديمة والوسطى، في العالم الاسلامي كما في العالم المسيحي، بكونها نظرية محافظة، فهي إذ "تفسر" ظاهرة نشوء الدولة لا تفتح أية آفاق لتغيير الوضع القائم، بل تبرره وتجعل منه واقعاً اقتضته "طبيعة" الأمور. أما نظرية "العقد الاجتماعي" فهي بالعكس من ذلك نظرية ثورية، بمعنى انها تفسح المجال للتغيير. فمن جهة تقوم هذه النظرية على فرضية "حالة الطبيعة"، التي شرحناها قبل، ومؤداها أن البشر كانوا في مبتدأ أمرهم أحراراً لهم كافة الحقوق، ولكل منهم الحق في كل شيء. ولكن، بما أن سعي كل واحد منهم الى التمتع بجميع الحقوق كان لا بد أن يؤدي الى تنازع وتدافع واقتتال، فقد اهتدوا بعقولهم الى طريقة لتنظيم هذه الحقوق بصورة تضمن الأمن والعدل، أعني: إبرام "عقد اجتماعي" يتنازلون بموجبه عن حقوقهم بهدف تنظيمها وحفظها واستردادها بصورة تمنع التنازع والتدافع والصراع. واضح أن فكرة العقد الاجتماعي بهذا المعنى تطرح مسألة الحكم طرحاً أعم وأعمق وعلى مستويين: أصل الاجتماع وأصل الدولة، وهما مستويان من التعاقد مختلفان: يتعلق الأمر في المستوى الأول بتنازل الأفراد للمجموعة التي تتشكل منهم، عن الحقوق الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها في "الحالة الطبيعية"، في مقابل حقوق مدنية تضمنها لهم المجموعة/ الدولة. أما على المستوى الثاني فالأمر يتعلق أساساً بتفسير شكل الحكومة: فالأفراد يتنازلون هنا لا للمجموعة، بل لشخص واحد يقوم بمهام الرئاسة والحكم بما في ذلك الحفاظ على حقوق الأفراد والجماعة. وما دام الأمر يتعلق بفرضيات فغني عن البيان القول انه من الممكن الجمع بين المستويين في نظرية واحدة تفسر في آن واحد أصل الاجتماع والدولة ومنشأ الحكومة وشكلها. كما أنه من الممكن تفسير الحكومة وشكلها داخل النظرية الأولى وحدها. وقد شهد الفكر الأوروبي هذه الأنماط جميعاً، كما سنرى. *** أما الفكر العربي الاسلامي فهو لم يعرف إلا النمط الثاني، أعني الذي يفسر منشأ الحكومة وشكلها وهو ما يسمى عندنا ب "عقد البيعة". فالعقد السياسي الذي دار الكلام حوله في التراث العربي الاسلامي هو "عقد الإمامة" أو "البيعة"، أما "العقد الاجتماعي" كنظرية تفسر أصل الاجتماع والدولة فشيء ظل غائباً عن مجال المفكر فيه لدى الذين خاضوا في مسألة "الإمامة" و "الخلافة". نعم هناك في العهد النبوي أنواع من "العقد" أبرمها الرسول ص، بعضها ينظم الاجتماع وبعضها ينظم الحكم، وبعضها يجمع بين الاثنين: من ذلك نظام "المؤاخاة" الذي سنه ص عند مقدمه الى المدينة مهاجراً اليها هو وصحبه من مكة والذي آخى فيه بين المهاجرين بعضهم مع بعض وبينهم وبين الأنصار مؤاخاة "على الحق والمساواة"، وهذا "عقد اجتماع". أما العقد المعروف ب "الصحيفة" فهو يجمع بين الاثنين: فقد كتب النبي ص، عند وصوله الى المدينة مهاجراً، كتاباً "بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم أمة واحدة". كما "وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم". لقد نص هذا الكتاب أو العقد على أن كل فئة من فئات المسلمين والمؤمنين من المهاجرين والأنصار من أهل يثرب تواصل العمل بالعرف الذي كانت تعمل به قبل الاسلام في مجال أخذ الديات واعطائها، مع التزام المعاملة الحسنة للأسرى والعمل بالعدل في افتدائهم. كما ينص على التضامن والتكافل بين المؤمنين بعضهم مع بعض الخ. هذا من جهة ومن جهة أخرى ينص هذا العقد على أن "اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين = يتحملون نصيبهم من نفقات الحرب التي يشاركون فيها مع المؤمنين وأنهم: "أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". كما ينص هذا العقد على تحريم القتل في يثرب والدفاع المشترك عنها، وأن المرجع في الفصل في الخلاف هو محمد ص سواء كان الخلاف بين المؤمنين والمسلمين بعضهم مع بعض أو بينهم وبين اليهود. وتختم "الصحيفة" بالتأكيد على أن العلاقات في يثرب يجب أن تبنى على البر وحسن المعاملة والحرص على الأمن انظر التفاصيل في كتابنا: العقل السياسي العربي. ص 92 وما بعدها. نحن هنا إذن أمام عقد اجتماعي مزدوج ينظم الاجتماع وفي نفس الوقت يعين رئيس الجماعة. وما يلفت النظر في هذا العقد - ومن منظور اهتماماتنا الراهنة - هو تأكيده على الحق في الاختلاف وإقراره لهذا الحق بعبارات تتكرر مع كل فئة. الاعتراف بالاختلاف داخل اليهود وقبائلهم، واحترام ما يؤسس هذا الاختلاف من أعراف، وفي الوقت نفسه الحفاظ على وحدة الجماعة التي أصبحت تشكل "أمة واحدة". أما رئيس الجماعة - النبي ص - فهو لا يتدخل إلا عندما يحدث خلاف بين فئة وأخرى يتطلب مرجعية محايدة مستقلة. لقد قيل الكثير عن هذه الصحيفة فلنكتف بما قلناه عنها أعلاه ولنضف شيئاً واحداً فقط، وهو أن هذه المعاهدة التاريخية قد نظر اليها قديماً على أنها عقد حربي: كانت معاهدة من أجل تنظيم الحرب ضد مشركي قريش الذين رفضوا الدعوة الاسلامية السلمية وحاربوها وأخرجوا أهلها من ديارهم. ومن هذا المنظور تبدو امتداداً مباشراً لبيعة العقبة الأولى والثانية، وهما عقدان أبرمهما النبي ص في مكة مع رجال من أهل يثرب المدينة قبل هجرته اليها، وكانا في الحقيقة والواقع تمهيداً وإعداداً للهجرة. أما "بيعة العقبة الاولى" فقد تمت حين خرج الرسول ص في أحد مواسم الحج يعرض نفسه على القبائل فلقي جماعة من الخزرج من أهل المدينة فعرض عليهم الاسلام، فقبلوا ولكن بدون الالتزام بالقتال معه، ووعدوا أن يعرضوا الأمر على قومهم، فلما قدموا المدينة أخبروا قومهم بما جرى بينهم وبين الرسول ودعوهم الى الاسلام فلقي استجابة مهمة وأخذ ينتشر فيهم. فلما كان العام التالي جاء الموسم جماعة من الأنصار أكثر عدداً فاجتمعوا بالنبي وطلبوا منه توضيح ما يريد منهم فقال: "تبايعوني على السمع والطاعة في الكسل والمنشط، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله، لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم، ولكن الجنة" تسمى هذه البيعة في بعض المراجع: بيعة النساء. ولما أبدى أحد أعضاء الوفد تخوفه من أن يعود الرسول الى أهل مكة عندما ينتصر ويترك أهل المدينة أجابه ص قائلاً: "بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". قال أحد الذين حضروا هذه البيعة "بايعنا رسول الله ص بيعة الحرب". تجعل بعض الروايات هذه البيعة بيعتين: بيعة النساء: العقبة الثانية. وبيعة الحرب: العقبة الثالثة. يمكن أن نستعيد هنا السؤال الذي طرحناه في مقال سابق وتساءلنا فيه: لماذا لم تتطور فكرة "الفطرة"، التي توازن في الفكر الاسلامي "حالة الطبيعة" في الفكر الأوروبي، الى مفهوم "حقوق الانسان" الخ؟ يمكن أن نستعيد صيغة هذا السؤال فنقول: لماذا لم تتطور أنواع العقود التي عرفها المجتمع العربي الاسلامي عقد الصحيفة وعقود الإمامة المختلفة المتنوعة الى نظرية في العقد الاجتماعي؟ أؤكد هنا أن الهدف من هذا السؤال ليس الحصول على جواب - فهذا النوع من الأسئلة غير علمي كما شرحت في المقال المشار اليه - بل الهدف منه التوضيح بواسطة المقارنة. وفي هذا الاطار، يمكن القول: ان ما عرفه المجتمع العربي الاسلامي من عقود - وكلها عقود بيعة - كان عبارة عن تنظيم عملي للسلطة، سواء كانت البيعة عقداً حقيقياً مبنياً على التشاور والاختيار كما كان الحال زمن الخلفاء الراشدين، أو كانت مجرد اجراء شكلي لاضفاء شرعية شكلية على أمر واقع، كما آل اليه الأمر منذ أن انقلبت الخلافة الى ملك عضوض مع معاوية. وحتى إذا اقتصرنا على العقد الذي كان يستحق أن يكون النموذج والمثال في "المدينة الاسلامية"، أقصد "صحيفة النبي" التي تحدثنا عنها قبل، فإننا سنجد الناحية العملية فيه أقوى وأبلغ، مما يجعل من "العقد الاجتماعي" الذي قررته عقداً من أجل التطبيق الآني وليس من أجل التنظير للمستقبل. ربما كان هذا الطابع العملي التطبيقي الذي رافق "الصحيفة" هو السبب الذي جعلها تبقى مجرد وثيقة من وثائق الماضي تورد بنصها أو يشار اليها في كتب التاريخ وحدها. وربما كان هذا أيضاً من جملة العوامل التي تفسر، جزئياً على الأقل، عدم تطور "الكلام في الإمامة" في الاسلام الى طرح فكرة "العقد الاجتماعي" على الشكل الذي طرحت به في أوروبا. على أن "الكلام في الإمامة" اتجه منذ بدايته الى الكلام في سياسة الماضي: في خلافة الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، خصوصاً عندما أنكر "الرافضة" من الشيعة شرعية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وحصروا الشرعية في علي بن أبي طالب وذريته، اضافة الى أنهم جعلوا الإمامة بالوصية، لا بالاختيار، وبالتالي فلا مجال لفكرة العقد في هذا النوع من الرؤية. أما أهل السنة الذين جعلوا من الإمامة "عقداً" يتم بالاختيار فقد ربطوا هذا العقد وكيفيته، لا بما ينبغي أن يكون، بل بما كان زمن الخلفاء الأربعة، مستوحين ما يقرره الفقهاء في عقد البيع كاطار قانوني. وإذن، فلقد كان الكلام في الإمامة في الأصل، جزءاً من الصراع السياسي بين الشيعة والسنة، وكان الهدف منه إضفاء الشرعية - أو نزعها - على تجارب في الحكم ماضية. ولما أخذ هذا الماضي في الابتعاد عن الحاضر صار الكلام في "الخلافة" عند أهل السنة، وفي "الإمامة" عند "الشيعة"، يميل أكثر فأكثر نحو تبرير الواقع الذي يفرضه ميزان القوى في الصراع من أجل الحكم راجع في هذا الصدد تكوين العقل العربي ص 107 وما بعدها، والعقل السياسي العربي ص 355 وما بعدها. كان الصراع سياسياً محضاً ولم يكن الدين فيه طرفاً، لا على مستوى النصوص ولا على مستوى ما قد يكون هناك من تناقض بين من يتحدثون باسم النصوص ومن يمارسون الحكم. أما في التجربة الحضارية الأوروبية فالصراع الذي منه خرجت فكرة العقد الاجتماعي وفيه تطورت كان صراعاً من نوع آخر. صراع بين قطبي هذه التجربة في العصور الوسطى: الدولة والكنيسة. ومن هنا يمكن القول، كجواب عن السؤال الذي طرحناه آنفاً، إذا كان لا بد من جواب: ان مبدأ "عقد البيعة" في الاسلام لم يتطور الى "عقد اجتماعي" بالمعنى الأوروبي للكلمة لأن الاسلام لم يعرف الكنيسة كهيئة دينية اجتماعية لها السلطة الروحية وتنافس الدولة على السلطة الزمنية. وفي المقالات التالية ما يوضح هذه الفكرة.