يمكن ان يعزى غياب النص الديني في نقاشات المسلمين في اجتماع السقيفة الذي عقد في ظهر يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في العام 11 للهجرة الى احتمالين: أولهما عدم وجود النص الديني ذي العلاقة فيما هم بصدده، أي اختيار حاكم لهم. ولنسمي هذا الغياب الوجودي للنص الديني، وهذا الاحتمال يصدق على القرآن الكريم على الأقل الذي خلا من نصوص تحدد سبل اختيار الحاكم وان كان أشار في مناسبة واحدة الى ان من خصائص مجتمع المسلمين ان "أمرهم شورى بينهم" من دون ان يعطي تفصيلات وافية عن الشورى وكيفيتها وشروطها والياتها، وهو أمر لم يقم به الرسول أيضاً على رغم انه مارس الشورى كثيراً. وهو أمر سيفسره رشيد رضا بأسباب كثيرة أهمها ان هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها الرسول بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجاً وكان النبي يعلم ان هذا الأمر سينمو ويزيد وان الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك. فكل هذا كان مانعاً من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الاسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي وفي العصر الذي يتلو عصره اذا تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الاسلام أو في سلطان الاسلام، اذ لا يمكن ان تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم ان يترك النبي وضع قواعد الشورى للأمة تضع في كل حال ما يليق بها بالشورى1. وحتى لو صدق هذا التفسير، فلا بد من ملاحظة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يمارس عملية التوعية في نظام الشورى وتفاصيله التشريعية أو مفاهيمه الفكرية، لأن هذه العملية لو كانت قد انجزت لكان من الطبيعي ان تنعكس وتتجسد في الأحاديث المأثورة عن النبي أو في ذهنية الأمة، أو على أقل تقدير في ذهنية الجيل الطليعي منها الذي يضم المهاجرين والأنصار بوصفه هو المكلف بتطبيق نظام الشورى، مع اننا لا نجد في الأحاديث عن النبي أية صورة تشريعية محددة لنظام الشورى2. وهذا قد يفسر لماذا لم تكن قواعد الشورى ومفاهيمها وآلياتها واضحة في أذهان سكان المدينة، أو على الأقل أولئك الذين شاركوا في اجتماع السقيفة وهم يمثلون النخبة الفكرية والسياسية للمجتمع، وضوحاً كافياً لاقامة مؤسسة شوروية في المجتمع تكون احدى ركائز الدولة ويمكن ان تتطور مع تطور الدولة وتعقد الحياة السياسية للمجتمع. ولهذا لم تنعكس ذهنية الشورى على نقاشات السقيفة بصورة ملموسة، أو فيما وصلنا منها على أقل تقدير. اما الاحتمال الثاني في تفسير ظاهرة غياب النص الديني في نقاشات السقيفة فهو ان النص موجود بالفعل في حديث أو أحاديث للرسول الا انه لم يتمكن من نفوس المسلمين لحداثة عهدهم به. ولنسمي هذا الغياب الحضوري. فحضور النص في الوعي والممارسة هو الغائب وليس وجوده في الكتب. وهذا أمر يمكن قبوله على مستوى البحث الاجتماعي، حيث ثبت في الخبرة التاريخية ان المجتمعات تحتاج الى وقت طويل حتى تتمكن النصوص من صياغة ذهنيتها العامة وسلوكها اليومي خصوصاً في الشؤون السياسية التي هي ساحة طبيعية للصراعات والمنافسات التي تتراجع أمام حدتها النصوص الدينية وحتى المواعظ الأخلاقية. وقد غابت نصوص دينية كثيرة فعلاً عن الحياة السياسية لمجتمع المسلمين الأول في المدينة والمجتمعات الاسلامية في العصور اللاحقة. والا فهل يستطيع الباحث ان يجد اثراً لقوله تعالى في القرآن الكريم: "وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" الحجرات9؟ لقد كان من المتوقع ان تلعب هذه الآية دوراً كبيراً في القضاء على ظاهرة الحروب الأهلية التي اجتاحت مجتمعات المسلمين منذ حرب الجمل العام 36 هجرية أو على الأقل ان تحد منها. ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، حيث بقي المسلمون منغمسين في حروبهم الأهلية بعيدين كل البعد عن هذا النص القرآني بالغ الأهمية. بل ان نصاً دينياً مهماً غاب عن أذهان المسلمين فور وفاة الرسول وما شكلته من صدمة نفسية أدت الى نسيان هذا النص لفترة. قال الطبري انه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عمر بن الخطاب وقال: ان رجالاً من المنافقين يزعمون ان رسول الله توفي، وان رسول الله، والله ما مات ولكنه ذهب الى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد ان قيل قد مات، والله ليرجعن رسول الله فيقطعن ايدي رجال يزعمون ان رسول الله مات، وظل عمر يكرر هذه المقولة حتى جاء أبو بكر وقرأ آية "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، فاستعاد الناس وعيهم بهذا النص. قال أبو هريرة: والله لكأن الناس لم يعلموا ان هذه الآية نزلت على رسول الله حتى تلاها أبو بكر، وقال عمر: والله ما هو الا ان سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت الى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت ان رسول الله قد مات3. تداعى المسلمون الى الاجتماع في السقيفة يوم وفاة الرسول، اذن، وقد انتهى وعيهم السياسي من اقرار ضرورة وجود السلطة أو الأمير، أولاً، وان هذه السلطة دنيوية في جوهرها ثانياً، وان لهم باعتبارهم رعايا هذه السلطة رأياً في من يتولاها ثالثاً. واذا كانت المسألتان الأولى والثانية محل وفاق واتفاق بين مسلمي المجتمع الأول، فإن المسألة الثالثة هي التي اختلفت آراؤهم بشأنها. وكان ثمة ثلاثة آراء: رأي قال بوجوب ان يكون الحكم في أهل الرسول، أي بني هاشم عامة، وعلي خاصة. ورأي رأى ان الحكم للأنصار. أما الرأي الأخير فاعتبر ان المهاجرين من قريش هم وعاء السلطة النبوية وورثتها. وكان تنازع أولئك المسلمين على السلطة بعد وفاة الرسول ومحاولة كل فريق منهم حل مشكلة خلافة الرسول بما يراه دليلاً على نوعية وعيهم السائد آنذاك لموضوعية السلطة في المجتمع. عبّر العباس عم النبي عن الرأي الأول، حين جاء الى علي بن أبي طالب وقال له: "ابسط يدك أبايعك"، فرفض الأخير قائلاً: وهل يطلب هذا الأمر غيرنا؟ وهي ثقة عالية في حتمية تولي السلطة في مجتمع سوف يمزقه الصراع السياسي حولها بعد حين! وهذه الثقة، التي تبدو غريبة في مجتمع لم تستقر بعد تقاليده السياسية وعلى رأسها مسألة خلافة مؤسس الدولة، بحاجة الى تفسير! ورفض الأنصار الرأي الثاني، وقال الزعيم الأنصاري سعد بن عبادة للأنصار في اجتماع السقيفة: "فشدوا ايديكم بهذا الأمر، فانكم أحق الناس وأولاهم به"، ووافقوه على رأيه. لكن ما لبث النزاع القديم بين فئتي الأنصار قبل الاسلام أي الأوس والخزرج ان اثر في وحدة الموقف الأنصاري لصالح موقف المهاجرين. اعترض المهاجرون، وهم أصحاب الرأي الثالث، على دعوة الأنصار وقالوا لهم ان المهاجرين أول الناس اسلاماً، وبالتالي فهم أحق ان يتولوا "سلطان محمد" وهو مصطلح سيتردد كثيراً في نقاشات السقيفة كاشفاً عن الوعي الزمني لطبيعة السلطة التي خلفها النبي محمد في المدينة، وعرضوا عليهم ان يكونوا وزراء في سلطة يتولاها المهاجرون. وحاول الأنصار ترضية المهاجرين بطرح مبدأ السلطة المشتركة على قاعدة "منا أمير ومنكم أمير"، أو مبدأ تداول السلطة ومداورتها بين الأنصار والمهاجرين، مرة من هؤلاء وأخرى من هؤلاء. لكن المهاجرين رفضوا الاقتراحين وأصروا على الانفراد في تولي السلطة وقالوا للأنصار: "نحن الأمراء وانتم الوزراء"4. كان النقاش، اذن، يدور حول سلطة سياسية دنيوية زمنية بشرية وليس حول مسألة دينية تجري فيها احالات الى نصوص دينية أو قواعد فقهية. وبقي احساس المسلمين بمسؤوليتهم عن التصدي لحل مشكلة تولي السلطة في مجتمعهم الى وقت متقدم من خلافة عمر بن الخطاب، حين صدر النهي عن التفكير بأمر خلافة الخليفة اذا حصل له أمر في آخر حجة له 5 في العام 23 للهجرة 6، ثم انفجر هذا الوعي في خلافة عثمان الذي سيطرح مفهوماً جديداً للسلطة لم يكن متداولاً في عهدي الخليفتين السابقين حين اعتبر السلطة منحة الهية، وقال: "لا أنزع قميصاً ألبسنيه الله" 7، نافياً دور الناس في تولته السلطة، الأمر الذي سيتطور الى مفهوم أقرب الى السلطة المستندة الى التفويض الالهي على يد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور 136 - 158 للهجرة الذي قال ذات يوم: "انما انا سلطان الله في أرضه"8. وبمقتل علي، الذي قال ذات يوم للناس: "ان هذا أمركم، ليس لأحد فيه حق الا من أمرتم"9، اقصي المجتمع الأهلي تماماً عن السلطة حتى قال عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق لمعاوية بن أبي سفيان العام 51: "والله لتردن هذا الأمر شورى بين المسلمين". ولكن كان ذلك متأخراً، فقد مضى معاوية قدماً في خططه لتولية ابنه يزيداً الحكم، وتحقق له ما أراد بعد ان وجد من زين له أمره وناصره عليه وذلك في العام 56 للهجرة10، أي بعد أقل من نصف قرن من قيام الدولة. لكن المسلمين لم يكونوا متفقين على كيفية تولي السلطة. هذا الأمر لم يكن واضحاً في أذهان من شاركوا في مؤتمر السقيفة أو على الأقل ان نقاشاتهم لم تسفر عن وضوح للرؤية في هذا الأمر المهم والخطير. هذا على رغم انهم كانوا جميعاً مسلمين مؤمنين ولم يكن بينهم مشرك واحد… ولا حتى علماني واحد! لقد قدم المشاركون في اجتماع السقيفة أسباباً لتأهيل كل مرشح للخلافة، لكنهم لم يتحدثوا عما يمكن اعتباره شروطاً دينية لتولي الخلافة. فللأنصار "سابقة في الدين وفضيلة في الاسلام ليست لقبيلة من العرب"، والمهاجرون القرشيون "أول من عبدالله في الأرض وأول من آمن بالله تعالى ورسوله، وهم أولياؤه وعشيرته وأحق الناس بالأمر من بعده"، بل ان "العرب لا ينبغي ان تولي هذا الأمر الا من كانت النبوة فيهم"، أي قريش. لقد تولى السلطة في مجتمع المسلمين الأوائل أربعة خلفاء هم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأخيراً علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم جميعاً. ولو عدنا الى كيفية تولي كل واحد من هؤلاء السلطة لوجدنا ان هذه الكيفيات مختلفة ومتعددة بعدد هؤلاء الخلفاء. وهذا يؤكد مرة اخرى نظريتنا في شأن غياب النص الديني الخاص بهذا الأمر بأي كيفية فسرنا فيها هذا الغياب: سواء الغياب الوجودي أو الغياب الحضوري، علماً ان النتائج المترتبة على أي من التفسيرين ستكون مختلفة كثيراً عن نتائج التفسير الآخر. تولى أبو بكر 10 - 13 هجرية في ما وصفه عمر بن الخطاب "بيعة، فلتة لكن الله وقى شرها"12. وتولاها عمر 13 - 23 هجرية بعهد من أبي بكر جاء فيها: "هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن بها الكافر ويتقي بها الفاجر: اني استعملت عمر بن الخطاب…"13. وتولاها عثمان 23 - 35 هجرية بعد ان عهد عمر الى الستة، علي وعثمان وعبدالرحمن وسعد والزبير وطلحة، ان يختاروا أحدهم للخلافة في القصة المشهورة14. وتولاها علي 35 - 40 هجرية عن طريق البيعة العامة بعد ان رفض البيعة الخاصة وقال: "ان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون الا في المسجد"15. وليس هذا الأمر بلا دلالة بالغة. ان الدولة الاسلامية الأولى كانت تفتقد الى نسق دستوري وعملي واحد في انتقال السلطة وتوليها. الهوامش 1 - محمد رشيد رضا، المنار، دار المعرفة، بيروت، ط2، ج4، ص201. 2 - محمد باقر الصدر، بحث حول الولاية، دار التعارف، بيروت، 1990، ص24. 3 - الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مؤسسة الأعلمي، بيروت، ج2، ص442. 4 - راجع القصة الكاملة لاجتماع السقيفة في: ابن قتيبة الدينوري، الامامة والسياسة، دار الأضواء، بيروت، تحقيق علي الشري، ط1، 1990 ص21 - 28 والبخاري، المجلد الرابع، ص585 - 588 وابن الأثير، ج2، ص220 - 225 والطبري، ج2، ص445 - 453. 5 - صحيح البخاري، دار القلم، بيروت، المجلد الرابع، ص586. 6 - ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص25. 7 - ابن الأثير، ج3، ص85. 8 - السيوطي، تاريخ الخلفاء، ص212. 9 - ابن الاثير، ج3، ص99. 10 - ابن الأثير، ج3، ص249. 11 - هذه النصوص في الامامة والسياسة، ج1، ص 22 - 25. 12 - صحيح البخاري، مصدر سابق، المجلد الرابع، ص587. 13 - ابن قتيبة، عون الأخبار، منشورات الشريف الرضي، القاهرة، 1925، ج1، ص14، والكامل في التاريخ لابن الأثير، ج2، ص292. 14 - ابن الاثير، ج3، ص35. 15 - ابن الأثير، ج3، ص98.