كان الدكتور غازي صلاح الدين العتباني وزير الثقافة والإعلام السوداني محط اهتمام وأضواء في الآونة الأخيرة بعدما تصدر اسمه أصحاب "مذكرة العشرة" التي أسفرت عملياً عن تحجيم دور الدكتور حسن عبدالله الترابي في إدارة الدولة السودانية من خلال تنظيمها السياسي المؤتمر الوطني، في ما عُدّ "انقلاباً أبيض" لمصلحة رئيس الجمهورية الفريق عمر حسن البشير. وتزامنت أحداث "الانقلاب الأبيض" مع استضافة العاصمة السودانية عدداً من وزراء الخارجية والداخلية الافارقة الذين شاركوا في مؤتمر اللاجئين الذي رعته منظمة الوحدة الافريقية في الخرطوم. وكان ملفتاً مشاركة نائب وزير الخارجية الاثيوبي الدكتور تيكيدا ألمو ووزير خارجية اريتريا هايلي ولد تنسائي على رغم ما يشوب علاقات السودان بهذين البلدين. وفضّل الوزير السوداني أن يجيب بديبلوماسية واقتضاب عن التساؤلات في شأن تباين وجهات النظر داخل القوة الحاكمة في البلاد، لكنه استرسل من دون تحفظ في شأن العلاقات مع دول الجوار ومع القوى الكبرى المعادية للسودان. هنا نص الحوار: أعلنتم بدء مرحلة جديدة من الديموقراطية في السودان في غياب الأحزاب السياسية الرئيسية. إلى أي مدى تتوقعون نجاح هذا النهج؟ - نحن نعتبر الشعب السوداني القاعدة لكل الأحزاب، فالشعب السوداني موجود في السودان، ومن تسميهم الأحزاب الرئيسية مجرد وفود ومجموعات. وتشير الأحداث إلى أن التيار يتجه عكس تطلعاتهم الفردية. وقانون التوالي السياسي مرتكز لإنشاء أحزاب تعبر عن طموحات الشعب الذي عانى الأخطاء والسلبيات السابقة للانطلاق بالسودان نحو التعددية والديموقراطية عكس المراحل السابقة التي كانت ترتكز على المظالم الفردية والحجر باسم الديموقراطية. إن قانون التوالي يحفظ حقوق كل سوداني بحيث تكون صناديق الاقتراع الحكم الوحيد بين المنتخبين والناخبين، وعليه فإن قانون التوالي ناجح لا محالة، لأن الشعب السوداني هو داعمه الأكبر، مثلما هو حامي ثورته من كيد المتآمرين عليها، وفي مقدمهم قوى الاستكبار وحلفائها الاقليميين، مستخدمين بعض قادة الأحزاب أداة لتنفيذ المخططات الأجنبية. ما مدى صحة الأنباء التي تشير إلى اتصالكم بأحزاب المعارضة السودانية؟ - الغريب نحن أيضاً نسمع الكثير من هذه الاشاعات والأنباء المتضاربة. لربما كانت المعارضة هي التي تتصل بالحكومة، ولكن في المرحلة الآتية ليس المهم من اتصل بمن، لكن المهم اننا فتحنا الباب لكل الفئات في إطار قانون التوالي السياسي، واسقطنا كل الحجج التي كانت تتشبث بها المعارضة وتهاجم ديموقراطية النظام والنظام نفسه. ولا اظن ان هناك حججاً يمكن ان تتخذها المعارضة لتتاجر عن طريقها باسم السودان والديموقراطية فيه. والحقيقة، إذا قارنا بين ديموقراطية النظام ودول الجوار، فنحن الآن نتحدى أي ادعاء يشير إلى ان دول الجوار تتمتع بجو ديموقراطي أكثر مما يتمتع به السودان والسودانيون. الآن وضعنا المعارضة في امتحان صعب للغاية، وذلك بتحكيمنا صناديق الاقتراع. وهذا الامتحان قرار نهائي لا تراجع عنه، لأنه خيار أهل السودان. يتردد وجود تباينات داخل الحزب الحاكم، ما مدى صحة ذلك؟ - إنها تكهنات تروجها بواقي المعارضة في الخارج، وكثيراً ما تروج أكاذيب لا أساس لها من الصحة. فما يحدث في السودان وفي مختلف مؤسساته هو تبادل لوجهات النظر في القضايا ذات الصلة بمصلحة المواطن والوطن يتفق بعضهم عليها وقد يختلف عليها في بعض الأحيان في إطار الشورى المتبعة في البلاد، وهو اسلوب حضاري انتهجناه لمعالجة جميع قضايا السودان في مختلف المسارات. حقيقة لا يمكن ان تسمي هذا خلافاً بقدر ما هو اجتهادات في إطار الشورى. فالقيادة السودانية الآن متفقة أكثر مما مضى، لأنها تجاوزت مرحلة تبلور الأفكار، لأنها اتفقت وخطت إلى مرحلة تنفيذ كل ما اتفقت عليه في أروقة مؤسساتها المتعددة، فما يروجه العملاء بعيد جداً عن الواقع. وهذا ناتج عن بعدهم عنه. هنالك من يتهمكم بتحويل السودان معتقلاً كبيراً... - لا ينكر أحد ان السودان يعيش الآن عصر الحريات الكبرى إلا من سولت له نفسه التبعية لقوى الاستكبار. وأظنك تابعت بنفسك المساحة الواسعة للحريات متمثلة في حرية الصحافة وكفالة كل الحريات للسودانيين، وبالمقارنة مع منطقة القرن الافريقي التي تعيش في تقلب دائم ومحدودية الحرية أحياناً، يمكن القول إن السودان امبراطور الحريات في المنطقة. كيف تنظرون إلى مستقبل العلاقات السودانية مع دول المنطقة، خصوصاً اثيوبيا؟ - اثيوبيا واحدة من أهم الدول بالنسبة إلى السودان، ولو عددنا دولتين فقط في افريقيا من حيث الأهمية للسودان لوجدنا فيهما اثيوبيا. ومقومات العلاقة الناجحة مع اثيوبيا موجودة في التقارب الثقافي والتاريخي والجوار الجغرافي، ولذلك نحن نولي اثيوبيا اهتماماً كبيراً جداً ونعتبر أنه ضروري أن تتطور العلاقات وتتقدم بخلاف الفترات السابقة حين كان المعيار السياسي هو المؤثر في التقارب والتباعد، وذلك بسبب مختلف الحكومات المتعاقبة في اثيوبيا أو السودان. وإذا نظرنا إلى الحكومة في البلدين وبغض النظر عن أحداث 1995 محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك، كانت الحكومتان توأماً، وأدت هذه التوأمة إلى نجاح مشاريع الحكومتين، والآن نحن ننظر بكثير من الرضا لأن الأحداث بدأت تعود إلى سابق عهدها وتدخل في إطار العلاقات التعاونية. كان السودان في علاقته بدول الجوار سابقاً يوصف بأنه مؤثر، أما الآن فأضحى مثار خلاف. ما تعليقكم؟ - لا يمكن أن ننسى أو نتجاهل حقيقة مهمة تتمثل في أن السودان يقوم بمشروع مهم وهو يفتخر به، وله اعتقاد بأن هذا هو الطريق الصحيح. والمشروع يبدو غريباً على المدى القريب، ولكنه على المدى البعيد يحرر من حالة التبعية في الافكار والموارد، ولا نقول إن السودان يحاول الانفراد بالمشروع وجر دول الجوار إليه، وأريد أن أشير إلى أن القيادة الاثيوبية تتمتع بروح الاستقلالية وإظهارها للثقافة الاثيوبية، لكن السودان مضي أو قطع شوطاً أبعد في هذه الناحية، ويحاول أن يشكل روحاً أبعد في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فنحن في السودان، وفق منهج ورؤية قائمة على استشعار الذات والتفرد والايمان، يمكن ان نقدم إلى الحضارة الإسلامية شيئاً جديداً. في البداية كنا على درجة من السذاجة باعتقادنا بأننا يمكن أن نجد المشروعية العالمية لأننا نملك المشروعية الوطنية، وكنا نجهل أن النظام العالمي القائم الآن مبني على فكرة ديكتاتورية متسلطة وقمعية قهرية لا تسمح بأي صوت معارض، ولذلك تحاول أن تفرض رؤية اقتصادية واحدة من خلال صندوق النقد الدولي، ورؤية سياسية واحدة من خلال آليات دولية معينة، وتحاول أن تفرض تعريفاً للعلاقات الأسرية والمجتمع. فإن كانت هنالك جهات ترى أن لديها الحق في أن تعيد تعريف حق الإنسان ودوره في الأرض فمصيرها الرفض الشديد من قبل قوى الاستكبار الدولية لأنها ترى فيه تهديداً لمصالحها. ويمكن ان نذكر أنه في بداية العام 1989، عند انهيار الاتحاد السوفياتي، العدو الشيوعي القديم، كان لزاماً على القوى المسيطرة على العالم أن تبحث عن عدو حضاري جديد، وأخذ السودان نموذجاً للتنكيل به وتشويه سمعته. وهكذا وجد الحلفاء الاقليميون هذه الصفقة، خصوصاً الذين يمتلكون إعلاماً قوياً، وأخذوا يروجون ما لا يخطر على بال باتهامات كاذبة ضد السودان بأنه يدرب الارهابيين في الشيشان والبوسنة وأفغانستان واثيوبيا وروسيا ويتحدثون ولا حرج عن دولة محدودة الموارد كالسودان، وللأسف هذه المسألة وفي وسائل الاعلام العالمية تقوم على امكانات مادية ضخمة. كيف ترون سبل حل الأزمة الصومالية؟ وما هو دوركم في ذلك؟ - طبعاً نحن لدينا اطروحة قوية وحاضرة في شأن الصومال، وظللنا نقول إنه إذا لم يستقر الصومال تحت ظل حكومة مركزية قوية فلن يستقر القرن الافريقي عموماً، لأن استقرار الصومال شرط لاستقرار المنطقة بأثرها. ونحن واعون جداً لأهمية ترابط الاقليم، ولذلك - خروجاً عن العرف التاريخي وتقاليد العلاقات الموروثة بين السودان واثيوبيا ازاء الصومال عبر الحكومات السابقة - بادرنا لضرورة إقامة لجنة مشتركة بقيادة اثيوبيا لايجاد الحلول في الشأن الصومالي، وانشئت اللجنة العام 1992 برئاسة اثيوبيا وعضوية السودان واريتريا. كان لدينا الوعي الكامل للتعاون مع اثيوبيا وليس الانفراد بعملية المصالحة في الصومال لتتعزز بذلك الشكوك الاثيوبية. ومن أهم أسباب إقبالنا على اثيوبيا وتعاوننا معها ايماننا الكامل بأن عملية المصالحة في الصومال معادلة لا بد من ادخال اثيوبيا فيها، ولا بد من أن تشارك اثيوبيا في صياغتها، وأن أي معادلة مصالحة تكون اثيوبيا خارجها، فهي فاشلة. وعملت اللجنة الاثيوبية - الاريترية - السودانية حتى العام 1994 وتوقفت عندما ساءت العلاقات مع اريتريا، وانهارت تماماً سنة 1995 عندما انهارت العلاقات السودانية - الاثيوبية. السودان ظل موجوداً في الصومال عبر سفارته، ولكن بعد الاهتمام الدولي ولمصلحة الشعب الصومالي انسحب السودان من الصومال، لأن الوجود السوداني في الساحة الصومالية قد يضر بالشعب الصومالي، وقد يستخدم ضد المصالحة الصومالية. وحدث فعلاً أن اشيع ان السودان يدعم حسين عيديد، وهذه أكاذيب. ما هو الجديد في جلوسكم مع الحكومة الاريترية إلى مائدة المفاوضات؟ - اريتريا مهمة جداً بالنسبة إلى السودان، فهنالك تقارب كبير جداً بين الشعبين اللذين ظلا على تواصلهما حتى في فترة انقطاع العلاقات، واستمر الاريتريون في هجرتهم إلى السودان لشح الأعمال في بلادهم. الآن وثبت على رغم الادعاءات الأميركية ان عامل الاستقرار في المنطقة هو السودان الذي يحتفظ بعلاقات حميدة جداً مع كينيا وتشاد وافريقيا الوسطى وزائير سابقاً وليبيا. إذن العدوان ليس من الطبائع السودانيين، ولكن النظام الاريتري اعتدى على كل جيرانه ولم يسلم أقرب الاقربين إليه، وهي منطقة تيغراي الاثيوبية التي ينتمي حكامه إليها عرقياً. وعلى كل حال، سمعنا من بعض المصادر داخل ما يسمى "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارضة السودانية أن النظام الاريتري اخطرهم بأن التقارب مع السودان ما هو سوى تكتيكي، ولكن نحن نتعامل بالظاهر، فعندما أعلنا اننا سنتحاور مع النظام الاريتري حددنا عناصر التفاوض والمفاوضات جارية، ونعتقد أنه لا بد من وجود تعاون وتكامل اثيوبياً واريترياً وسودانياً، والسؤال المطروح هو: إلى أي مدى يمكن للنظام الاريتري ان يتفهم هذه الحقيقة؟ والمنهج المطلوب هو الذي فيه كثير من الحكمة والتعقل وليست العقلية الاستفزازية. نحن نعطي النظام الاريتري الذي أوغل في الخصومة وفجر فيها فجوراً بالغاً الفرصة لاثبات نياته، فهو الذي سلم السفارة السودانية إلى عناصر التجمع، وأعلن أنه بكل ما أوتي من من القوة سيسقط النظام في السودان وهذا ما لم يحدث في التاريخ أبداً. والحقيقة لا نريد أن تكون علاقتنا مع اريتريا على حساب علاقاتنا مع اثيوبيا، لكننا نفكر في منظومة شاملة وجديدة للعلاقات في المنطقة وهو طرح ايجابي ومتقدم. ونعتبر ان مجرد فكرة التصالح رؤية جديدة للتضامن الشامل في المنطقة، أما إذا كانت تكتيكية لتحييد السودان في اتجاه اثيوبيا، وبعد انتهاء مشاكل اريتريا تتوجه لضرب اليمن والسودان وجيبوتي، فلن نقبل هذه الآراء والاطروحات. يبدو ان الرئيس الاريتري يراهن على دخول الدول العربية عن طريق البوابة اليمنية والسودانية... - البعد العربي في العلاقة السودانية - الاريترية حاضر وقوي جداً. معظم العرب يتعاطفون مع السودان بصورة واضحة ولأسباب تاريخية معروفة وثقافية. وهناك من يتعاون مع اريتريا لاستخدامها ضد السودان واثيوبيا. ويمكنك ان تقدر ما هي تلك الدول التي تتعامل على هذا الأساس. لكن الاجماع وروح التعاون العربي مجملاً يتعاطفان مع السودان بصفته بلداً عربياً، خصوصاً ان النظام اريتريا لم يجد مقابلاً مقنعاً يعزى الاخرين بالتحالف معه. أين تكمن المصلحة العربية في نشوب حرب بين اريتريا واثيوبيا؟ - للأسف الشديد ان السياسة العربية ومقدار الرشد فيها ضعيف جداً. في حديث مع رؤساء دول وحكومات وجدت ان لديهم ميلاً غير مؤسس تجاه اريتريا، وهذا بالضبط ما أشرت إليه في محاضراتي السابقة، وهو ناتج من أن العرب يتصورون ان اثيوبيا عدو أبدي لهم