يواجه الكتاب العربي منذ سنوات تحديات كبيرة، من بيروت التي جاء معرضها الأخير للكتاب ليكشف قبل أسابيع عن مراجع النشر وأزماته، إلى القاهرة التي تحتضن هذه الأيّام معرضاً دولياً يسلّط الضوء على كمية المصاعب والتحديات التي يواجهها الكتاب العربي. فإضافة إلى "الفورة" الفضائية للقنوات التلفزيونية، وسيادة نمط من الثقافة الاستهلاكية، هناك عوامل ذاتية وموضوعية، تجعل الكتاب في آخر قائمة المشاكل التي تسعى الدول العربية إلى حلها. لقد سقطت اسطورة المئة مليون قارئ عربي بتعبير الناشر رياض نجيب الريس، أمام حقيقة مفادها ان أكثر الكتب مبيعاً لا يطبع منه أكثر من 3 آلاف نسخة. وعلى الرغم من ان سورية من البلدان العربية الأكثر تداولاً للكتاب، قراءة ونشراً وتوزيعاً، فإن اشكاليات نشره وتوزيعه بدأت تأخذ في الآونة الأخيرة وضعاً مأسوياً، نتيجة ظهور نمط هزيل من الناشرين نشروا الفوضى في هذا المجال الثقافي الحيوي والرحب. لقد أخذت حركة النشر منذ مطلع التسعينات تتحرك بتسارع عجيب، ليس على صعيد النوع، بقدر ما هو على صعيد الكم، وفاق عدد دور النشر قدرة أي احصائي على حصره. اسماء طنانة، وشعارات معقدة، وغالباً لا يزيد طاقم الدار على موظف واحد هو المدير والمالك والموزع والناشر. يشبّه الناشر السوري حسين عودات صاحب "دار الأهالي" هذه الدور بالبقالات الصغيرة، ويوضح قائلاً: "الناشر هنا يعمل بعقلية "الدكنجي"، إذ تجده يتبع سبلاً لا تليق بناشر: يرفع السعر سنوياً، يبيع بأسعار مرتفعة للزبائن غير الخبيرين، ويقيم معارض أشبه ما تكون بتجارة المفرّق". ويتابع عودات: "ان الظرف العام والسوق لا يمكن ان يحوّلا هذا "الدكنجي" إلى صاحب سوبرماركت". ويشير إلى مجموعة العوامل التي فاقمت أزمة النشر، والتي يحتل فيها سعر الكتاب المرتفع المرتبة الأولى، حيث أن معظم مقتني الكتب هم من ذوي الدخل المحدود الذي لا يتناسب مطلقاً مع أسعار مبيع الكتب. ويوضح الناشر السوري صقر عليشي صاحب "دار الينابيع" ل "الوسط" أسباب ارتفاع سعر الكتاب، قائلاً: "لا توجد في كل الوطن العربي صناعات تساهم في حل مشكلة النشر. فالعرب يستوردون معظم حاجاتهم من ورق الكتب، وكامل الأحبار، وآلات الطباعة وآلات التصوير والأفلام والزنك. ولهذه المواد أسعار عالمية لا تتناسب ودخل المواطن، لذا تجد هذا التناقض بين سعر الكتاب والقوة الشرائية للقارئ". ويضيف عليشي: "هناك أمور أخرى تساهم في رفع سعر الكتاب، منها ان معظم الدول العربية تتقاضى رسوماً جمركية على الكتب، وهذا يزيد من نفقات الكتاب، ووسائل النقل وشركات الطيران لا تعامل الكتاب معاملة خاصة... ناهيك بشركات البريد... كل ذلك يزيد من سعر الكتاب". ويرى عليشي أن ذروة المشاكل التي تحاصر الكتاب هي الرقابة. فهي "تفتقر إلى المعايير الثابتة والواضحة ولكنها متشددة في أغلب الأحيان، وهذا ينعكس على مصداقية الكتاب لدى القارئ العربي، فغالباً ما يشك القراء بجدوى الكتاب". ويرى معظم الكتّاب السوريين ان الاشكالات السابقة التي يتحدث عنها أصحاب دور النشر لا تنعكس على الكاتب وحقوقه، فكأنّه الضحيّة الوحيدة لهذه المصاعب والظواهر المختلفة. المؤلف والمترجم عبدالمعين الملوحي عنده قصص طريفة حول ذلك: "السرقة قديمة قدم التأليف" يقول الملوحي، ويتابع ضاحكاً: "لقد عانيت من نشر كتبي الأهوال وذقت الأمرين... إذ تقاضيت العام 1945 على ترجمتي لكتاب مكسيم غوركي "ذكريات حياتي الأدبية" جنيهاً مصرياً واحداً، بعد أن وُعدت بعشرة جنيهات. ومنحتني إحدى دور النشر البيروتية قاموساً عربياً - فرنسياً، لقاء نشرها لي ثلاثة كتب متوالية. أما عندما عرّبت كتاب رسول حمزتوف "داغستان بلدي" لإحدى الدور الدمشقية، وكنت قد ترجمته مع الاخ يوسف حلاّق وانتشر انتشاراً واسعاً وطبع خمس مرات وأكثر، تصدق عليّ الناشر ب 1106 ليرات سورية عداً ونقداً، في حين أن الدار ربحت من وراء نشر ذلك الكتاب ما لا يقل عن نصف مليون ليرة". ويضيف الملوحي: "لدى صدور الطبعة الثانية، ذهبت إلى دار النشر لعلي أظفر ببعض الليرات، فإذا بالناشر يشكو لي خسارته. وأذكر ان الاستاذ علي خلقي - رحمه الله، كان معي فمد يده إلى جيبه وأخرج 10 ليرات سورية هي كل ما بقي من راتبه وقدمها الى صاحب الدار تعويضاً عن خسائره". ووجد الملوحي حلاً لمشكلته المزمنة مع الناشرين، بأن كلّف نجله بتأسيس دار لنشر أعماله. لكن هل يمكن أن يؤسس كل كاتب داراً يقتصر نشاطها على اصدار أعمال صاحبها؟ ثم ماذا عن الكتّاب الشباب الذين ما زالوا حديثي العهد بعالم النشر، وأدغاله الموحشة؟ ماذا يفعل مترجم شاب أمام اجحاف دور النشر؟ يقول اسامة اسبر: "لا شيء... أقبل هذا الاجحاف لأنني لا أملك وسيلة اخرى لتحقيق مشروعي الثقافي، فأنا اعتبر الترجمة جزءاً من هذا المشروع". ويوضح اسبر ل "الوسط": "أنا اترجم ما اراه جزءاً من مشروعي، لذلك ترجمت لإدواردو غاليانو ولمايكل أونداتجي وغيرهما من الكتاب غير المعروفين عربياً". أما عن أسلوب تعامل الناشرين، فيقول هذا الكاتب والناشر الشاب: "لا توجد معايير محددة للترجمة. لكل دار تسعيرة، وكثير من الدور تبرم عقداً لإمتلاك الكتاب بعد نسف حقوق المؤلف الأصلي مسبقاً. وحتى طبيعة هذا العقد مجحفة للمترجم، إذ يؤجل الدفع إلى حين الطباعة أو التوزيع وغالباً يتم تقسيط الاجر على مراحل متباعدة". أما أصحاب مؤسسات النشر الصغيرة التي تهدف إلى التجارة أوّلاً، فيعتبرون أن هناك اجحافاً بحقّهم في وسط أهل الكتاب، وأن هناك تجنياً في اطلاق تسمية "الدكاكين" على مؤسساتهم. ويرى هؤلاء أن الأزمة تنعكس على دار النشر لأن الدار هي التي تدفع الأموال وليس المؤلف، وهناك من يبتز الكتّاب الشباب ويجعلهم يدفعون نصف التكلفة أو اكثر. يقول أحد هؤلاء الناشرين: "يأتينا كاتب مغمور يريد أن ننشر له كتبه، ويطلب فوق ذلك حقوقاً. أنا أجمد نقودي في المستودعات وهو يشهّر بي، ألا يكفي انني اسوق له اسمه...". لقد انعكس كل ذلك على مستوى الكتاب الذي راح في السنوات الاخيرة يفقد جديته وغناه. وبات من المستحيل أن نجد مؤلّفاً متفرّغاً لعمله. فلا أحد يجرؤ على طلب التفرغ من مؤلف، لأن الكتاب ببساطة هو جهد ضائع، غير مدفوع الأجر كما يردد الكتّاب، وبضاعة كاسدة كما يحب أن يردد كثير من الناشرين