يتباهى بعض الناشرين العرب في أنهم باتوا يسبقون الدور الأجنبية في نقل بعض الكتب الى العربية ولا سيّما الروايات الصادرة في أميركا اللاتينية. حصل هذا السبق أكثر من مرّة وصدرت كتب كثيرة في ترجمتها العربية قبل أن تصدر مثلاً في الترجمة الفرنسية أو الانكليزية أو الألمانية. وقد تكون "مذكرات" غابرييل غارسيا ماركيز التي صدرت لها ترجمتان عربيتان بعيد صدورها باللغة الأم، واحدة في دمشق وأخرى في القاهرة، خير دليل على السبق الذي بات يحرزه بعض الناشرين العرب في حقل الترجمة العالمية. وقد سبق الناشران العربيان هذان الناشرَ الفرنسي الذي أصدر للتوّ الترجمة الفرنسية للمذكرات. إلا أنّ الظاهرة هذه ليست سليمة على رغم طابعها "الايجابي" الذي يتجلّى في سرعة الترجمة والنشر. فالدور العربية في معظمها لا تلتزم قوانين الترجمة ولا تدفع الحقوق للكاتب ولا لناشره الأول. وهذه البادرة تسيء الى الكتاب مقدار ما تسيء الى الكاتب نفسه ليس ماديّاً فقط بل معنوياً أيضاً. فالترجمة والنشر هنا يصبحان نوعاً من القرصنة التي كثيراً ما تسيء الى حركة النشر وحركة التأليف وربّما الى "معنى" القراءة بدورها. ولا يحتاج الناشرون العرب الى من يذكّرهم بميثاق النشر العالمي وما يفترض أو يقتضي من شروط. وإذا ظنّ المترجمون العرب أنّهم أسرع في الترجمة من نظرائهم الفرنسيين أو الانكليز وسواهم فهم مخطئون حتماً. فحركة الترجمة في أوروبا والتي استطاعت أن تتفوّق على مثيلتها في الولاياتالمتحدة الأميركية وفق بعض التقارير، تشهد حالاً من الازدهار اللافت لا من خلال مرافقتها آداب الشعوب بسرعة وجدّية فقط وانما عبر الالتزام الثقافي الذي تعتمده مؤدّية خدمة حقيقية للكاتب والناشر والقارئ في آنٍ واحد. فالترجمة ليست مجرّد نقل نص من لغة الى أخرى مقدار ما هي حوار ثقافي بين لغة وأخرى، بين كاتب وقارئ وبين ناشر وجمهور. وقد وجب احترام الترجمة حتى التقديس" في أحيان كونها عملاً نبيلاً لا يقل إبداعاً عن الكتابة نفسها. سبق الناشران السوري والمصري إذاً الناشرَ الفرنسي في ترجمة مذكرات غابرييل غارسيا ماركيز وعنوانها "عشت لأروي" وحققا "ضرباً" تجارياً لا ثقافياً على رغم أنهما لم يروّجا لهذه الترجمة. ولولا بعض المقالات التي صدرت في صحف ومجلات عربية لما علم القارئ السوري والمصري بها أولاً ثم القارئ العربي الذي غالباً ما يجهد للحصول على كتاب صادر في بلد "شقيق". أما في باريس فبدا صدور "مذكرات" ماركيز أخيراً حدثاً ثقافياً وأدبياً عظيماً يخصّ القراء قبل أن يكون فعلاً تجارياً يخصّ الناشر. فالإعلانات عن "المذكرات" ملأت الصحف والمجلات، واحتلت اغلفة الكتاب وصور ماركيز واجهات المكتبات وبعض اللوحات الاعلانية في المترو والشوارع. ناهيك بما خصّصت له الصحافة من صفحات ومقالات بدت كأنها تحتفل به احتفالاً من غير أن تتخلّى عن الموضوعية والرأي النقدي. لم تتأخّر الترجمة الفرنسية عن الصدور إلا لما يتطلّب فعل النشر من انجاز للعقود واحترام للحقوق ووضع خطة للترويج الإعلامي والتوزيع... فالناشر الفرنسي يعلم تمام العلم ماذا ينشر أو كيف عليه أن ينشر كتاباً مؤلفه هو ماركيز صاحب "مئة عام من العزلة" هذه الرواية وصفها ميلان كونديرا، في مقال له كتبه حديثاً في مناسبة صدور "المذكرات"، بالعمل "الباهر" و"التخيل الحر"، وقال ان "كل جملة فيها تبرق بالفانتازيا، كل جملة فيه مفاجأة ودهشة". أدرك الناشر الفرنسي - على خلاف الناشرين العربيين - أن كتاب "المذكرات" حصيلة سنوات من الصمت والانقطاع، عاش فيها ماركيز تجربة المرض الذي ظلّ غامضاً ولم يعلن عنه صراحة. أدرك الناشر الفرنسي أيضاً أن حياة ماركيز وأعماله البديعة تتقاطع في هذا الكتاب وأن المذكرات تنسج ما يشبه الوثيقة التي تشهد على كولومبيا في تاريخها الحديث، سياسياً واجتماعياً و"بشرياً"، وعلى تقاليدها وعاداتها... من خلال ذكريات ماركيز الشخصية التي لا تقل طرافة وسحراً عن أجوائه الروائية. ترى هل علم الناشران العربيان أن "المذكرات" نفدت فور صدورها في كولومبيا والمكسيك وبعض العواصم الأميركية - اللاتينية، وأن ناشرين "قرصنوها" للفور وأن حراسة شديدة أقيمت حول أحد المستودعات في مكسيكو خشية أن تسرق النسخ؟ قد يحتاج الناشر العربي الى من يذكّره ببعض الكتب التي ينشرها من دون أن يعلم أنها كتب مهمة وأنها قد تدر عليه المال الذي يطمع به إنْ هو عمل على ترويجها لا كسلعة فقط وانما كقيمة ثقافية وأدبية! أما قضية حقوق الكاتب والناشر الأجنبي فهي باتت مدعاة لليأس ولم يعد الكثيرون من الناشرين الغربيين يهتمون لهذه القضية في العالم العربي بعدما أيقنوا أنّ من العبث أن يطالبوا بحقوقهم! لكن روائياً مثل الطاهر بن جلّون لم يتوان في احدى ندوات مهرجان أصيلة الأخيرة عن فتح النار على بعض الناشرين السوريين الذين قرصنوا كتبه وترجموها على طريقتهم من غير إذن ولا التزام بميثاق النشر! هل يستحق المترجمان والناشران، السوريان والمصريان، التهنئة على "السبق" الذي حققوه جميعاً في "قنص" كتاب ماركيز أم أن قضية القرصنة بلغت ما بلغت من فوضى و"فلتان" حتى أضحى أي كلام عنها ضرباً من العبث واللاجدوى؟