عندما أعلنت أخيراً منظمة "ايتا" التي تنادي بانفصال اقليم الباسك عن اسبانيا، عن هدنة مفتوحة من طرف واحد، عادت إلى البال صورتها المرتسمة في الذاكرة منذ ربع قرن. ففي ذات يوم من العام 1973 لعلع صوت مذيع الراديو بخبر مقتل رئيس وزراء اسبانيا لويس كاريرو بلانكو على يد المجموعة الانفصالية، وبدت المنظمة وكأنها خارجة من قصص آغاثا كريستي أو أفلام جيمس بوند، لتكتسب شهرة اسطورية ليس لنجاحها في توجيه ضربة مؤلمة لنظام الجنرال فرانكو، بل أيضاً بسبب كيفية توجيهها. فناشطو المنظمة حفروا نفقاً زرعوه بالألغام تحت طريق ستجتازه سيارة رئيس الوزراء. وفي اللحظة المناسبة ضغطوا زر جهاز التفجير فأحالوا الموقع إلى تلال من الركام اندثرت تحتها جثة الرجل الثاني في نظام الديكتاتور ومعها هيبة هذا النظام. ولم تكن "حذاقة" ناشطي المنظمة التي تأسست العام 1958 موضع شك، فأذهانهم كانت تفتقت قبل سنوات عن خطة مثيرة لدفع قطار بعيداً عن سكته بقصد التسبب في حادث مريع يؤدي إلى مقتل عدد من السياسيين الذين استقلوه. إلا أن الفاصل بين اغتيال رئيس الوزراء وعملية القطار كان حوالي 12 عاماً، كاد الناس خلالها ينسون "ايتا". إلا أن المنظمة الباسكية اثبتت لاحقاً ان اختيار الأهداف بعناية هو محور استراتيجيتها العسكرية، ما دفعها إلى تنفيذ عملياتها على مراحل تفصل بينها "استراحات" تطول أحياناً. وهكذا مرت 14 سنة على حادث الاغتيال قبل أن تقتل متفجرات زرعتها المنظمة "الارهابية" 21 شخصاً في برشلونة. والنشاط الذي لطخ سجل المجموعة الانفصالية بدماء حوالي 800 شخصاً خلال 30 عاماً، كان سينتظر حتى 1995 كي يتوج بعملية استهدفت سياسياً من الصف الأول: رئيس "الحزب الشعبي" خوسيه آزنار ماريا بسيارة مفخخة. لكن سرعان ما اندملت جراحه وانتصر في الانتخابات التي خاضها كأحد ضحايا الارهاب. فشكل حكومة أخذت تحارب الانفصاليين بضراوة غير مسبوقة. والحرب مع نظام آزنار، الذي اعتبرته "ايتا" الخليفة الشرعي للديكتاتور فرانكو، وصلت إلى ذروتها العام الماضي بسبب تصعيد المنظمة حملة الاغتيالات التي خاضتها ضد عدد من ممثلي "الحزب الشعبي" في الباسك. وفي تموز يوليو 1997 نزل إلى الشوارع 6 ملايين متظاهر اسباني للتنديد بالارهابيين، اثر اغتيال عضو في المجلس البلدي احتجزوه ليومين. برود آزنار ولعل هذا السخط العام ذكّر ايديولوجيي "ايتا" بأن الآوان قد حان لادراك الواقع، فالعالم تغير، وفقد العنف الثوري هالة الإثارة، التي أحاطت به في الستينات والسبعينات. أما رفاق الأمس فمنهم من قضى ومنهم من يكابد في السجون، أو اختار طريق السلام مثل "الجيش الجمهوري الايرلندي". ومع أنهم استطاعوا تحريك حوالي 20 ألف شخص في تظاهرة مضادة هتفت بحياة "مقاتلي ايتا"، فليس من المستبعد ان يكون الانفصاليون المسلحون بدأوا يفكرون في الصيف الماضي بضرورة تغيير استراتيجيهم لأن العنف لم يعد مجدياً. لكن العمليات ضد السياسيين المحليين استمرت وسقط آخر الضحايا قبل نحو 3 أشهر. ثم كان الصمت قبل إصدار البيان المفاجئ عن "وقف كل أنواع العمل المسلح إلى أجل غير مسمى"، لأن الاقليم يشهد ولادة تيارات "غالبية سياسية" جديدة مما يشجع على "المغامرة" باتخاذ خطوات غير مسبوقة في سبيل اعطاء شعب الباسك "استقلاله وسيادته". إلا أن هذا التمسك بهدف "تحرير" الاقليم وإصرار المنظمة على عدم إلقاء سلاحها واحتفاظها ب "حق الدفاع عن النفس" دفع غالبية الاسبان إلى اعتبار المبادرة السلمية مجرد خدعة. ولفت معلقون إلى أن توقيت إصدار البيان من شأنه ان يساعد حزب "هيري باتاسونا" الوحدة الشعبية - الرديف السياسي لمنظمة "ايتا" - على استمالة عدد أكبر من الناخبين استعداداً للانتخابات المحلية في 25 تشرين الأول اكتوبر المقبل. وواضح ان الحزب يبذل منذ فترة جهوداً لإستعادة دعم شعبي خسره خلال موجة الاغتيالات التي نفذتها "ايتا". لذلك اختار لنفسه اسماً جديداً هو "حزب أبناء الباسك". ودخل في تحالف مع "حزب الباسك الوطني" المعتدل الذي ينادي ب "تحرير" الاقليم بوسائل سلمية. وترسيخ التحالف السياسي بين أبناء الباسك قد يؤدي إلى تجريد الأحزاب الاسبانية الرئيسية، وفي طليعتها "الشعبي" الحاكم و"الاشتراكي" المعارض، من سطوتهما الانتخابية. وهذا قد يفسر، في أحد جوانبه، البرود الذي غلب على ترحيب رئيس الوزراء آزنار ووزير الداخلية بالمبادرة السلمية. لكن لماذا لا يكون سعي "ايتا" ورديفها السياسي للتصالح مع الناخبين دليلاً على صدق نيتهم، وليس على "خداعهم"؟ أليس من المنطقي أن يحاولوا رفع أسهمهم الشعبية كأي حزب آخر، إذا كانوا صادقين فعلاً في نبذهم العنف؟ وتشبثهم بالسلاح له مبررات، موقتة على الأقل. فكيف تلقي منظمة "ارهابية" بأسلحتها وتستسلم من دون قيد أو شرط مضحية بأقوى ورقة في يدها؟ ومن جهة أخرى، يبدو ان "ايتا" كانت بدورها ضحية عنف رسمي، إذ سقط حوالي 30 من أعضائها ضحايا حملة اغتيالات شنتها بين 1983 و1987 منظمة مشبوهة يشار إليها ب "غال". ويعتقد ان هذه المنظمة - ومجموعات أخرى نشطت بدءاً من 1975 - كانت على صلة بجهات رسمية، إذ اعتقل وزير الداخلية السابق خوزيه باريونيغو هذا العام بعد إدانته بالتورط في "حرب قذرة" ضد الانفصاليين. وبعيداً عن البيان التاريخي وتفاصيله و"غموضه المضلل"، ثمة دلائل تشير إلى أن مبادرة "ايتا" تستحق أن تؤخذ على محمل الجد. فالمنظمة التزمت اعلانها وقف اطلاق النار مرات عدة، استغرق آخرها 3 أشهر قبيل محادثات السلام الفاشلة التي عقدت في الجزائر عام 1989. ولدى المنظمة مبررات داخلية للسير على طريق السلام، إذ انحسرت شعبيتها وتضاءل حجمها بعد مقتل أو سجن عدد من ناشطيها. ويعتقد بأن مقاتليها لا يزيدون عن الخمسين. لذلك يبدو ان مبادرة السلام تهدف، في أحد جوانبها، إلى انقاذ المنظمة من الاندثار. وهذه النهاية لم تكن مستبعدة تماماً في ظل السياسة الصارمة التي تتبعها حكومة آزنار حيال "الارهابيين" وأنصارهم. وقد نجحت السلطات الأمنية أخيراً في القضاء على ثلاث خلايا رئيسية للمنظمة. وأمرت المحكمة باغلاق الصحيفة الناطقة باسم "ايتا" واعتقال قيادة "هيري باتاسونا" المؤلفة من 23 شخصاً بتهمة التعاون مع "الاهابيين". واستثمرت الحكومة قضية المعتقلين، الذين يزيد عددهم عن 600 رجل وامرأة، لممارسة مزيد من الضغط على "ايتا". الضمانة الأوروبية وإذا لم تكفِ أوضاع "ايتا" الداخلية للتطمين بأنها اختارت السلام فعلاً، ربما يكون تحالف الأحزاب المحلية المؤيدة للمبادرة والدور الذي لعبه الحزب الوطني المعتدل، خصوصاً، مؤشراً قوياً إلى حسن نية المنظمة "الارهابية". ويشكل التحالف ضمانة لعدم اخلال "ايتا" ورديفها السياسي بالتزاماتهما في سياق عملية سلام شاملة. والضمانة الأخرى، على أهميتها البالغة، معنوية وتتمثل في العلاقة الوثيقة التي ربطت بين "هيري باتسونا" و"شين فين" الإيرلندي منذ سنوات عدة، وإذا كان الرديف السياسي لمنظمة "الجيش الجمهوري الايرلندي"، وهو الصديق الأوسع خبرة، قد تخلى عن اسلوب "الكفاح المسلح"، لأنه لم يحقق أهدافه على امتداد 30 عاماً، فلماذا لا يحذو حذوه أصدقاؤه في اقليم الباسك؟ والتأثير الايرلندي على "ايتا" يلفت إلى الدور الأوروبي في حل النزاع. فأوروبا "متورطة" سلفاً في المشكلة، ذلك ان الانفصاليين يحملون على فرنسا ويتهمونها بتقاسم بلادهم مع اسبانيا. وكانت فرنسا مسرحاً لاغتيالات واعتقالات تعرض لها ناشطو "ايتا" وبعض قادتها. الأرجح ان تكريس الاتحاد بين دول القارة سيطمئن "ايتا" ويشجعها على المضي في عملية السلام. فوجود الاتحاد بقوانينه ومحكمته يعني أن المجموعات الاثنية الصغيرة والكبيرة لن تشعر بأنها تحت رحمة الحكومات المركزية القوية، بل تنتمي إلى كيان أوسع يهب إلى إحقاق الحق والانتصار للضعيف. هكذا، قد تكون أوروبا عاملاً مساعداً على إعادة الهدوء إلى الباسك، كما كانت في ايرلندا الشمالية، ولو بصورة غير مباشرة. ان حق الاسبان أن يشعروا بالأمل لأن الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل تمت سلفاً. فالاقليم يتمتع بأعلى درجة من الاستقلال الذاتي بين الاقاليم الپ17 في اسبانيا التي نص تشريع في العام 1978 على احداثها. ومع ان 25 في المئة من أهل الاقليم يتحدثون بلغته الاصلية، فإن هذه أصبحت لغة رسمية في الباسك مثل الاسبانية، وتتولى حكومة محلية الاشراف على شؤون التعليم والشرطة والصحة والثقافة وجباية الضرائب... صحيح ان أبناء اقليم الباسك الاسباني غير راضين عن تقسيمه إلى منطقتين منفصلتين، لكن مسألة توحيد الشطرين يمكن ان توضع على جدول المفاوضات كغيرها من القضايا. وإذا اقتنع الطرفان بأن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء غير ممكن، لن يكون الوصول إلى سلام شامل أمنية مستحيلة