عندما انعقد مؤتمر باندونغ اعتبر رئيس الوزراء الهندي يومها جواهر لال نهرو ان الحدث "سجل نزول اكثر من نصف سكان الكرة الارضية الى العمل السياسي في الشؤون الدولية". كان شديد التفاؤل بما سيحدثه هذا التحول الذي اراد، منذ البداية، رسم خط ثالث بعدما بدا ان عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية قد استقر على استقطاب حاد. المعسكر الاشتراكي من جهة، و"العالم الحر" من جهة ثانية. حلف وارسو من ناحية وحلف شمال الاطلسي من ناحية اخرى. موسكو ضد واشنطن. وكل من الطرفين يملك منظوره الخاص للعلاقات الدولية وداخل كل بلد ويحاول ان يكسب حلفاء واتباعاً حيث يستطيع. كان يفترض بنهرو ان يتنبه الى انه مغال في التفاؤل. فمنذ اليوم الاول دب الخلاف بين المجتمعين على اسم المولود الذي وضعوه. هل هو "عدم الانحياز" ام هو "الحياد الايجابي"؟ وفي حين استخدم بعضهم الاسم المركب فقد جرى الاكتفاء بالتعبير الذي بات شائعاً "حركة عدم الانحياز". تعقد هذه الحركة قمتها هذه الايام. ولعل السؤال الذي كان مطروحاً ايام التأسيس يعود ليصبح ملحاحاً اكثر اليوم: ما معنى "عدم الانحياز" الى المعسكر الاشتراكي او المعسكر الرأسمالي اذا كان الاول قد… اختفى! لقد ادى اضمحلاله ليس الى "حرمان الولايات المتحدة من عدو"، كما هدد ميخائيل غورباتشوف ذات مرة، ولكن، ايضاً، الى حرمان عشرات الدول مبرر التجمع الذي اقامته. استمرت حركة عدم الانحياز تعقد اجتماعاتها بعد انتهاء الحرب الباردة وكأن شيئاً لم يحصل. انها قوة الاستمرار قال بعضهم. ورفض بالتالي ان يأخذ في الاعتبار القرارات التي تتخذ ولا تنفذ، والحروب التي تضع اعضاء الحركة في وجه بعضهم البعض واضطرار هذه الدول، من وقت لآخر، لانتداب وزراء يدخلون في مناقشات لا تنتهي من اجل اصدار بيان ختامي لا اثر له. تنتهي حركة عدم الانحياز، بهذا المعنى، الى عالم الفولكلور. ومع انها المنظمة السياسية التي تضم اكبر عدد من الدول، بعد الهيئة العامة للامم المتحدة، فان ذلك لا يعني شيئاً. ولا يشك احد في ان القمة السنوية للدول الصناعية السبع او الثماني تلقي بوزن على احوال العالم اكثر من عشرات الدول "غير المنحازة" علماً ان الاولى نفسها تشكو من قلة الفعالية. لقد تغيرت هندسة العالم الى حد ان ما كان يبدو فولكلورياً يمكنه ان يصبح هزلياً ما لم يتم تدارك الوضع. تقضي الحقيقة القول ان "حركة عدم الانحياز" لم تكن متوازنة يوماً. فلقد جعلها عنف الاستقطاب الثنائي متشكلة من دول هي اقل من غيرها انحيازاً الى هذا المعسكر او ذاك. ويميزها ذلك عن الدول الحيادية القليلة سويسرا، النمسا، السويد…. وتدل وقائع المؤتمرات السابقة للحركة على انها كانت تعاني، كل مرة، من مشكلة تحديد هويتها. فهناك من اراد لها ان تكون سنداً لحركات التحرر الوطني الرامية الى نزع الاستعمار. وبما ان المتروبولات الكولونيالية، في منتصف الخمسينات وحتى منتصف السبعينات، كانت غربية فإن الحركة كانت تواجه اغراء التحول الى صف المعادين للغرب. ولقد ساجل الكثيرون ضد ذلك معتبرين ان حرية الشعوب مهددة، اكثر من اي شيء آخر، بزحف الشيوعية وتمددها. والحل، من وجهة النظر هذه، هو ايجاد شكل من اشكال الاحتماء بالغرب. وعلى رغم هذه التجاذبات فان الثلاثي نهرو - ناصر - تيتو غلب وجهة عالمثالثية على هذه الحركة. وامكن وضع مبادئ عامة لها هي الآتية: أ - احترام حقوق الانسان. ب - سيادة جميع الامم. ج - المساواة بين الامم والاجناس. د - الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ه - احترام حق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي. و - الامتناع عن استخدام الاحلاف العسكرية التي تخدم المصالح الذاتية للدول الكبرى. ز - عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية. ح - فض النزاعات بالطرق السلمية. ط - احترام العدالة والالتزامات الدولية. والواضح ان هذه الافكار تكاد تكرر تلك الواردة في ميثاق الاممالمتحدة. ولذلك فان المؤتمرات المتلاحقة كانت مطالبة بوضعها موضع التطبيق وبشكل ملموس. ومنذ المؤتمر الاول بدأت المواقف ترد مؤيدة قضية ضحايا التمييز العنصري، وشعب فلسطين، وشعوب الجزائر والمغرب وتونس، الخ… كذلك جرت المطالبة بپ"اعادة النظر في توزيع المقاعد غير الدائمة في مجلس الامن لاتاحة الفرصة للدول الافرو - آسيوية ان تمثل تمثيلاً جغرافياً عادلاً لكي تستطيع ان تسهم في صناعة السلام". ولاحقاً كان كل مؤتمر يواجه مشاكله. ففي القاهرة 1964 خيمت الحرب الصينية - الهندية على الاجواء، ولم يمتص من حدة المواجهة سوى الاضطرار الى الحداد على نهرو الذي كان توفي لتوه. وكانت النبرة السلبية حيال الولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي بارزة. وتميز مؤتمر لوساكا زامبيا 1970 بحضور ممثلين عن حركات التحرر الوطني: منظمة التحرير الفلسطينية، المؤتمر الوطني الافريقي، منظمة جبهة تحرير موزامبيق، جبهة تحرير الصومال الفرنسي، الحركة الشعبية لتحرير انغولا، جبهة التحرير الوطني لجزر القمر ومنظمتا الزابو والزاند لتحرير زيمبابوي. اما مؤتمر الجزائر في 1973 فكان مقدمة للدور الذي لعبه هذا البلد لاحقاً، ومؤتمر كوالالمبور دفع ثمن التوسع في العضوية. غير ان مؤتمر هافانا 1979 شهد معركة طاحنة. فلقد تقدمت المجموعة العربية بطلب لعزل مصر من العضوية عقاباً لها على كامب دايفيد. غير ان دولاً افريقية تصدت لذلك واحبطته فجرى الاكتفاء باقرار نص يدين الاتفاقية. وتولى الماريشال تيتو شخصياً اقناع العرب الاخرين بقبول هذه التسوية. وعاشت المؤتمرات اللاحقة تحت ضغط الغزو السوفياتي لافغانستان الذي وفّر الفرصة لجناح في الحركة من اجل تبرير مواقف سابقة كانت تحذر باستمرار من "الخطر الشيوعي". ولكن منذ منتصف الثمانينات بدأت سياسة بيريسترويكا تلقي بظلها على المجتمعين الذين شرعوا يفقدون، تدريجياً، مبرر "عدم انحيازهم" بفعل التلاقي المتزايد بين الجبارين. الدول التي التقت في باندونغ كان عددها 29 دولة بينها تسع دول عربية. اما الدول التي ستلتقي في جنوب افريقيا فارتفع عددها الى ما فوق 110. ومع ان الحضور العربي ازداد بفعل الاستقلالات فانه من الواضح ان النفوذ العربي تراجع جداً. ليس ذلك بسبب العدد فقط بل بسبب التبعثر العربي، وتراجع "سلاح النفط"، والضعف الاجمالي للعرب في مختلف الهيئات الدولية. لقد كانت افغانستان حاضرة في باندونغ. ولكن ها هي تعيش اليوم الازمة المفتوحة المعروفة بعدما دفعت غالياً ثمن ارغامها على "الانحياز". ايران، ايضاً، كانت موجودة ايام الشاه وها هي اليوم حاضرة بعدما تحاول تجسيد شعار "لا شرقية ولا غربية"، واستثمار نجاحها في الاعتدال الذي عبّر عن نفسه في القمة الاسلامية. لقد كانت يوغوسلافيا من الدول الرائدة في عدم الانحياز ولكنها دفعت غالياً ثمن انفجار الصراعات الاثنية وليس من المستبعد ان تفجر قضاياها خلافات. الا ان الانظار تتجه، بحق، وهذه المرة ايضاً، الى كل من الهند وباكستان. فهاتان الدولتان جعلتا من حركة عدم الانحياز الميدان الامثل لمواجهاتهما التي لا تنتهي. وينسب اليهما تخريب عدد من اللقاءات تماماً كما يجري مع العرب في اللقاءات الافريقية والاسلامية. الا ان الجديد اليوم هو ان نيودلهي وكراتشي ذاهبتان الى القمة في جنوب افريقيا وهما فوق ترسانات نووية رهيبة. ويضاف الى ذلك استمرار التوتر في كشمير وتطورات القضية الافغانية و"اللعبة الكبرى" الدائرة في هذه المنطقة من العالم. ويمكن القول، امام هذه الحالة، ان القضايا الداخلية لدول عدم الانحياز كبرت في حين ان جدوى الحركة تراجعت. فمن المعروف ان القضايا العربية ستلقى احتضاناً، وقد سبق لمؤتمر وزراء الخارجية، قبل اشهر، ان حسم الامر. ولكن ذلك لن يمنع سؤالين كبيرين من ان يخيما على المؤتمر: 1- هل يمكن وضع آلية لحل الخلافات ضمن الدول الاعضاء؟ 2- هل يمكن الانتقال، حسب المعطيات الدولية الجديدة، الى الاجابة على تحديات حقيقية ذات صلة بمشاكل اليوم وغداً؟ من السذاجة ربما الرهان على خروقات درامية. غير ان العنصر الذي ينظر اليه الجميع باهتمام هو: ما هو الدور الذي سيلعبه نيلسون مانديلا؟ هل يمكن لهذا "الحكيم"، المترفع عن الصراعات الصغيرة، الذي يضعه الجميع فوق الشبهات، ان يعوّض بوزنه الشخصي فقدان الوزن العام؟