اذا كان مؤتمر باندونغ قد اعتبر على الدوام أول تعبير عالمي وإيجابي عن محاولة دول العالم الثالث النهوض من سباتها العميق، الذي دام منذ زمن طويل، فإن مؤتمر بريوني الذي عقد بعد عام واكثر من انعقاد مؤتمر باندونغ، كان نقطة الانطلاق الحقيقية لتلك الحركة التي عرفت منذ ذلك الحين باسم حركة عدم الانحياز، وشهدت سنوات مجدها خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين، وطوال الستينات، قبل ان تغرب مع غروب العديد من كبار أقطابها. و"مؤتمر بريوني" الذي عقد يوم 19 تموز يوليو 1956، كان لقاء محصوراً جرى بين الرئيس جمال عبدالناصر والزعيم الهندي جواهر لال نهرو والزعيم اليوغوسلافي جوزيف تيتو، الذي كان هو من استضاف صديقيه الكبيرين في منتجعه بجزيرة بريوني اليوغوسلافية. ولقد أشار البيان الختامي للقاء الى اعادة تأكيد الزعماء الثلاثة على ارتباطهم بالمبادئ التي تم التعبير عنها خلال مؤتمر باندونغ، ولا سيما تعاونهم معاً من أجل تقديم كل عون ممكن الى دول العالم الثالث، إضافة الى الرفض القاطع للنزعة الساعية الى تقسيم العالم بين الكتلتين الكبيرتين. ومن هنا جاء اسم الحركة "عدم الانحياز"، الذي يعني ان الدول المتجمعة انطلاقاً من لقاء بريوني تعتبر نفسها غير منحازة لأي من الكتلتين الغربية أو السوفياتية. والحال ان الزعماء الثلاثة كانوا ينطلقون من موقفهم من مبدأ واضح يدعو الى تجميع دول العالم الثالث على اساس ان التشابه في مواقف الدول من المسائل العالمية يدفعها الى التعاون في ما بينها. غير ان هذا الموقف العالمثالثي المتشدد لم يثر حماسة المجتمعين في بريوني يومها الى تقديم ما كانت جبهة التحرير الجزائرية، مثلاً، تطلبه من دعم يقدمونه لها. اذ ان الزعماء الثلاثة المجتمعين في بريوني رفضوا يومها استقبال وفد يمثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لكنهم لم يستنكفوا عن ان يشيروا في بيانهم الى ان "الهيمنة الكولونيالية باتت أمراً غير مرغوب به، وانها تسيء في الوقت نفسه الى الحاكمين كما الى المحكومين سواء بسواء". ولقد عبر الزعماء في بيانهم ايضاً عن "تعاطفهم مع رغبة الشعب الجزائري في الحصول على حريته". واضافوا - بتعبير بدا من الواضح انه يحاول مهادنة فرنسا بعض الشيء - ان "ثمة في الجزائر عنصراً مهماً من أصول اوروبية، يتعين لمصالحه ان يحافظ عليها، غير ان هذا لا يجب ان يقف حجر عثرة دون الاعتراف بالحقوق الشرعية للجزائريين". كان بالامكان - بالطبع - إدراك حدود التحرك المتاح لأقطاب عدم الانحياز من خلال هذا المثال المتعلق بموقفهم من الثورة الجزائرية. وكان من الواضح في ذلك الوقت المبكر، ان عبدالناصر الذي كان حمل معه القضية الجزائرية الى بريوني، اضطر للمهادنة بناء على موقف الرئيس تيتو الذي كان صراعه مع السوفيات يحركه، مثلاً، لتأييد هنغاريا الثائرة أو انتفاضة برلين، غير انه استنكف عن ذلك بناء على ضغط نهرو وعبدالناصر اللذين كانا يهادنان السوفيات. ومع ذلك اعتبر اللقاء ناجحاً، أتى كاستجابة لمساع كان الزعيم الهندي نهرو من أوائل الذين بذلوها من أجل تجسيد تلك الحركة التي كان هو، ايضاً، أول من أطلق عليها اسم "حركة عدم الانحياز" في خطاب مبكر كان ألقاه في ربيع 1949، غير ان ما كان نهرو يرى ضرورة ان يكون "عدم انحياز"، كان عبدالناصر في الواقع يعتبره "حياداً ايجابياً" فيما كان يريده تيتو "تعايشاً سلمياً ايجابياً". ولقد ظلت الأمور مرتبكة على ذلك النحو، على رغم وضوح لقاء بريوني من مراميه وأساليبه، حتى 1961 حين استكمل لقاء بريوني عبر انعقاد ما سمي يومها بپ"مؤتمر القاهرة التحضيري لأول قمة لدول عدم الانحياز". ففي ذلك المؤتمر كان واضحاً ميل الدول المشاركة الى عدم وضع تعريف محدد لسياسة عدم الانحياز، مكتفية بوضع خمسة مقاييس يتم على اساسها دعوة الدول المعنية لحضور مؤتمرات عدم الانحياز، وهي ان تكون الدولة قد انتهجت سياسة مستقلة مبنية على التعايش السلمي ...، ان تكون الدولة مؤيدة لحركات التحرر الوطني، ألا تكون الدولة عضواً في حلف عسكري متعدد الأطراف في نطاق الصراع بين الدول الكبرى، فإذا كانت الدولة طرفاً في اتفاقية عسكرية ثنائية مع دولة كبرى، أو إذا كانت عضواً في حلف اقليمي، فإن الاتفاق أو الحلف يجب أن لا يكون قد عقد في نطاق منازعات دولية كبرى، وأخيراً اذا كانت الدولة قد سمحت بقواعد عسكرية لدولة اجنبية فإن هذا السماح يجب ألا يكون قد تم في نطاق منازعات دولية كبرى.