للمرة الثانية خلال شهر واحد أغلق أهالي اسطنبول مضيق البوسفور في وجه ناقلات البترول الآتية من ميناء نوفوروسيسك على الساحل الشرقي الروسي من البحر الأسود. ولفت انتباه المحللين في موسكو ان القوارب المئتين التي استقلها الأتراك في تظاهرتهم الاحتجاجية لا تشبه من قريب أو بعيد حركة "غرين بيس" لحماية البيئة، على رغم ان وزير الملاحة البحرية التركي برهان قره قال في هذا الشأن: "نحن لا ننوي جعل البوسفور والمواطنين المقيمين على ساحليه ضحية لناقلات البترول. وأنا أؤيد هذه التظاهرة كمواطن تركي وعضو في الحكومة لأنني اعتقد بضرورة حماية البحر الأسود والمضيق من التلوث". الا ان المحللين يقرأون وراء هذه السطور نية لعرقلة الملاحة النفطية عبر البوسفور وتوفير مبررات اضافية لمصلحة مشروع ضخ نفط قزوين في أنبوب باكو - جيهان. ويأتي الزلزال الأخير الذي كاد يودي بمستودعات النفط في جيهان ايضاً ليزعزع ثقة دول قزوين في مصداقية مشروع ضخ النفط براً عبر تركيا، لا سيما ان أكراد الأناضول يعلنون صراحة ان المحادثات في شأنه يجب ان تجري معهم وليس مع الحكومة التركية طالما ان الأنبوب يمتد "عبر اراضيهم". وعلى هذه الخلفية يبالغ الأتراك في "نقاط ضعف" البوسفور ويشددون على محدوديته الاستيعابية والمخاطر البيئية التي تهدده. ويعيدون الى الأذهان ان سفينة شحن اصطدمت بالناقلة اليونانية "ناسيا" المحملة بالنفط الروسي، في آذار مارس 1994، ما أسفر عن مصرع 19 شخصاً. وقبلها في العام 1979 انفجرت ناقلة بترولية رومانية بعد اصطدام مماثل، واستغرق اطفاء الحريق الذي شب فيها شهراً كاملاً، ولقي 43 من أفراد طاقمها حتفهم. واعتباراً من الأول من تموز يوليو 1994 فرضت أنقرة قواعد متشددة على مرور الناقلات الضخمة عبر البوسفور والدردنيل على رغم ان ذلك يتعارض مع اتفاقية مونتري الدولية للعام 1936 التي بسطت نفوذ الأتراك على المناطق الساحلية شرط ان يضمنوا حرية الملاحة عبر المضيقين. وفي شباط فبراير الماضي اعترضت روسيا واليونان في بيان مشترك لوزيري خارجيتهما على القيود التركية التي شملت أموراً لا يمكن ان يوافق عليها ناقلو البترول، مثل تحديد سعة الناقلات وتاريخ بنائها والتأمين الإلزامي عليها وغير ذلك. وعلمت "الوسط" من مصادر في وزارة الوقود والطاقة الروسية ان 30 - 35 مليون طن من النفط الروسي تنقل سنوياً عبر المضيقين الى أوروبا، فيما يتوقع الخبراء استخراج 60 - 70 مليون طن من نفط قزوين سنوياً خلال الفترة 2005 - 2010، ولا بد من ايصالها هي الأخرى الى أسواق التصريف الأوروبية. أما الاتراك فيؤكدون ان القدرة الاستيعابية الاجمالية للمضيقين لن تتجاوز 90 مليون طن. وتفيد المعلومات المتوافرة ان حوالي 5 آلاف ناقلة و25 ألف سفينة تمر حالياً عبر البوسفور كل عام، ما يرهق المضيق كثيراً اضافة الى مفعول العوامل الطبيعية السلبية، كالضباب وضعف الرؤية والرياح الشديدة والتيارات العكسية. باكو جيهان إلا ان الدراسات التي اجراها خبراء شركة "لويدز رجيستر اوف شيبينغ" تفيد ان حركة الملاحة عبر المضيقين، على رغم كثافتها، لا تزال أقل من قدرتهما الاستيعابية الفعلية. وان هذا الطريق البحري قادر على توصيل جميع كميات النفط المستخرجة في المنطقة، بما فيها نفط قزوين. لا سيما ان نقل النفط من نوفوروسيسك عبر البوسفور الى جنوى هو الأقل كلفة: 5.62 دولار للطن الواحد حسب تقديرات شركة "لا تسيس غروب" اليونانية ومعهد النفط والغاز الروسي. وواضح ان البديل التركي لنقل نفط قزوين عبر أنبوب يمتد من باكو الى جيهان على البحر الابيض المتوسط يلحق أضراراً بالغة بمصالح روسيا ويضعف الأهمية الاستراتيجية لميناء نوفوروسيسك "جوهرة" مجمع الوقود والطاقة الروسي. ولذا تقبلت روسيا بسرور اقتراح اليونان في شأن توصيل النفط الى أوروبا من دون المرور في المياه الاقليمية التركية، حيث يصار الى شحنه من ميناء نوفوروسيسك على ناقلات ضخمة الى ميناء بورغاس البلغاري على الساحل الغربي للبحر الأسود، ومن هناك يضخ عبر أنبوب يمتد الى ميناء الكسندروبوليس اليوناني على ساحل بحر ايجه، ومنه الى جنوى كالعادة. وينتظر ان يبلغ طول الانبوب المذكور 248 كيلومتراً وقدرته التمريرية 30 مليون طن في العام مع زيادتها لاحقاً الى 35 مليوناً. ويعود الأنبوب بالأرباح عندما تصل قدرته الى 15 مليون طن سنوياً. وفي حال تنفيذ المشروع يغدو بالطبع ورقة رابحة بيد روسيا في التعامل مع تركيا. وظهرت فكرة مد أنبوب النفط عبر البلقان قبل فترة قصيرة، واهتمت بها شركة "ديب - تراكي" اليونانية التي مولت تصاميم المشروع. وتأسس لهذا الغرض فريق من الخبراء ولجنة فنية للمتابعة تضم 9 اعضاء من روسيا واليونان وبلغاريا. وفي اجتماعهم الأخير في أثينا بحثت اللجنة وفريق الخبراء في مسودة النظام الداخلي لشركة "أنبوب البلقان" لإقراره قريباً، والى ذلك قدمت 25 شركة طلبات المساهمة في مناقصة إعداد المواصفات والمسوغات الفنية للمشروع. وستعلن النتائج هذا الصيف، ويحدد عندئذ موعد الشروع بمد الأنبوب. وينتظر ان يبدأ البناء بسرعة حالما تصل الى ميناء نوفوروسيسك كميات كبيرة من نفط قزوين. وبمقدار تلك الكميات يتوقف مصير المشروع كله، فوجود الخامات النفطية الكافية أحد أهم الشروط الكفيلة بتوافر مردوده التجاري، ما يجعل القضية تتجاوز اطار دوله الثلاث وتفترض مساهمة ممثلين عن كازاخستان واذربيجان وتركمانستان اضافة الى شركات استخراج النفط الروسية والاجنبية. ويبدو ان أنبوب بورغاس - الكسندروبوليس لن يعود بمردود اقتصادي إلا إذا استخدم لنقل نفط قزوين بالذات، لأن النفط الروسي، حسب معلومات وزارة الاقتصاد، سيصدر في المستقبل ايضاً بكميات لا تتجاوز كمياته الحالية. تحالف روسي بلغاري يوناني وعلى رغم ان كلفة نقل النفط من نوفوروسيسك الى جنوى عبر البلقان ستزداد عن كلفة نقله عبر البوسفور بدولارين للطن الواحد، حسب بعض التقديرات، أو بستة دولارات فتتجاوز 11 دولاراً، حسب تقديرات أخرى، إلا ان أنصار المشروع يؤكدون ان كلفة أنبوب بورغاس - الكسندروبوليس 248 كيلومتراً تقدر تمهيدياً بپ700 - 800 مليون دولار أو بليون دولار كحد أقصى، فيما يكلف مشروع أنبوب باكو - جيهان وطوله 1730 كيلومتراً ما لا يقل عن بليونين وخمسمئة مليون دولار. وكان الجانب اليوناني اكد استعداده لتمويل مشروع البلقان اضافة الى استثمارات من صناديق الاتحاد الأوروبي والشركات الخاصة. ويبدو ان المنافسة ستشتد قريباً، لأن تركيا قطعت شوطاً في اعداد مواصفات أنبوب باكو - جيهان، فيما بدأت هذه الاعمال في أنبوب بورغاس - الكسندروبوليس قبل ايام. ومهما يكن من أمر فكلا الأنبوبين لا يزالان قيد التصميم. واذا تمكن الروس والبلغار واليونانيون من استمالة عواصم نفط قزوين وعجلوا في انجاز المشروع بأقصى سرعة، فلعلهم سيتمكنون من اللحاق بالركب في اللحظة الأخيرة