عند الباب الشمالي لساحة تيانانمين السلام الأزرق في قلب العاصمة الصينية، باحة فسيحة تفضي الى ضريح ماو تسي تونغ. يتقاطر يومياً عشرات الآلاف من الصينيين أمام جثمانه المحنط المعروض في نعش زجاجي، يؤدون التحية للرجل الذي استعاد للصين وحدتها وكرامتها بعد مئة وخمسين عاماً من التشرذم والمذلة، وأعادها الى الخريطة السياسية الدولية، لاعباً رئيسياً وشريكاً نداً في مجمع الكبار. وعلى بعد أمتار من ضريح ماو توجد "المدينة المحرّمة" التي منها كان أباطرة الصين يمارسون سلطاناً بلا حدود على امتداد من الأراضي كاد أن يصل غرب آسيا بشرقها في ذروة المجد الذي بلغته الامبراطورية الصينية إبان القرن الثالث عشر. ماو تسي تونغ والمدينة المحرمة نقيضان في ظاهر التاريخ الصيني الذي يجمع الباحثون على أنه الأكثر تعقيداً واضطراباً. لكن في كليهما الدليل القاطع على أن القوة، أياً كان مصدرها وطرائق ممارستها، هي وحدها الكفيلة بالمحافظة على تراصّ البناء الصيني المترامي، بأعراقه وأديانه ومناطق نفوذه المتناحرة. من المدينة المحرمة كان الأباطرة يبسطون على الصين نفوذاً مستمداً من البطش والمعتقدات الخرافية الراسخة، ومن الهيمنة المحكمة على مقدرات البلاد وثرواتها. أما ماو فإنه استمد قوته من الاحتقان الطويل للنقمة الشعبية، ومن الرغبة العميقة والشديدة في استرجاع ما تبدد من مجد وكرامة، ومن نزعة لا تقاوم عند الشعوب في أن يقترن العدد والحجم بالنفوذ والقوة. في السنوات الأربعين المنصرمة أطعمت الصين جياعها، وكست عراتها، وأعدت أبناءها لعصر جديد تطمح فيه الى موقع الصدارة. قوتها اليوم هي ثمرة العدد والأرقام الفائضة، بقدر ما هي وليدة المثابرة والقدرة على التكيف والاستعداد الصبور لاستيعاب ما أنجز خارج حدود الحضارة الذاتية، والانفتاح المبرمج من غير تنازل أو مساومة على عناصر التمايز والأصالة، مهما تعارضت هذه مع الرائج والسائد دولياً. لكن الصينيين الذين يمرون اليوم أمام جثمان ماو تسي تونغ، يستذكرونه شاعراً وكاتباً وموجهاً روحياً متناسين كفاحه الطبقي ويساريته المتطرفة والتجاوزات الخطيرة التي ارتكبت باسم ثورته الثقافية. "القائد الأكبر" هو الذي بنى الصين الحديثة، وجعل منها خامسة الكبار، ضامناً بذلك استمرارية أقدم دولة حية في التاريخ لم ينقطع وجودها منذ خمسة آلاف سنة، وهي اليوم، وحدها، موطن لربع سكان الارض. لكن الصين اليوم مبحرة عكس الاتجاه الذي رسمه لها ماو ورفاقه، وهي في خضم مسيرة انمائية مذهلة ينتظر أن ترفعها بحلول العام 2015 الى مصاف القوة الاقتصادية الأولى في العالم. الصين تصحو وتنفتح وتنمو، وتدهش بالتغييرات السريعة والكبيرة التي تطالع الزائر أنى توجه في حواضرها وفي أريافها: ناطحات سحاب، هواتف خليوية وسيارات فخمة صارت مألوفة في البلد الذي عرفناه رمزاً للزهد والتقشف في العام كما في الخاص. الشركات العالمية الكبرى تتمركز في منافسة محمومة في السوق الصينية التي أصبحت نقطة الجذب الرئيسية في العالم للاستثمارات الانتاجية. لكن هذه الصحوة الصينية التي حدت بالادارة الأميركية الحالية الى نقلة نوعية غير مألوفة في تاريخ الولاياتالمتحدة الديبلوماسي، فكانت زيارة الرئيس بيل كلينتون مؤخراً الى الصين حيث أعلن عن قيام شراكة استراتيجية بين واشنطنوبكين، هي الأولى من نوعها وبحجمها بين دولة غربية كبرى ودولة شرقية كبرى، هذه الصحوة التي لم تبلغ بعد المأمن من الصدمات والمفاجآت، ولدت في رحم تاريخي واجتماعي مميز، لم ينقطع عن مد الصينيين بحبر غامض ومعقد يكتبون به مستقبلهم. مليار ومئتا مليون نسمة يعيشون في أقدم دولة حية في التاريخ، تعود أولى امبراطورياتها المؤرخة في الكتب الى القرن الثالث قبل الميلاد، تعاقبت بعدها عشرات الدورات السلالية التي دام بعضها نيفاً وسبعة قرون. لكن رغم ذلك، ومهما بدا الأمر غريباً، فإن العملاق الصيني عاش منبوذاً، بل مهاناً، من المجتمع الدولي، منذ أواخر القرن الماضي. ثمة محطات وعناوين تاريخية لا بد منها لتكوين فكرة واضحة عن المخاض السياسي والاقتصادي الذي تعيشه الصين في المرحلة الراهنة، ولادراك ابعاد العلاقة التي تريد بكين ان تقيمها مع نظرائها الكبار في المجتمع الدولي، ومع جيرانها في المنطقة الآسيوية. في السنوات العشرين الأولى من القرن الماضي كانت الامبراطورية الصينية قد وصلت الى مرحلة متقدمة من التفكك والانهيار والنزاعات الداخلية، فصارت سواحلها عرضة لهجمات القراصنة الأوروبيين الذين تميز البريطانيون من بينهم بتنظيم حملات واسعة لتهريب الافيون الى الأراضي الصينية، محدثين بذلك ضرراً اجتماعياً بالغاً ونزفاً مالياً أنهك الاقتصاد الصيني. وفي العام 1839 شن البريطانيون حملة عسكرية واسعة على الصين، انتهت بعد ثلاث سنوات بتوقيع معاهدة تنازلت بكين بموجبها عن مقاطعة هونغ كونغ لبريطانيا، وفتحت مدن الصين الكبرى أمام التجار الغربيين. ولم تنقض 15سنة حتى تذرّع البريطانيون بحادثة بسيطة ليشنوا حرب الأفيون الثانية ويفرضوا على الصين تنازلات جديدة. شهية الغرب المفتوحة لكن شهية الغرب لم تتوقف عند هذا الحد في الصين التي كانت حروبها قد أوقعت ما يزيد عن 30 مليوناً من القتلى واحدثت دماراً لا يحصى. في العام 1860 شكل البريطانيون والفرنسيون حملة عسكرية مشتركة وصلت الى بكين، فدخلت قصر الصيف ونهبت نفائسه وأحرقت ما تعذر عليها نهبه، بما في ذلك مكتبة كانت تحوي آلاف المجلدات والمخطوطات وتعتبر الذاكرة التاريخية الفعلية للشعب الصيني. وفي العام 1894 نزلت القوات اليابانية في جزيرة تايوان واحتلتها، ومع حلول القرن العشرين كانت الصين، عملياً، تحت الوصاية الغربية. وبينما كان الصينيون ينقسمون على بعضهم بين وطنيين وشيوعيين، شنت القوات اليابانية حرباً واسعة النطاق على الصين، دامت ثماني سنوات وتميزت بوحشية لا مثيل لها ارتكبها اليابانيون في جميع المناطق التي وقعت تحت قبضتهم. لكن الخطر الياباني وحّد الصينيين الى أن كانت هزيمة اليابان واستسلامها في العام 1945، ثم انتصار القوات الشيوعية، بقيادة ماو تسي تونغ، على قوات تشاي كان شك واعلان جمهورية الصين الشعبية في العام 1949. بعد اعلانه قيام "جمهورية الصين الشعبية"، اعتمد ماو تسي تونغ مبادئ النظام الماركسي اللينيني لتأسيس دولة الصين الحديثة، لكنه حرص دائماً على بعض التمايز والاستقلالية ازاء الكتلة الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي الذي قرر قطع المساعدة الاقتصادية والتقنية عن بكين في العام 1960، بعدما اعتبر زعماء الكرملين ان ماو تسي تونغ خرج عن الطوق الاشتراكي وقرر السير في اتجاه مستقل عن ارادة موسكو ومشيئتها. إلى أين كانت تسير؟ في النصف الأول من الستينات عاشت الصين فترة تميزت بحملات عقائدية وتعبئة سياسية مكثفة، وبمجهودات واسعة للإعمار والتنمية الاقتصادية، حققت من النجاح والانجازات، بقدر ما حققت من الاحباطات والفشل. وقتها، بدأ العالم يتساءل في قلق حول الصين والى أين هي سائرة. لكن القوى الغربية كانت لا تزال عند رفضها الاعتراف بالدولة التي تضم خمس سكان العالم. في 1965 تعرّض نظام ماو تسي تونغ لهزته الأولى بعد سلسلة من الأخطاء الفادحة انتهت بأزمة عميقة داخل قيادة الحزب الشيوعي. لكن في مطلع 1966 اطلق ماو "ثورته الثقافية" الشهيرة، ثورة داخل الثورة، فأغرقت البلاد في الفوضى والتجاوزات التعسفية، وترددت أصداؤها في أنحاء شتى من العالم، وكانت وراء الاضطرابات الطلابية الواسعة التي شهدتها فرنسا ودول أوروبية أخرى، وعرفت في أيار مايو 1968 . كان العالم يتابع تداعيات الثورة الثقافية، لكنه كان عاجزاً عن فهمها واستيعاب ما يحصل فيها، بسبب قلة المعلومات المتوفرة عنها، ولأن ما كان يعرف عنها آنذاك، نادراً ما كان يتعدى ما كانت الصين تريد أن يعرف عنها. لكن هذا لم يمنع الغرب من إعادة علاقاته مع الصين، لاعتبارها المنافس الرئيسي للاتحاد السوفياتي الذي كان مصدر الخطر الأكبر في حسابات العواصم الغربية. أول من بدأ سياسة التقارب مع الصين كان الجنرال ديغول في العام 1966، وتبعته دول أوروبية أخرى. وفي العام 1971 استعادت الصين مقعدها في الأممالمتحدة وفي مجلس الأمن، وفي شباط فبراير من العام التالي قام ريتشارد نيكسون بزيارته الشهيرة الى الصين. لكن كان لا بد من الانتظار حتى العام 1978 لاستئناف العلاقات الديبلوماسية بين واشنطنوبكين. في الثامن من كانون الثاني يناير 1976 توفي شو ان لاي ولحق به ماو تسي تونغ في التاسع من أيلول سبتمبر من السنة ذاتها. وفي تشرين الأول اكتوبر اعتقل المسؤولون الأربعة عن الثورة الثقافية ودينوا بعد محاكمة سياسية سلطت فيها الاضواء على أرملة ماو وشخصيتها الميكافيلية، في الوقت الذي كان اتباع ماو تسي تونغ يبعدون فيه عن مواقع السلطة، أمام تقدم الاصلاحيين بقيادة دنغ هياو بينغ الذي قررت الصين على عهده ان تدفن رسالتها الثورية. بعد الهزة التي تعرضت لها القيادة السياسية في الصين، نتيجة للاحتجاجات الطلابية على بطء المسيرة الاصلاحية والانفتاحية وعلى الفساد المستشري بين كبار المسؤولين، وما عقبها من اضطرابات أخمدها الجيش بوحشية في العام 1989، بدأ نجم دنغ هياو بينغ بالافول، وأخذ يتراجع الى الظل ليستقر في عزلة تامة حتى وفاته. في غضون ذلك، وفي غياب وريث سياسي مسمى بدأ جيانغ زيمين يعزز مواقعه ببطء في دوائر النفوذ العليا، الى أن جمع في آن، رئاسة اللجنة العسكرية المركزية والأمانة العامة للحزب الشيوعي، ليتولى بعد ذلك رئاسة الدولة. ويصف ديبلوماسيون في العاصمة الصينية زيمين بأنه صاحب مهارة فائقة في المناورة السياسية والاستفادة الى أقصى حد من المراكز الحيوية التي يشغلها، لتعزيز موقعه وتعيين عناصر شابة وملتزمة سياسة الاصلاح والانفتاح في المناصب الحساسة، مقدماً في مقابل ذلك تنازلات مدروسة لارضاء المحافظين في قيادتي الحزب والجيش، ضماناً لعدم عرقلتهم سياسة الانفتاح الاقتصادي وتطبيق مبادئ السوق الحرة. وفي ذلك تفسير للمدح الذي اغدقه عليه اخيراً الرئيس الأميركي بيل كلينتون خلال زيارته الى الصين. ويقول مطلعون ان الرهان الأكبر لزيمين هو النجاح في تحقيق المعجزة الاقتصادية التي تشير الدلائل الى ان التطورات ماضية في ترسيخها، بحيث يصبح القرار السياسي محكوماً بمعطيات الاقتصاد وخاضعاً لشروط العولمة التي تدخل الصين تحت قبتها شيئاً فشيئاً. لكن ثمة من يحذر من ان أهم أهداف الاصلاح السياسي، وهو الفصل بين الحزب والدولة، قد تأجل بته الى المؤتمر السادس عشر للحزب الشيوعي الذي سيعقد في العام 2002، وان ست سنوات يتأرجح فيها القرار بين المحافظين والاصلاحيين تعتبر، في دولة كالصين، طويلة وخطيرة جداً. أهم ما يسترعي الانتباه في الحال الصينية الراهنة، ان عودة بكين بقوة الى الساحة الدولية، لم تكن نتيجة تطورات أو معادلات سياسية معينة، بقدر ما هي ثمرة للشهوة التي أثارتها السوق الصينية الضخمة بانفتاحها على عالم يتحرك على إيقاع الفرص التجارية ويلهث متسارعاً في تنافس محموم لاقتناصها. وأكثر ما يدهش في هذه الحال، انها وللمرة الاولى في التاريخ الاقتصادي قلبت معادلة استخدام القوة السياسية لتحقيق المآرب أو المكاسب التجارية لتجعل من السوق والفرص التي تتيحها، أداة سياسية فعالة من الطراز الأول، كما بينت زيارة كلينتون الأخيرة. في السنوات العشر الأخيرة كان معدل النمو الاقتصادي في الصين عشرة في المئة سنوياً، وفي بعض المقاطعات وصل احياناً الى 40 في المئة محطماً جميع التوقعات والأرقام القياسية، ومعززاً تقديرات البنك الدولي بأن الصين ستصبح بحلول العام 2001 القوة الاقتصادية الأولى في العالم. جميع الشركات الكبرى تستقر في الصين وتستعد لغزو سوقها الضخمة. وفي المدن الرئيسية مثل بكين وشانغهاي ترتفع ناطحات السحاب بسرعة مذهلة، بينما يستسلم أولاد الرفيق ماو وأحفاده لمغريات السوق الاستهلاكية وأنماطها الغربية المستوردة، من سيارات وهواتف خليوية ومضاربات عقارية، وتنافس على آخر صرعات الأزياء الواردة من العواصم الغربية. القطاع الزراعي الذي بنى عليه ماو تسي تونغ صينه الشعبية، ومن صفوفه انطلقت ثورته الثقافية، بدأ يتراجع أمام زحف القطاع الصناعي الذي وحده يستطيع ان يحقق للصين الأهداف الانمائية التي تنشدها، ويثبت تقدمها وصمودها الى الصفوف الأمامية. لكن رغم ذلك، فإن الصين ما زالت خارج منظمة التجارة الدولية، فهي ما زالت ترفض الامتثال لمجموعة من القواعد الأساسية التي تحكم النظام التجاري الدولي، متجاهلة قوانين الملكية الفكرية، ومغرقة بانتاجها المقرصن الأسواق العالمية. وليس من مؤشر انها على استعداد لتصويب مسلكها في القريب المنظور، طالما ان سلاح السوق المفتوحة يعقد ثماره المرجوة، ويطوّع المستنكرين لسياستها والمحتجين على تجاوزاتها في مجال حقوق الانسان والحريات الأساسية، وبعد أن أصبحت مركزاً للاستقرار المالي في منطقة تعصف بها الاضطرابات الحالية. ولعل أفصح ما يدل على التغيير الذي تشهده الصين اليوم، ان الشعارات الضخمة التي كانت في الماضي ترفع في ساحة تيانانمين داعية الى خدمة الشعب والتضحية والعمل في سبيل الوطن، اختفت اليوم لتحل مكانها اعلانات "اشرب كوكاكولا"!