الدنيا صيف والبحر الابيض المتوسط هادئ. انه مقصد السوّاح والمصطافين. وهو، ايضاً، "بحيرة عبور" من الضفة الجنوبية الى الشمالية، وهو عبور آخذ في التحول الى مأساة يومية. فعندما نقلت وكالات الانباء، قبل اسبوعين ان صيادين انتشلوا، في شباكهم، بقايا بشرية، أصاب الروع العالم. وشرعت الاضواء تتسلّط، أكثر فأكثر، على ما يحصل انطلاقاً من الموانئ المغربية والتونسية والموريتانية. لقد أصبح موضوع الهجرة غير الشرعية الشغل الشاغل لاسبانيا، خصوصاً لايطاليا التي تمتد حدودها البحرية ثمانية آلاف كيلومتر، وبما ان البلدين عضوان في معاهدة "شينيغين"، فقد اضحت حدودهما بوابة لعشرة بلدان اوروبية موقّعة على المعاهدة نفسها. وأدى ذلك الى تزايد الضغوط الالمانية والفرنسية على كل من ايطالياواسبانيا لاتخاذ التدابير والتشريعات الضرورية لمنع حالات التسلل التي تعدّ بعشرات الآلاف. روما متهمة من قبل الاوروبيين الآخرين بالتراخي، اذ ان قوانينها لا تنص على الابعاد الفوري للمهاجر بطريقة غير مشروعة. كما ان ثقافتها اوسع صدراً حيال هذه القضية فهي تكتفي بحجز المقبوض أياماً ثم اعطائه اقامة مؤقتة واطلاقه، ليختفي بعد ان يحرق اوراقه، ثم يظهر في بلد آخر حيث توجد شبكات متخصصة في الاستقبال وتدبير "العمل الاسود". وأدت الضغوط الاوروبية الى قدر من التأثير في ايطاليا، اذ بدأت تعزز الحراسة على شواطئها وأنشأت معسكرات اقامة، وبدأت تلجأ الى الابعاد الفوري ولاحظ مراقبون عدة درجة المفارقة في ذلك، ففي وقت تتراجع فيه سيادة البلدان الاوروبية لصالح مؤسسة اتحادية، فان ايطاليا تؤسس على ذلك لتزيد حضور الدولة باعتبارها "حامية للحدود". وتعاظم هذا المنحى في السنوات الاخيرة، اذ ان ازمة البوسنة رمت مئات الألوف خارج بيوتهم ومناطقهم، وكان لألمانيا النصيب الأكبر من اللاجئين، ثم جاء انهيار الوضع في ألبانيا ليدفع بفقراء هذا البلد نحو السفن الى اقرب بلد اوروبي: ايطاليا. صحيح ان روما حدّت الهجرة الكبيرة نحوها، لكنها اضطرت لاحقاً الى ان يكون لها وجود في ألبانيا لحل المشكلة. ويمكن القول، مع ذلك ان كثيرين افلتوا من الشباك. كذلك حصلت هجرة كردية واسعة من تركيا والعراق وانضم، اهل كوسوفو الى هذا الجيش الباحث عن ملاذٍ آمن. يحصل ذلك كله في ظل ثلاثة عوامل مهمة: - دخول اوروبا الغربية مرحلة ابطاء في النمو تجعلها غير محتاجة الى قوى عاملة رخيصة، خصوصاً انها تعاني بطالة شديدة لم تجد لها حلاً. - ادى تراجع النمو وارتفاع البطالة والهجرة الى صعود قوى يمينية متطرفة تؤثر على "الاجانب" بصفتها مصدر البلاء وتثير ضدهم مشاعر كراهية تجد صداها لدى فئات شعبية تعاني هشاشة في مصادر عملها ودخلها. - ازدهرت، منذ سنوات، في اوروبا الدراسات الديموغرافية التي تؤكد انخفاض نسبة المواليد مما قد يعني، على المدى البعيد، التراجع في عدد السكان. وبما ان دول جنوب البحر الابيض المتوسط يعيش حال "فائض سكاني" فلقد أمكن لبعضها الحديث عن غزو سكاني يهدد المعادلات كلها. اضطرت ايطاليا، اذن، الى اتخاذ اجراءات. وأقدمت اسبانيا بدورها على بناء حائط على المغرب وتونس ليقدما على المشاركة في الحرب ضد الهجرة غير الشرعية. وكان ذلك ممكناً لان موانئ الانطلاق معروفة: صفاقس والمهدية في تونس نحو ايطاليا وخط وجده - طنجة - سبتة من الجزائر والمغرب نحو اسبانيا. يدفع الراغب في الهجرة حصاد عمره لمهرّبين او صيادين او سفن صيد، ويقطع البحر في ساعات حتى يصل الى النعيم. وتتولى عصابات ومافيات هذه العمليات بشكل يقود الى غرق مئات المراكب الصغيرة وغير المعدّة لهذا النواع من المغامرات. كانت اكثرية "المهاجرين" افريقية مالي، السنغال، سيراليون، بوركينا فاسو، غينيا بيساو… غير ان المعادلة تغيّرت، فالنسبة الحالية، ويستدلّ عليها من التوزيع الوطني للمعتقلين، مناصفة بين هذه الدول ودول شمال افريقيا العربية. وتقول مصادر أوروبية إن المغرب بدا متعاوناً جداً في هذا المجال، وأنه اعتقل الآلاف، مانعاً أياهم من عبور المتوسط. وتضيف انه في وسعه أن يفعل أكثر، ولكن ثمن ذلك سيكون التضييق على الموسم السياحي لديه. أما تونس فإنها اعتقلت عشرة آلاف شخص في ثلاث سنوات، ومع ذلك فإن روما ومدريد غير راضيتين، فثمة اشكال مع ايطاليا بسبب استضافة تونس لزعيم الحزب الاشتراكي الايطالي بتينو كراكسي الهارب من العدالة. وثمة مشكلة أخرى مع اسبانيا ذات صلة باختراق سفن الصيد المياه الاقليمية التونسية. غير أن الأنباء الأخيرة التي تتحدث عن تقدم على صعيد حل هذه الاشكالات وزيادة التعاون بين البلدان المتشاطئة، إلا أن هناك من يؤكد أنه من المستحيل التوصل إلى حل جذري لهذه القضية. فبلدان أوروبا لا يسعها أن تفتح الهواء أمام البث الفضائي ناقلة اسلوب حياتها إلى فقراء ومعدومين، من غير أن يبدو ذلك دعوة موجهة اليهم للقدوم. ولا يسعها أن تفتح الحدود لصادراتها ورساميلها وتصر، في الوقت نفسه، على الحد من تنقل الاشخاص. هل يمكن اقناع جزائري، مثلاً، يعيش أهوال الحرب الأهلية بعدم السعي إلى المغادرة؟ هل يمكن اقناع سنغالي لديه أقارب في فرنسا بعدم زيارتهم؟ هل يمكن التفاهم مع أحد سكان كوسوفو على ان احتمال الاضطهاد الصربي محتوم طالما ان الدستاتير الأوروبية تمنح حق اللجوء لكل من يعيش تهديداً يطاول حرياته أو حياته؟ لقد تنبهت أوروبا، متأخرة بعض الشيء، إلى هذه الاشكالية. ومن هنا جاءت "الفكرة المتوسطية التي تركز على أن الحائل الأول دون الهجرة هو حصول قدر من التنمية في بلدان جنوب المتوسط يغري المواطنين بالبقاء حيث هم. غير أن الاجراءات العملية لم تكن في مستوى هذا الطموح. والمساعدات المقدمة ما زالت قليلة جداً