1 - الزمان: 28 شباط فبراير 1997 أصدر مجلس الأمن القومي "بلاغاً" عزل بموجبه حكومة اربكان - تشيللر عن السلطة، وشكّل حكومة جديدة برئاسة زعيم حزب "الوطن الأم" مسعود يلماظ ومشاركة حزبي بولنت اجاويد وحسام الدين جيندوروك، اليسار الديموقراطي وتركيا الديموقراطية. وأقرّ المجلس سلسلة اجراءات تحفظ النظام وتدرأ الأخطار، فأغلق المرحلة المتوسطة من معاهد التعليم الديني، ومنع الشركات الإسلامية من دخول المناقصات، وحظر حزب "الرفاه" ومنع زعيمه نورالدين اربكان وبعض قادته من ممارسة العمل السياسي لمدة خمس سنوات، وأحال الى المحكمة الشريكة الأخرى في الإئتلاف السابق، تانسو تشيللر، مع زوجها أوزير. 2 - الزمان: 20 آذار مارس 1998 أصدر قادة القوات المسلحة "بلاغاً" يحذّر كل من تسوّل له نفسه، مهما ارتفع شأنه، من انتهاك المبادىء الجمهورية والعلمانية في الدولة، ويؤكد لرئيس الحكومة، يلماظ، ان أمامه خياراً واحداً هو تطبيق التدابير التي طلبت منه، لمواجهة "الرجعية" الإسلامية، وفي الوقت نفسه أشار البلاغ الى إحالة يلماظ نفسه الى المحكمة للتحقيق في ثرواته الشخصية. وأقرّ القادة المجتمعون كذلك، سجن رئيس بلدية اسطنبول رجب طيب اردوغان لمدة عشرة أشهر، واعتقال العناصر "الرجعية" في شركة "دوست" للتأمين وعددهم 16 رجل أعمال، وإحالتهم للمحاكمة أمام محكمة أمن الدولة. ليس ما تقدم سيناريو خيالياً، بل هو بالضبط ما حصل في تركيا منذ 28 شباط فبراير 1997 وحتى اليوم. وما كان في السابق، يحدث بالجملة، يحدث الآن بالتقسيط. ويبدو ان العسكريين بزّوا السياسيين في المناورات، فما يجري في تركيا منذ أكثر من سنة يُظهر ان القادة العسكريين، لا زعماء الأحزاب، هم أرباب الحنكة، ويمسكون بمفاتيح اللعبة السياسية وأوراقها. واللافت ان ذلك يجري في بلد كان السبّاق الى محاولة الأخذ بأساليب الحضارة الغربية منذ اعلان كمال اتاتورك جمهوريته العام 1923. لقد كادت تركيا، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أن تكون "النموذج" الذي يُقتدى في البلدان المستقلة عن موسكو، خصوصاً في القوقاز والبلقان وآسيا الوسطى. لكن ما حدث، ينسف ما كانت انقره تروّج له. لم يسبق للمشهد السياسي التركي أن عرف حالاً من الضعف والتفكك مثلما هو حاصل الآن. وإذا كان الوجه الظاهر مما يجري هو استئصال مكامن القوة لدى الإسلاميين، فإن جوهره، بالتأكيد، اخضاع قوى المجتمع المدني لقرار المؤسسة العسكرية وضرب أية محاولة لتطوير النظام الديموقراطي وصولاً الى افراغه من كل روح وحركة. لقد كان انتصار الإسلاميين في الانتخابات البلدية في آذار مارس 1994، اشارة "الخطر" الأولى على النظام، لكن نتائج الانتخابات النيابية في أواخر 1995 كانت انقلاباً سياسياً، دفع الإسلاميين، ممثلين بحزب "الرفاه" بزعامة نجم الدين اربكان، ليكونوا اللاعب - المفتاح في الحركة السياسية. ومع اندفاع الموجة الإسلامية الجديدة، وفي ظل المحظورات الدولية لانقلاب عسكري، اختارت المؤسسة العسكرية الانكفاء موقتاً، وغضت النظر عن وصول اسلامي لرئاسة الحكومة بالتعاون مع حزب علماني، فكانت حكومة اربكان - تشيللر. وفي الوقت نفسه كانت الاستعدادات قائمة على قدم وساق لإحراج اربكان تمهيداً لإخراجه وهذا ما حدث في حزيران يونيو 1997. ولم يكتف العسكريون بإبعاد اربكان عن السلطة بل سعوا لتدمير البنى التحتية للإسلاميين، تلك التي تشكلت تدريجياً على امتداد الثمانينات والنصف الأول من التسعينات، فكان اغلاق المرحلة المتوسطة من معاهد التعليم الديني "إمام - خطيب" ومنع اعطاء اية التزامات مشاريع لشركات يملكها رجال اعمال مسلمون، بل احيل الكثير من هذه الشركات الى القضاء بتهم مختلفة، ما أدى الى هجرة مكثفة لرأس المال الإسلامي الى خارج تركيا، لا سيما الى منطقة الخليج وجنوب شرقي آسيا. وفي موازاة ذلك كانت قضية محاكمة حزب "الرفاه" بتهمة انتهاكه المبادئ العلمانية مستمرة. وكان القرار السياسي بحلّ الحزب في كانون الثاني يناير 1998، وحرمان زعيمه التاريخي اربكان من ممارسة العمل السياسي مع خمسة من رفاقه لمدة 5 سنوات، وهو الحزب الذي نال حوالي 6ملايين صوت في الانتخابات النيابية الأخيرة، متقدماً على سائر الأحزاب الأخرى. وكان رهان الجيش من وراء حظر الحزب وشلّ تحرك اربكان، احداث ارتباك وتشرذم في صفوف الإسلاميين. غير ان ما تبقى من نواب حزب "الرفاه" ويزيد عددهم على 140 نائباً، ما لبثوا ان شكلوا حزباً جديداً أُعلن عن ولادته سياسياً كان موجوداً بصفة قانونية قبل حظر حزب الرفاه في أواخر شباط فبراير 1998، وهو حزب "فضيلت" أو الفضيلة. ولما كان أبرز المرشحين، ومنذ وقت طويل، لخلافة اربكان ولتزعم الحزب الجديد، هو رئيس بلدية اسطنبول رجب طيّب اردوغان، كان من الطبيعي ان يقع خيار الجيش هذه المرة على شخص اردوغان، خصوصاً انه يحظى بشعبية واسعة، حتى بين سكان اسطنبول العلمانيين نظراً الى الخدمات التي قدّمها أثناء توليه رئاسة البلدية. وحين تقع قُرعة الجيش على شخص ما، تكون النتائج معروفة سلفاً ويصبح السبب المباشر للمحاكمة والاعتقال تفصيلاً ثانوياً. فقبل حوالي خمسة أشهر قرأ اردوغان في مدينة سعرت جنوب شرقي الأناضول أبياتاً من قصيدة، منها: "المآذن حرابنا، القبب خوذاتنا، الجوامع ثكناتنا، المؤمنون جنودنا". وقضت محكمة أمن الدولة في ديار بكر في 21 نيسان ابريل الماضي بسجن اردوغان لمدة عشرة أشهر بداعي "اثارة التفرقة الدينية والعرقية والحضّ بصورة واضحة على الكراهية والحقد". والمفارقة ان ابيات الشعر هذه هي لمفكّر تركي يُعتبر الأب الروحي لأتاتورك نفسه وللفكر القومي التركي، وهو ضياء غوك ألب، ومأخوذة من كتاب يدرّس لطلاب المرحلة المتوسطة وقرّرته وزارة التربية. قرار محكمة ديار بكر مهم لجهة النتائج التي قد تترتب عليه. ويحاول اردوغان ابطال القرار من خلال رفعه الى محكمة التمييز، لكن إذا صدّقت محكمة التمييز على القرار تكون النتائج كارثية على اردوغان، إذ يفقد منصبه في رئاسة البلدية ويُحرم من حق الترشيح للانتخابات النيابية المقبلة، وتقطع عليه الطريق لترؤس حزب "الفضيلة"، فتفقد الحركة الإسلامية، في هذه المرحلة على الأقل، قيادياً يرى فيه الجميع مشروع زعامة شابة مدنية، دينامية وديموقراطية، قادرة على مواصلة مسيرة اربكان بروح جديدة ومندفعة، الأمر الذي يربك صفوف الحزب الجديد، إذ على رغم واقعية واعتدال الوجه الآخر البارز في الحزب عبدالله غول، الا ان هذا الأخير لا يتمتع بالثقل الشعبي والكاريزماتية اللتين يتمتع بهما اردوغان. وفي حال سجن اردوغان لمدة اربعة أشهر، إذ سيستفيد من تخفيضات ينصّ عليها القانون من المحتمل ان يخلفه في رئاسة بلدية اسطنبول نائبه - الإسلامي كذلك - علي مفيد غورتونا، الذي انضم الى حزب "الرفاه" قبل ايام قليلة من انتخابات 1994 البلدية، وينتمي الى مدينة اربكان نفسها، قونية، ويبلغ من العمر 46 عاماً. لكن في حال تبرئة اردوغان سيكون أمام العسكر مواجهة شخصية ستتحول بنظر أنصارها الى بطل سيقود باندفاع اكبر مسيرة حزب "الفضيلة" وهذا ما سيجهد العسكر لمنع حصوله، خصوصاً ان اردوغان بدأ منذ لحظة اصدار الحكم بحقه تهيئة الرأي العام لاعتباره بطلاً أو "شهيداً" حين شبّه نفسه بعدنان مندريس، رئيس الحكومة التركي السابق الذي اعدمه العسكر العام 1960، بقوله: "نحن لا نريد لهذا الخطأ ان يتكرر ولا أن نكون شهوداً عليه". ويبدو اردوغان واثقاً من نفسه، ومن صورته الإيجابية عندما غمز من قناة معظم المسؤولين والزعامات قائلاً: "لم أقم بما أخجل منه، ولم أكن خائناً ولا سارقاً. فقط عبّرتُ عن أفكاري". وهذا ما رددته حشود أمام مبنى البلدية بهتاف: "طيّب هنا، أما السارقون فأين هم؟". وعلى رغم ان تداعيات قرار سجن اردوغان، أصبحت في تركيا أمراً روتينياً، إلا أنها لم تمر من دون انتقادات. وإذا كان موقف دول الاتحاد الاوروبي واضحاً لجهة اعتبار مسألة الديموقراطية والحرية وحقوق الانسان ابرز العقبات امام انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، فإن واشنطن رأت في القرار "حدثاً يحمل خطر فتح الباب أمام بعض الممارسات الراديكالية"، وتحدث مصدر في ادارة كلينتون لإحدى الصحف التركية مستهجناً كيف يمكن ان تشكل قراءة قصيدة "ذنباً في تركيا العام 1998". أما في الداخل التركي فحملت ردود الفعل الكثير من الطرافة والتندّر. وقال نائب انه "يكفي ان يكون لك فم لكي تكون عاقبتك السجن". وكانت ردة فعل تشيللر، حليفة اربكان، لافتة حين ردّت على قرار المحكمة بقراءة أبيات شعر لمؤلف النشيد الوطني التركي، محمد عاكف ومطلعها: "لن اصفق للظلم، لن أحب أبداً الظالم" وذلك في مهرجان شعبي في منطقة أنقره. وبالتزامن مع قرار سجن اردوغان، استمرت الحملات ضد الإسلاميين في أماكن أخرى، ومن ذلك اعتقال 16 من رجال الأعمال الإسلاميين المنتمين لشركة تأمين "دوست" واحالتهم الى محكمة أمن الدولة بتهمة التهرب من دفع الضرائب. واللافت ان اعتقالهم تمّ بأمر من شعبة مكافحة الارهاب في مديرية الأمن في أنقره، واقتيدوا من منازلهم في ساعات الفجر الأولى. ويبدو الجيش، منذ تشكيل حكومة يلماظ في مطلع تموز يوليو الماضي، ممسكاً بزمام الأمور، كما حيال الإسلاميين، كذلك في مواجهة الأحزاب السياسية الأخرى، حيث تدرك المؤسسة العسكرية، ان من عوامل تنامي قوة الإسلاميين "تراخي" الأحزاب السياسية العلمانية وضعفها الناتج عن فساد زعمائها. كما تدرك ان الانقلابات الثلاثة التي نفذتها سابقاً كانت ضد حكومات أحزاب علمانية، وان صراعها للبقاء يتطلب أيضاً وبصورة مستمرة، تطويع هذه الأحزاب لإرادتها، وعلى هذا كان إنشاء مؤسسة مجلس الأمن القومي منذ العام 1961 وإدراجها ضمن الدستور، حيث يستطيع الجيش، دستورياً، ممارسة نفوذه السياسي. حين وافق يلماظ على ترؤس الحكومة الحالية، إنما كان يستهدف تحقيق أكثر من هدف: العودة الى السلطة لأطول فترة ممكنة وهو الذي كانت تشيللر "تعيّره" بأن الحكومات التي شكلها لم تستمر أكثر من أربعة أشهر، ثم التخلّص من منافسته على زعامة اليمين، تشيللر نفسها، فضلاً عن محاولة وراثة بعض قواعد حزب "الرفاه" في حال حظره. ودخل يلماظ في لعبة الجيش، وجاءت قراراته مؤثرة في واقع الحركة الإسلامية، لجهة الغاء المرحلة المتوسطة من التعليم الديني وحظر حزب "الرفاه" وتعطيل حركة اربكان السياسية، وإحالة تشيللر مع زوجها الى المحاكمة. غير ان حسابات حقل يلماظ لم تطابق حسابات بيدره، وبدلاً من وراثة قواعد "الرفاه" فقد قواعد حزب "الوطن الأم" المحافظة المعروفة بإسلاميتها والتي تبلورت بفعل سياسة زعيم الحزب السابق، الراحل طورغوت اوزال، الذي عُرف بميوله الإسلامية. وأظهرت استطلاعات الرأي تراجع شعبية حزب يلماظ، ولكي يعيد لملمة صفوف الحزب، وكذلك محو الصورة التي تكونت في ذهن الرأي العام بأنه "صنيعة" العسكر، حاول يلماظ التمرد على المؤسسة العسكرية في منتصف آذار مارس الماضي مطالباً اياها برفع يدها عن سياسة الحكومة حيال الإسلاميين، واستطاع بالفعل استقطاب تأييد و"عطف" معظم الأقلام الإعلامية، وحتى السياسية. غير ان ردة فعل الجيش الحادة جاءت عبر "انذار العشرين من آذار" الذي حذّر يلماظ، من دون ان يسميه، من عواقب انتهاك المبادىء الجمهورية والعلمانية، بما يشبه استعداد العسكر للقيام بانقلاب عسكري ودفع يلماظ نحو مصير مجهول. ولم يذهب يلماظ في مواجهته الى النهاية، وهو الذي كان يأمل بتليين ما في مواقف الجيش، وإذ لم يحدث ذلك، عاد الى "بيت الطاعة"، مؤكداً استمرار تحكم الجيش في ادارة الأوضاع. ان مشكلة يلماظ هي مشكلة أطراف الائتلاف الحكومي مجتمعاً، وهي ان هذه الحكومة لم تنجز شيئاً على الصُعُد الاجتماعية والسياسية والخارجية. وفي عهدها ارتفعت نسبة الضرائب والتضخم وصل في نهاية آذار الى مئة في المئة، ولم توفّر انسجاماً بين احزابها التي لم يجمع بينها سوى التخلص من الحكومة السابقة. وعلى الصعيد الخارجي كانت العزلة الإسلامية بعد قمة طهران، والأهم من ذلك الصدمة التي تلقتها انقره برفض قمة دول الاتحاد الأوروبي في كانون الأول ديسمبر الماضي في اللوكسمبورغ وضع تركيا على لائحة المرشحين للانضمام الى الاتحاد، واعقبتها الأزمة الحادة والمتواصلة بين تركيا والمانيا بسبب قرار اللوكسبورغ. ان كل المؤشرات يدعو الى القول ان الحياة الحزبية في تركيا تمر في مرحلة "ترنّح". أحزاب تُحظر، قيادات تلاحق وأخرى تسجن بحيث لم يبق حزب، خارج هذه الدائرة، والمستفيد الأوحد من كل هذا المشهد هو الجيش الذي يسعى، منذ وفاة اوزال، ثم بعد صعود حزب "الرفاه"، الى الحؤول دون "تضخم" قوة أي حزب، حتى لا يخرج عن السيطرة. والجيش، في ذلك، يضع نصب عينيه ما حدث مع حزب "الوطن الأم" عند تأسيسه العام 1983، على يد اوزال، وكان يُنظر اليه على انه حزب انقلاب 1980، لكن الحزب كبر الى درجة ان زعيمه، بصفته رئيساً للجمهورية، اقال للمرة الأولى في تاريخ تركيا رئيسَ الأركان نجيب طورومتاي خلال أزمة الخليج الثانية. وليس صدفة ان يصوّت البرلمان التركي قبل أيام لمصلحة التحقيق في ثروة يلماظ بعد شهر على محاولة الأخير الخروج على بيت الطاعة العسكري 0