لم يكن المعسّل رائجاً في السعودية وإن كان معروفاً في الكويتوالبحرين باسم "القدو". وكان المدخنون ينقسمون الى قسمين، مدخنو السجائر ومدخنو شيشة الجراك الخاصة ب "فطاحلة" المدخنين نظراً الى كثافة الجراك المستخدم وطول "اللَّيْ" المستخدم فيه يصل طوله في بعض الأحيان الى أكثر من 7 أمتار. وهي تتميز برائحتها الصلدة وحجمها الضخم لذا يسميها المصريون تظرفاً "شيشة حجم عائلي". كانت انطلاقتها الأولى في الحجاز التي تميزت بمقاهيها الشعبية المنتشرة داخل المدن وخارجها، وظلت سنوات عدة مركزاً حيوياً للذواقة من مدخني الجراك. كان المدخنون المارون في الحجاز يقضون ساعات من المتعة القصوى في هذه المقاهي يجذبون الأنفاس ويشربون الشاي ويمدون أقدامهم على الكراسي الطويلة التي تصبح في الليل أسرَّة للمسافرين. لكن الجراك كان يترك أثراً منفراً يعم الحي بظلاله ملقياً على منازله وممراته رائحة لا تزول، ويلتصق بثياب الناس وأثاث بيوتهم خصوصاً في الأحياء الشعبية حيث تضيق المسافات وتتلاصق الأماكن. وهو ما دعا أمانة مدينة الرياض في 1992 الى اصدار قرار بمنع استخدام الجراك في المقاهي الواقعة داخل الاطار السكاني، وتحديد استخدامه بأماكن تبعد 45 كيلومتراً عن المدينة. وشجع ذلك استخدام المعسل فاستقطب شرائح أعرض من المدخنين وانتشر في المقاهي وسط البلد التي كان في مقدمها سلسلة مقاهي الشلال. ومضى زمن قبل ان يشمل المنع المعسل أيضاً لتنتقل المقاهي اجمالاً الى أطراف المدينة. وساهم في نجاح المعسل على رغم حداثة عهده داخل البلد وجود المقاهي الأنيقة ذات الحدائق والنوافير والجلسات الشرقية والغربية، وأبرزها سلسلة "الشلال" التي قدمت مفهوماً جديداً للمقهى ذا سمة حضارية. وكانت هذه المقاهي توفر جواً مفتوحاً للقاءات الأصدقاء حتى غير المدخنين منهم. ولا شك في ان انتشار العمالة المصرية في المقاهي التي حلت مكان تلك اليمنية بعد حرب الخليج وحملت معها المعسل المصري لعبت دوراً في ترسيخ العادة الجديدة وتشجيعها بحكم المهارة المصرية التقليدية في اعداد المعسل واشعاله ما فتح عيوناً كثيرة على هذا النمط من التدخين. ولم يكن المعسل المصري "زغلول" مرغوباً لصعوبة تدخينه فجاء المعسل البحريني بنكهته العطرة ليستقطب فئات المدخنين المبتدئين والنافرين من الشيشة برائحتها الصلدة وصعوبة التعامل معها. سمعة حسنة خلال فترة منع الجراك تطورت صناعة المعسّل كثيراً، وأقبل عليه الكثيرون من الأوساط الاجتماعية المتأنقة ربما لصغر حجمه وسهولة اعداده ورائحته اللطيفة، اضافة الى ان سمعته الاجتماعية "أفضل" من صيت الشيشة النابعة من ثقافة سائقي الشاحنات وغيرهم من العمال. والتطور كان سريعاً وبارزاً اذ بلغت أصناف المعسّل المبتكرة، خلال مدة وجيزة، أكثر من 40 نوعاً بالاضافة الى الخلطات الخاصة التي يعدها الذواقون في المعسل والخبراء به والتي يصل سعر الكيلو منها الى 48 دولاراً. والمعسل البحريني صناعة سعودية في الدرجة الأولى، واكتسب تسميته لقيام شركات سعودية بتصنيعه في البحرين في بداية الأمر. وتضم تشكيلات المعسل فواكه الموز والفراولة والعنب والأناناس وخليطاً من فواكه أخرى اضافة الى نكهات مستحدثة مثل قهوة الكابوتشينو. وهناك أنواع شهيرة مثل معسل أبو الهيثم والفنكوش وروان الحجاز والنخيل وغيرها. ونجحت هذه الأنواع في اختراق الأسواق البيروتية والقاهرية حتى انها تغلبت على المعسل المصري زغلول واللبناني العجمي. ولعل ذلك من أسباب ذيوع المعسل البحريني، فالخليجيون الذين يقضون اجازاتهم في القاهرة أو بيروت لا يجدون فيها شيشة الجراك ولا يستسيغون في الوقت نفسه المعسل المصري أو اللبناني. ولأن الشيشة المستخدمة في المعسل واحدة حملوا معهم معسلهم وحثوا المطاعم والمقاهي هناك على استخدامه. وجمهور المعسل البحريني، في الغالب، من الشباب وهو مرغوب لخفته وطراوته وعذوبة رائحته وكثافة دخانه وهو طغى على الجلسات وأصبح من ثوابتها الأساسية في مناطق عدة، وغالباً تضاف الى الماء المستخدم في المعسل نكهات الليمون أو التفاح أو النعناع أو ماء الورد لتصبح رائحة المعسل خليطاً من روائح منعشة ولذيذة. وبخلاف محلات الجراك البعيدة الفوضوية وذات الرائحة المزعجة، يباع المعسل في محلات بدأت تنتشر في المجمعات التجارية الكبرى والشوارع الرئيسية، وتتسم بديكورها الأنيق، وتنسيقها الراقي. والشيشة المستخدمة للمعسل تعددت أشكالها أيضاً، ففيها الفضي والمذهب، وزجاجها من الكريستال الفاخر، وبعض المحلات لديها تصاميمها الخاصة مثلما هو الحال مع ماركات العطور والمجوهرات بحيث أصبح وجود المعسل في المنزل من الاشارات الى درجة الغنى والذوق. أحد عشاق المعسل في مؤسسة "الروان" في جدة يبيع الشيشة في حقيبة معدة خصيصاً، وهي جميلة المنظر وخفيفة الحمل تستخدم في الرحلات والسفريات، وحامل هذه الشنطة، لأناقتها، يظهر كأنه رجل أعمال مهم. اما الشيشة نفسها فهي صغيرة يمكن تفكيكها وتركيبها بسهولة، فهي مصنوعة من مواد تمنع التسرب وتجمع المواد الضارة مع وجود مرشح "فلتر" لامتصاص هذه المواد. وتتراوح قيمة الحقيبة بين 266 و900 دولار، وتحظى بإقبال كبير، بل ان البعض يشتريها هدية. جماهير ومقاهٍ جديدة على رغم الحملات القوية التي تستهدف محاربة التدخين السعودية رابع دولة مستوردة في العالم والتي توجت أخيراً بزيادة الضرائب الى 100 في المئة، تزداد جماهير الشيشة يومياً. وعندما تطرح قضية المضاعفات الصحية الناجمة عن التدخين يتمتم البعض: "ربك هو الستار" بينما يتحمس آخرون للبرهنة ان الشيشة أقل ضرراً من السجائر لرطوبة تبغها وغياب ورق السجائر عنها، ولكون المشيشين أقل استهلاكاً للدخان لأنهم يشيشون مرة أو مرتين في اليوم خلافاً للسجائر الموجودة دائماً في جيب صاحبها الذي يدخنها كل لحظة. كانت المقاهي قبل حرب الخليج تتسم بتواضع المظهر والاهمال، أما الآن فأصبحت أماكن نزهة يقصدها الجميع لمستوى الخدمة فيها والنظافة وتوافر جميع القنوات التلفزيونية حتى المشفرة منها مثل "أوربت" و"اي. آر. تي" و"شوتايم" ولعل بعضهم أدمن التدخين من خلال هذه المقاهي التي قدمت صورة مغايرة للصورة التقليدية المرتبطة بالشيشة. ومع الوقت ظهر مقهى الرمال الضخم الذي يبعد عن المدينة أكثر من 40 كيلومتراً الا انه يزدحم ليلاً على رغم ذلك، وعاد رائد المقاهي لاحياء اسم الشلال ثم جاء مقهى الدانة وغيره حتى ازدحمت المنطقة بسلسلة من المقاهي التي تتنافس في جمال شكلها وحسن تنظيمها، وتبقى منطقة شمال الرياض ساهرة الى ساعات متأخرة من الليل. وهذه تستقطب ليلياً ما يزيد عن خمسة آلاف شخص يوفرون لهذه المقاهي دخلاً شهرياً يقارب مليوني دولار أميركي. وفي جدة توجد مقاهٍ كثيرة أشهرها "النخيل" و"بحيرة القطار" و"الفيروز" و"الأبراج". والرياضوجدة هما أشهر مدن المملكة في هذه الصناعة بينما لا تزال مدن المنطقة الشرقية غير مهتمة كثيراً بذلك. ولكنها قد تنتعش مع توجه المد السياحي الداخلي المتصاعد اليها، كما ان أبها قد تدخل في المستقبل في هذه المنافسة خصوصاً ان مناخها الجميل والمنعش يشجع على جلسات الاسترخاء المصحوبة بتدخين المعسّل. تقدم المقاهي الجراك والمعسل معاً، ولا يتجاوز سعر الكيلو الممتاز من الأول 20 دولاراً أميركياً. ولا تزال شيشة الجراك محتفظة بشكلها التقليدي اذ صنعت اليابان في بداية الستينات نوعاً كهربائياً لم يحظ بالقبول لافتقاره الى النشوة المتولدة من الفحم الطبيعي. ويرى فطاحلة المدخنين ان تدخين الجراك يتطلب نفساً قوياً لا يتوافر الا في الرجال الأشداء بينما يتسم المعسل بالنعومة وليس فيه سوى دخان كثيف رقيق كأنه انثوي الطابع. وينظر هؤلاء الى مدخني المعسل باستخفاف ودونية لأنهم حديثو العهد بأصول التدخين وثقافته وأشبه بالمتطفلين. لكن عدد مدخني الجراك في تراجع واضح نظراً الى الرائحة المزعجة وتذمر العائلة منها، كما ان أكثرهم لا يستطيع القيام بالزيارات الرسمية بعد التدخين مباشرة ويبدو انه مع انقراض الجيل الذي تربى على شيشة الجراك والمقاهي الشعبية فإن المستقبل هو للمعسّل خصوصاً وان معظم المدخنين الجدد يتجهون اليه مباشرة. وهناك استراحات كثيرة يلتقي فيها الرجال للتدخين ولعب الورق، وليس هناك من يتحمل النفقات كاملة فيها وانما يدفع كل فرد حصته، لذلك لا يسمح لغير الأعضاء بالتردد علىها الا في المناسبات والا وجب عليهم دفع قيمة ما استهلكوه. ومن منافع الاستراحات التخلص من صخب المقاهي وازدحامها، والمحافظة على الصحة لأن كل فرد يستخدم شيشته الخاصة دون مشاركة، والأهم انها تحافظ على الخصوصية وتوفر قدراً من الراحة والمرونة لا يتاح في الأماكن العامة. ويتمركز جمهور السيجار والغليون في صالات الفنادق انسجاماً مع وضعهم الاجتماعي. يشربون القهوة التركية ويتبادلون أحاديث ربما كان فيها من الاستعراض أكثر مما تحويه من المتعة، وتشغلهم مراقبة الداخلين والخارجين عن رتابة احاديثهم أحياناً. وهم يفتقرون بشكل عام الى صدق رواد المقاهي وحيويتهم. والمقهى يسمى في اللهجة المحلية "قهوة" وهي لا بد ان تكون مكاناً للتشييش والتعسيل، فإن خلت من ذلك فهي "كوفي شوب" دلالة على الفرنجة في كل ما يتلبس صفة المقهى من دون ان يتضمن جوهره .وتنتشر في الرياض مقاهٍ تقدم القهوة والمرطبات والحلوى، والأكلات السريعة، بعضها عائلي الطابع والآخر مقتصر على العزّاب أو مختلط مع وجود عوازل فاصلة، وهي تتميز بتصاميمها الأنيقة المبتكرة واسمائها الرقيقة مثل "رانديغو" و"توتي كوفي" و"لاك أب" و"نو رول" و"سندي كوفي" وغيرها وهي تتمركز في أحياء المدينة الراقية وتحظى بإقبال عريض لما توفره من اجواء تسلية تكسر الروتين اليومي 0