"أيّام عمّان المسرحيّة" التي بدأت رهاناً أطلقته فرقة "الفوانيس" الأردنيّة، قبل أن تنضمّ إليها فرقة "الورشة" المصريّة، دخلت هذا العام، مع دورتها الخامسة، مرحلة النضج. فالتظاهرة التي تقدّم نفسها بصفتها الملتقى الدولي للفرق المسرحية المستقلة، أخذت تكتسب مكانة عربيّة وعالميّة، وتفرز في الأردن جمهوراً مسرحيّاً راقياً. لكنّ النقاشات الصاخبة التي أثيرت هذا العام لم تكن كلّها مسرحيّة للأسف! فالاتهامات الموجّهة إلى المنظّمين، أضاعت جزءاً من مكتسبات الموسم الفنيّة في سجال عقيم، قائم على الريبة والشبهات. انطلقت حملة التجريح من "نقابة الفنانين الأردنيين"، ثمّ تضخّمت الشائعات، حتّى ظنّ بعض الغلاة أنّهم وضعوا يدهم على مؤامرة خطيرة، وأن "أيام عمّان المسرحيّة" مدعومة من وكالة المخابرات الأميركية ! أصدرت نقابة الفنانين التي لم يمضِ على انتخاب مجلسها أكثر من شهرين بياناً، هو باكورة نشاطاتها، يدعو "الفنانين العرب كافة وأجهزة الاعلام العربية الخاصة والعامة إلى مقاطعة فرقة الفوانيس وما ينتج عنها من نشاطات فنية". وهددت النقابة "بمتابعة تجاوزات الفوانيس قانونياً"، كما أشار البيان إلى أن "اختراق القانون واضح والتمويل الخارجي مؤكد باعتراف منظمي المهرجان". ورأى أن "انتقاء الفرق المشاركة يثير أكثر من علامة استفهام حول حضور البعض وغياب البعض الأهم من فرق تمثل سورية، لبنان، العراق… إلخ". وتعرّض البيان بالاساءة المباشرة إلى "الورشة" التي اعتبرها من الفرق المسرحية "المتحفظ علىها من الفنانين المصريين". ردّت "الفوانيس" على البيان المذكور ببيان مضاد متّهمة النقابة ب "استغلال سلطتها التقديرية … وإلحاق الضرر بنا وبضيوفنا. محتفظين بحقنا لمواجهة قرارات وبيانات النقابة وفقاً لأحكام القانون والتشريعات الأردنية". ونفى بيان الفوانيس تهمة النقابة حول لاشرعيّة التمويل، مؤكّداً أن الحصول على "الموافقات تم بصورة قانونية مسبقة، تحفظ سيادة القانون الأردني وسيادة الدولة الأردنية". وتساءلت الفوانيس من أين استقت النقابة معلوماتها حول فرقة الورشة التي "تعرض فنونها وتمارس أنشطتها داخل وخارج مصر، وترعى وزارة الثقافة المصرية الكثير من عروضها وجولاتها" ؟ أما عن اختيار العروض المشاركة في المهرجان، فذكّر البيان بأنّ ادارة المهرجان مستقلة، ولها أن تقوم بدعوة الفرق حسبما تشاء، وللفرق حق قبول الدعوة أو رفضها. ولفت النظر إلى أن كثيراً من الدول التي لم تشارك في الدورة الحالية، شاركت في دورات سابقة، مما ينفي أي انتقائية أو معايير خفيّة في تحديد البرمجة. وشرعت الفوانيس كما أكد مدير المهرجان نادر عمران ل "الوسط" في الاجراءات القانونية لملاحقة مجلس النقابة ومطالبته باصلاح العطل والضرر الناتجين عن اتهامات مردّها إلى "أحقاد شخصية" - حسب عمران - هدفها إفشال المهرجان، والقضاء على المكتسبات التي جعلت منه مؤسسة جادة". وكان عمران قد تطرّق إلى مسألة تمويل المهرجان في المؤتمر الصحافي الذي سبق انطلاق الفعاليات، فأوضح أن "الفوانيس" و"الورشة" تلقتا "دعماً مباشراً مقداره ستون ألف دولار من مؤسسة فورد فاونديشن..." ثم استُحدِث "نظام آخر للتمويل غير المباشر حيث تقترح الفرق المرشّحة، جهات أهليّة تموّل مشاركتها في المهرجان". وتتردد في أوساط المثقفين في الأردن أن فورد فاونديشن واحدة من "الأجنحة الثقافية" لوكالة الاستخبارات الأميركية التي كانت سبباً في فضيحة تمويل مجلة "شعر" في الخمسينات ! وكان سبق تلك الضجّة التمويل، قضيّة أخرى تتعلّق باستضافة "أيّام عمّان" فرقاً فلسطينيّة من الأراضي المحتلّة عام 1948. إذ رأى بعض المثقفين في تلك المشاركة انحيازاً إلى التطبيع الثقافي مع اسرائيل. هكذا انسحب من البرنامج الممثل السوري عباس النوري الذي أعد وأخرج مسرحية "طلقة أخرى في بيت برناردا ألبا"، فيما جرى الهمس أن عدم اكتمال العمل هو وراء مغالاته الوطنيّة! واتخذت نادرة عمران، بطلة العرض المذكور، الموقف نفسه، إذ أصرّت الفنّانة الأردنيّة، على رفض المشاركة، ل "عدم التورّط في أي سياق تطبيعي يخدم العدو الصهيوني". أما مسرحيّة "العذراء والموت" التي دار حولها النقاش، فهي من تقديم "مسرح القصبة". وقد اعتبر المخرج محمد يوسف العبادي رئيس اللجنة العليا ل "أيام عمّان" خلال الدورة السابقة، أنها "تدعو إلى التطبيع مع العدو اليهودي". ولم تلبث ألسن كثيرة أن تناقلت العبارة من دون أن ترى العمل الذي أعده وأخرجه ومثله جورج ابراهيم بمشاركة محمد بكري وعرين عمر ومكرم خوري. واعتبر المنتقدون أن العمل "تبرير صارخ لتصالح الضحية مع الجلاد". تناقش "العذراء والموت" التي سبق أن عرضت في باريسوتونس ولندن، مسألة العملاء في صفوف الشعب الفلسطيني. وتتجرّأ - بتعبير المخرج - على "طرح أسئلة اشكالية: هل نستطيع التعايش مع أولئك الذين باعوا أهلهم وخانوا وطنهم أيام الاحتلال؟ وكيف يمكن محاكمتهم إذا لم يتوافر لدينا أدلة قاطعة سوى شهادة الضحايا؟ وكيف السبيل إلى الخلاص من رغبة الانتقام لدى الضحية اذا التقت جلادها في يوم من الأيام"؟! لكن المسرحيّة التي أثارت كل هذا الضجيج، لم تكن أفضل الأعمال الفلسطينية التي كانت كثيرة في عمّان هذه الدورة. فقد قدم "مسرح القصبة" عملاً آخر هو "المتشائل"، كما قدم الثنائي جاكي لوباك وعامر خليل من قدماء "الحكواتي الفلسطيني" "عيد قنديل" و"جسر إلى الأبد"، وقدم مسرح الجميع "الجزيرة". وكانت مسرحية "المتشائل" أبرز تلك العروض، ومن أبرز عروض المهرجان. فعلى رغم مضي عقد كامل على هذه المونودراما اخراج مازن غطاس، ما زال الممثّل الاستثنائي محمّد بكري ينجح في اعطائها قدراً مدهشاً من الديناميّة والحياة. وبكري الذي أعدّ العمل أيضاً للخشبة عن رواية إميل حبيبي الشهيرة، يعتمد كثيراً على الارتجال، ويربط كلّ عرض جديد باطاره الزماني والمكاني، مستوحياً مادته من الأحداث الراهنة، مثيراً الأسئلة التي تقض مضجع الانسان العربي، وتدفعه عنوة إلى فخاخ الحيرة والعدم. وأبدع الفنّان الآتي من حيفا في تجسيد التراجيديا الفلسطينية بكل عنفها وعبثيّتها، كما يعطي لسخرية حبيبي مجالها لفضح سياسة التذويب والطمس والسحق التي مارسها الكيان الصهيوني وما يزال. ويسيطر بكري على مشاهديه بمقدرة فذّة، مفجراً ينابيع الحزن والأسئلة الجارحة، متنقلاً بمرونة بين الفجيعة والمهزلة، بين البكاء والضحك، ليقدّم أرقى أشكال الكوميديا السوداء. ومرّر بكري في عرضه تعليقات ساخرة على النقاش الدائر في المهرجان حول "التطبيع". كما أغرورقت عيناه بالدموع خلال المؤتمر الصحافي، حين طرح أحد السائلين للمرّة الألف مسألة الجنسية الاسرائيلية، مذكّراً أن السلطات اللبنانية منعته من دخول أراضيها للمشاركة في فعاليات "مسرح بيروت" بمناسبة الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين. أجاب بكري: "أتوق إلى الجلوس في مقهى عربي في دمشق أو بيروت، وإلى تناول القهوة في بيئتي العربية… فأرجو ألا تضيقوا ذرعاً بأحلامي الصغيرة"! وإضافة إلى "المتشائل" تميز عرض آخر من تونس، مأخوذ عن مسرحية "عطيل" لوليم شكسبير كمّا عرّبها الراحل جبرا ابراهيم جبرا. العمل من اخراج توفيق الجبالي، الذي قدم العام الماضي في عمّان "مذكرات ديناصور"، و"كلام الليل" في الدورة الثالثة للأيام. لم يُبقِ الجبالي إلا على شخصيّتي عطيل وديسدمونه، لاجئاً إلى اداء ممثلين شابين هما: عفاف حاجي وزياد التواتي. وأطلق المخرج التونسي لجنونه العنان في تصوّر النصّ الشكبيري، فصاغ المسرحيّة انطلاقاً من رؤية هاذية أضفت على العرض لغة مشهدية لم تألفها عروض المهرجان الخمسة عشر. وإذا كان الصمت هو حجر الأساس في عمارته الاخراجيّة، فإن السينوغرافيا هي بطلة العرض الذي يتمعّن في معاني الموت ويوغل في ايماءات لفض عتماته من خلال أفعال مشروخة غير مكتملة. فغياب الفعل يدلّ على غياب القدرة وعلى العجز والاستلاب. في معرض الاشارة إلى التمزّق بين الأزمنة، اعتمد الجبالي تقنيّة تغريبيّة عبر استعمال جهاز التلفزيون. إذ وضع فوق الخشبة شاشة صغيرة تبث - بالأبيض والأسود - تقارير مصورة بالانكليزية عن حرب الخليج، ومقتطفات من فيلم أورسن ويلز الشهير عن مسرحيّة شكسبير نفسها. وفي هذا المناخ يأتي اللقاء الجسدي ليحكي الموت بين لعبة الحرب ولعبة الحبّ، وليجسّد القطيعة والارادة المهدّدة بالانشطار والكسوف. "عطيل" عمل مثقل بمشهدية عالية نأت بالمهرجان من الخطابة والمباشرة، إلى الايماء والايحاء والمجاز والتعبير البليغ عن الحالات والمناخات، عبر لغة الحواس والانفعالات المسكونة بالتفاصيل والأسرار. ومن العروض البارزة الأخرى نشير إلى "غزل الأعمار" الذي يجسّد مرحلة جديدة في مسيرة "مسرح الورشة" المصريّة. فبعد "غزير الليل" تواصل تلك الفرقة الخوض في أشكال السرد والاحتفال التقليديّة، وفي التراث المستمدّ من المخزون الجماعي العربي، بحثاً عن روح التراجيديا الصرفة بمعناها الكوني. ربّما كان "غزل الأعمار" من العروض التي لم تثر جدلاً في عمّان، لأنّه يفتقر إلى الشعار السياسي المباشر من جهة، وإلى النزعة الاختباريّة المسرفة في جماليّتها من جهة أخرى. لكن التجربة التي شاهدنا، وهي خلاصة سنوات من البحث والعمل، ليست سوى قراءة أولى لحلقة من حلقات السيرة الهلاليّة التي يعمل عليها حسن الجريتلي ونجيب وخالد الجويلي وسيّد رجب وطارق أبو الفتوح وفانيا اكسرجيان وهدى عيسى والآخرون. لذا فان العروض تتطوّر مع الوقت، وتكتمل وتتغيّر وتنضج وتتبلور. تعتمد المسرحيّة على جماليات المسرح الاحتفالي، فمن الأشعار التي تناقلتها الأجيال عن السيرة تخرج الدراما، ومن الكورس الذي يروي لنا فصول الملحمة بمشاركة شاعر السيرة سيّد الضوّي يخرج الممثلون فإذا بهم شخصيّات خالدة وأبطال من السيرة. وتتضافر كل العناصر الجماليّة: من الغناء والتحطيب والتمثيل والقصّ، والتعامل الذكي مع الفضاء، والعناصر السينوغرافيّة البسيطة والديناميّة، والديكور والاضاءة والملابس والاكسسوارات والآلات الموسيقيّة، لتعطي للاحتفال المشهدي قيمته الدراميّة والطقوسيّة. كأنّنا في سهرة شعبيّة يحييها الراوي، ولا تكتمل قيمتها الا بمشاركة الجمهور. أما العرض المصري الآخر الذي قدّمته فرقة "الشظية والاقتراب"، انطلاقاً من مسرحيّة لوركا "بيت برناردا ألبا"، فلم يكن عند المستوى المطلوب. عجز المخرج محمد أبو السعود عن ضبط ايقاع العرض، وعن صياغة رؤية متكامل للعمل، وأساء ادارة ممثلاته رشا أبو الريش، جليلة نوار، سلوى علي، جومانا بركات، منى مختار، كارولين خليل. وجاءت بلادة الحركة وتمصير الحوارات وسطحيّة الاداء لتجعل العرض أقرب إلى دراما تلفزيونيّة استهلاكيّة. وبين العروض الأردنية نشير إلى "ذاكرة صناديق ثلاثة" الذي اخرجته سوسن دروزة وأداه محتسب عارف وزهير حسن ونجوى قندقجي. ويروي العمل قصّة ثلاثة أصدقاء دائمي الترحال، يبحثون بلا جدوى عن حلول لأزماتهم الوجودية. جعلت دروزة السياق المشهدي يقارب مسرح العبث، حيث المصائر تؤول إلى نقيضها ويغدو التحول المتسارع سمة عبّر عن هواجسها وارتباكها الأداء اللافت لمحتسب عارف. وكان أحمد العمري مؤدياً بارعاً من مسرحية "ولو" التي قدمها مع غادة سابا مؤلفة العمل ومخرجته. وقدّمت سمر دودين "تجوال ذات" مع تلميذات مدرسة أردنيّة متميّزة في مناهجها. والعمل نتيجة أبحاث وارتجالات وتمرينات، احتضنها محترف مسرحي يجمع المشاغل الابداعيّة إلى الأهداف التربويّة. وأثار عرض "100 جسم متحرك الا واحد" الذي قدّمه مسرح أليس الفرنسي تحت بعنوان الاهتمام، لاتكائه على التجريد التشكيلي انطلاقاً من الألوان والخطوط. فالبقع الضوئية التي تتوالى على مساحات متفرقة من الخشبة، تخلّف انطباعاً عميقاً بالحركة يستمد أصوله من مراجع جماليّة عدّة بعضها سريالي. لكن المخرج بيار فورين اعتبر أن عمله "بلا مرجعية، وهو أقرب إلى أعمال التشكيليين، ومادته بصرية غير قابلة للتصنيف... يجب أن ننسى التاريخ والتراث ونشاهد كل شيء كما لو كان حلماً". ولم يكتب للجمهور مشاهدة عرض "هابيل وهابي" لفرقة مسرح يكن سينان الجزائرية سيدي بلعباس، بسبب ظروف غامضة لم تتمكّن ادارة المهرجان من فهمها على رغم المساعي الجبّارة التي بذلتها. وكان غياب الفرقة الجزائريّة مؤسفاً، لأن مشاركتها كان جزءاً من تظاهرة خاصة بالمسرح الجزائري تحت عنوان "الجزائر في القلب". لكن الندوة التي كانت مقرّرة ضمن هذا الاطار، عوّضت جزءاً من النقص. تناولت الندوة التي شارك فيها نادر عمران والزميلان عثمان تزاغارت وبيار أبي صعب، مختلف تيارات ووجوه وتحديات واشكاليّات وقضايا المسرح الجزائري منذ الاستقلال وحتّى دائرة العنف الدموي التي تلفّ البلاد0