يعتقد لبنانيون ان رئيس الجمهورية الياس الهراوي قام خلال ولايته بانجازات تاريخية، منها انهاء الحرب الأهلية أو حروب الآخرين على الأرض اللبنانية كما يسميها هو، ومنها اعادة بناء دولة المؤسسات والقانون والأمن، ومنها أخيراً اعادة العيش المشترك المسيحي - الاسلامي واحياء الوفاق الوطني. ويعتقد البعض من النخب اللبنانية، ومنها من يقيم في الخارج، ان الرئيس الهراوي رئيس تاريخي لأنه اضافة الى ما سبق قام بخطوة رائدة في اتجاه الغاء الطائفية، سياسية كانت أم غير سياسية، وفي دفع اللبنانيين نحو الوفاق الوطني الحقيقي عندما طرح مشروع قانون الزواج المدني الاختياري على رغم المعارضة الواسعة لقسم كبير من اللبنانيين بقيادة مرجعياتهم الدينية والسياسية في آن وابداء الاستعداد للقتال من اجل اقراره أو على الأقل مواجهة رافضيه بشراسة. ويذهب الآخرون الى حد القول ان تاريخ لبنان سينصف الهراوي. ويعترف كثيرون للرئيس الهراوي بصفات متنوعة، منها الجرأة والاقدام والبراعة في "التكتكة" السياسية. كما يعترفون ايضاً بأن اقدامه مع مجلس الوزراء على اتخاذ قرار بالقضاء على تمرد العماد ميشال عون وتنفيذ هذا القرار بالوسائل العسكرية كان موقفاً تاريخياً لأن استمرار التمرد كان من شأنه ضرب الجمهورية الثانية أو الثالثة كما يسميها العميد ريمون اده، وضرب مرتكزات السلم الأهلي التي حددها اتفاق الطائف ويعترفون ثالثاً بأن ترسيخه العلاقة المميزة بين لبنان وسورية على رغم مخاوف جهات لبنانية عدة انطوى على اعتراف تجاهله اللبنانيون طويلاً وهو ان استقرار لبنان في ظل انقساماته الطائفية والمذهبية غير ممكن من دون سورية حليفة وغير ممكن أيضاً في ظل لبنان معاد لها أو خائف منها. ويعترفون رابعاً بأن خطوته المدنية رائدة وتعبر عن شجاعة كبيرة بسبب تجذر الطائفية والمذهبية في البلاد، لا سيما بعد الحرب، وبسبب استعداد الطوائف والمذاهب في لبنان على خلافاتها وتناقضاتها للتضامن حفاظاً على مصالحها. لكن المتتبعين انفسهم يدعون من يحاول استباق كتابة التاريخ بتكريس الهراوي رئيساً تاريخياً الى تذكر أمور بعضها بعيد وبعضها الآخر قريب، وهي الآتية: 1 - لم يكن قرار انهاء تمرد العماد عون العام 1990 لبنانياً، بل سورياً بموافقة معظم العرب المجتمع الدولي بزعامة الولاياتالمتحدة. فهذا المجتمع كان منهمكاً بالتحضير لاخراج الاحتلال العراقي للكويت وكان في حاجة لكل العرب وفي مقدمهم سورية التي استفادت من ذلك للحصول على ضوء اخضر من المجتمع الدولي للقضاء على وضع في لبنان يهدده ويهدد نظامه ومعها مصالحها ودورها. واختيارها النائب الهراوي رئيساً للجمهورية بعد اغتيال الرئيس رينيه معوض كان من أبرز الدوافع اليه ابداؤه الاستعداد لاتخاذ قرار بتصفية التمرد. ومعروف ان اختيارات رئاسية عدة استبعدت في حينه من سورية لأنها امتنعت عن ابداء استعداد مماثل أو أعربت عن خشيتها في هذا الموضوع أو غاب الجزم عن موقفها منه. ولا يقلل ذلك من دور الرئيس الهراوي في فتح الطريق أمام الجمهورية الثانية أو الثالثة التي كان يسدها العماد عون، لا سيما بعدما أبدى أكثر من مسؤول في حكومته في ذلك الوقت تمرداً في مشاركته في القرار المهم. 2 - كان الرئيس الهراوي تاريخياً في قيادته لبنان نحو ترتيب علاقة مميزة وثابتة مع سورية لاعتبارات كثيرة معروفة منها مصلحة البلد، لكنه لم يكن تاريخياً عندما احجم عن رعاية هذه العلاقة كما يجب بحيث تعزز وحدة اللبنانيين وتحقق المصالحة الوطنية وترسخ الوفاق وتطمئن الجميع الى ثبات الكيان اللبناني بمقوماته، وهي السيادة والاستقلال والحرية والديموقراطية. ولم يكن تاريخياً تحديداً عندما استخدم هذه العلاقة لمصالح معينة، بعضها سياسي وبعضها الآخر غير سياسي، وعندما لم يبادر الى التدخل بالنصح طبعاً وبالارشاد الى وقف ممارسات معينة وتصحيح ممارسات اخرى. ولم يكن تاريخياً كذلك عندما "وافق" على تقاسم البلد مع شركائه اللبنانيين، خصوصاً الذين منهم في السلطة الامر الذي ساهم في تعزيز الانقسام وفي ابقاء الاستقرار هشاً وجعله مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالدور السوري في لبنان . 3 - كان الرئيس الهراوي تاريخياً في خطوته المدنية على رغم ان توقيتها خاطئ بسبب معرفته بطغيان الطائفية والمذهبية وبسبب المخاطر التي يتعرض لها لبنان من اسرائيل، التي تطرح الانسحاب المشروط منه، لكنه لم يكن تاريخياً عندما اصر على التصويت عليها في مجلس الوزراء قبل مناقشتها كما هي العادة. ولم يكن تاريخياً في المواقف التي اتخذها بعد الضجة الاسلامية والمسيحية والسياسية التي قامت في الشارع اللبناني احتجاجاً عليها. اذ حكم الانفعال هذه المواقف. فلم يقم بواجب التهنئة بعيد الاضحى مع رئيس حكومته ومع مفتي الجمهورية ومع قائمقام شيخ عقل الدروز، علماً ان رد الفعل السلبي للأول على مشروع الزواج المدني كان عاقلاً في البداية اذ لم ينطو على رفض له بل على اعتراض على توقيته. كما انه لم يؤد به الى الاعتكاف او الاستقالة الامر الذي يفجر ازمة حكومية وربما ازمة حكم. وامتنع عن المشاركة في يوم الجمعة العظيمة في جامعة الكسليك كما كانت عادته مسجلاً بذلك رفضاً لموقف البطريرك صفير من الزواج المدني. ولم يكن تاريخياً ايضاً عندما استمر في التصعيد والهجوم لا بل التحريض مخلفاً انطباعاً بأنه يريد الذهاب الى الآخر اياً تكن النتائج. ولم يكن تاريخياً اخيراً لأن اللبنانيين يعرفون ان بعض دوافع موقفه الوطني تصفية الحسابات مع رئيس حكومته الذي رفض تمديداً ثانياً له. كما أراد "حشر" الجميع بمن فيهم الناخب الاوحد لرئيس دولة لبنان أي سورية بعدما شعر بأن عواطفها "التمديدية" تختلف هذه المرة عن عواطفها العام 1995 ايام التمديد الأول. طبعاً لا يعني ذلك ان الآخرين، خصوصاً شركاء الرئيس الهراوي في السلطة، تاريخيون. ذلك انهم ساهموا، بشكل أو بآخر في سياساته او شاركوه نتائجها ويتحملون تالياً بعضاً من مسؤوليتها. وهو لا يعكس موقفاً سلبياً من الرئيس الهراوي، بل خوفاً على البلاد في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه . كما تقتضي تحقيقاً عند هؤلاء لهاجس التاريخ. فكل منهم يريد دخول التاريخ من الباب الواسع. بعضهم من الباب الطائفي وبعضهم من الباب المذهبي وبعضهم من الباب الاقتصادي والاعماري، وبعضهم وقد يكون قليلاً من الباب الوطني. وهذه الارادة مشروعة. لكنها لا تكفي لكي يصبح المرء تاريخياً .