قالوا وديع الصافي يزور لندن بدعوة من "الجمعية الارثوذكسية الانطاكية" لاحياء حفلتها السنوية الثامنة، فصحت أحلامك. هل يمكن أن تلتقي هذا الصديق القديم... القديم للمرة الأولى؟ تذكرت كيف عرفته صوتاً من دون صورة في سنواتك الأولى، وعندما وقعت عيناك على وجهه السمح، دهمك حزن مفاجئ... كأنك كنت تريده أن يبقى صورة في بالك تخشى أن تتبين تفاصيلها فتفقد بعض سحرها الموشوم بالسر والغياب. وها أنت بعد عمر من المصالحة مع الصورة، تجد نفسك وجهاً لوجه مع أسطورتك البكر، فكيف يكون "نسر المغنى" بعيداً عن منبره؟ وهل يفاجئك صاحب الحنجرة التي هجأت أيامك على ايقاعها حداء ومواويل تغلغلت في المسامات؟ ألم تفتح عينيك على الدنيا وأنت تسمعهم يرجونك: "عمّر يا معلم لعمار وعلّي ضيعتنا ... يا عمار العمارين دبرنا قبل تشارين"؟ أطل وديع أبو الأغنية الشامية الذي أعطى ريف بلاده، صورته الأبهى والأشهى. صوته يتضوع برائحة العشب وسماوات زرقاء لونتها أغصان الصنوبر. كلماته أساور هو الذي يمتشق بتأن صوته المشبع بذرات التراب. من أين تدخل عالم هذا الصوت الذي يبسط أمام الروح برهة الفرح الأنيق، وكيف تفتح ملف فنان يختزل تاريخ الأغنية اللبنانية، لا بل الشامية، الريفية؟ الوجه البشوش والعينان المتألقتان، والدفء الذي ينسكب مع كلمات "حبيبي" التي يوزعها الأستاذ بسخاء، تنفض عن القلب رهبة اللقاء وسرعان ما يبدو وديع طفلاً كبيراً، مع أنه تخطى عتبة السادسة والسبعين! تستجمع قواك، وتتذكر الأسئلة "الاحتجاجية" التي جئت مدججاً بها، عن حفنة من الأغاني التي كنت تود لو لم يؤدها وديع بسبب موضوعها أو لحنها... لكن كيف تغامر بتعكير صفو اللقاء، وأنت غير قادر على تذكر عناوين أو بعض مقاطع "أغاني المناسبات" التي قدمها، مع أنك غيبت معظم ما شدا به منذ سنوات طويلة عن ظهر قلب؟ تقول لنفسك، فلنترك تلك الأغاني في "قبورها"، ولنحتف بالجمال والفن الأصيل، فوديع عاتب على أصحاب القرار، متعب أرهقته مسؤوليات الحياة التي قد تبرر بعض "هفوات" المطرب الكبير، فهو يقول: "في رقبتي مئة نسمة من أفراد عائلات مستورة وأرامل ... للأسف، لا أزال في هذا العمر مسؤولاً مادياً عن هؤلاء جميعاً. أولادي يساعدونني طبعاً، الله يخليك ويخليهن. نحن نتعب كثيراً، وأنا لست تاجراً". لا ينسى وديع محبيه وأصدقاءه، فهذا وجهه يتوهج بالفرح عند ذكر "السلمية"، بلدة كاتب هذه السطور على تخوم البادية السورية، التي استقبلته استقبال الفاتحين قبل حوالي ربع قرن على نحو لا يزال ماثلاً في باله، مع أنه غنى فوق أشهر مسارح العالم. وهكذا يليق بالبداية أن تكون تحية وفاء للشاعر ميشال طراد الذي نظم له "رح حلفك بالغصن يا عصفور". تنهد بعمق عند ذكر الراحل الكبير، قبل أن يقول: "غيابه خسارة لا تعوّض، فلن يكون هناك ميشال طراد آخر. هذا شاعر من نسيج نادر، نظم "رح حلفك بالغصن يا عصفور" بحس مرهف وفنية عالية، فجاءت مترعة بالعاطفة ولم أتمالك نفسي عندما سجلتها أول الأمر، فبكيت". في هذه الاغاني بكيت ووديع الذي يغني من القلب لا يقوى أحياناً على التحصن ضد العبارات التي ترشح بالذكرى والحنين، فهو يؤرخ بالدموع لبعض أغانيه التي يعددها للمرة الأولى ل "الوسط": "بكيت أثناء تسجيل "لا أنت راضي ولا أنا راضي" كما انهمرت دموعي مع اغنية ثالثة لسعيد عقل، وأبكتني أيضاً "غابت الشمس وبردت النسمات" وهذا سر أبوح به هنا للمرة الأولى". ومن هم الشعراء الذين ارتاح وديع الصافي للعمل معهم، أسعد السبعلي أو يونس الابن أو مارون كرم...؟ وقبل أن تنتهي سلسلة الاسماء المعروفة، سارع الى القول في ديبلوماسية واضحة: "هؤلاء من عمالقة القصيدة، ولا ننسى العظيمين اللذين غنيت لهما، أسعد سابا، وعبدالجليل وهبة. لكن مارون كرم نظم لي أكثر من الجميع. كنت أتفق معه على الموضوع وكيفية معالجته، وبعدما ينتهي من كتابة النص ننقحه معاً، وأقوم بتعديله كما أشاء ... كانوا دائماً يكتبون لي ما أريده، وربما كنت صاحب الفكرة في عدد كبير من القصائد التي غنيتها واستوحاها الشاعر مني. هكذا كنت وكل من الشعراء الذين تعاونت معهم أشبه بتوأمين متكاملين". أثمر هذا التعاون مع أسعد السبعلي أغاني في مستوى "غابت الشمس وبردت النسمات" التي أبكته وأبكت كثيرين. ولا يفوته أن يوجه التحية الى الراحل أسعد سابا الذي يعتبر من أبرز شعراء الأغنية اللبنانية، وكان نظم له "كنتو حناين" و"يا بيتنا الخلف الضباب" التي يجدها وديع أقرب الى الفيلم الدرامي بفضل "شبابيكها المخلعة ... وبيوتها المهجورة التي لم يعد يمر بها الواوي أبو زهرة ... وصورها التي تفيض بالعاطفة". والدراما حاضرة في معظم أغاني وديع الذي يحرص على سرد حكاية، أو عناصر من حكاية، ففي "كثير من أغانيَّ قصة تهدف عادة الى امتاع المستمع ومعالجة موضوع اجتماعي أو وطني ... اعتبر نفسي مناضلاً قبل أن أكون مطرباً". وإذ أنشد وديع قصائد عدة لمعظم الشعراء اللبنانيين البارزين، فهو لم يتعاون مع سعيد عقل سوى مرة واحدة، حين أدى مقطوعة من مسرحيته الشعرية "قدموس" ومطلعها: ربِّ ردَّ الاهوال اقبلن يضربن وجُدْ لات َما خلاك يجودُ وحظيت الأغنية بثناء واسع، فلماذا لا يعيد الكرة؟ قال: "أولاً، ربما كانت تلك ملحمة لا أغنية، فكل كوبليه فيها يكاد يكون قصيدة منفصلة، وقد حاول بعضهم أن يلحنها ولم يستطع. أما بالنسبة الى التعاون بيننا، فكيف يتم إذا كنا لا نلتقي؟ أنا مقصر معه، وهو زارني مراراً، لكني لم أذهب للاطمئنان إليه. مع ذلك، أنا غنيت قصيدته لأنني أكن له ولشعره تقديراً كبيراً". هناك من يقول ان المشروع الكبير الذي لم يحققه وديع الصافي، هو عمل أو سلسلة أعمال مع الرحابنة، اذ أن "سهرة حب" التي جمعته مع فيروز ونصري، و"دواليب الهوا" التي أداها مع صباح، لا يكفيان وحدهما لإرواء نهم الجمهور! إلا أن وديع الصافي، الذي لم يبد عليه حماس كبير لتحقيق هذه الرغبة، له رأي آخر، اذ "كانت هناك حفنة من الأعمال المشتركة الأخرى. وعدا ما قدمناه للتلفزيون، تعاونا على انجاز ثلاثة أعمال - كما أذكر- في اطار مهرجانات بعلبك. ثم كانت الحرب التي وقفت في وجه أي تعاون جديد لسنوات". ولماذا لا يفكر الطرفان بلقاء جديد قد يعيد الى الأغنية اللبنانية نكهتها الأصيلة؟ يبدو ذلك له مستبعداً مع أنهم "جميعاً أصحابي وأحبابي، وكلهم عطاء. وقد بدأنا معاً تقريباً ... وأحب أن أتعاون معهم، لكن لا يوجد من يعينهم على الميزانية مما سيضطرهم الى أن يدفعوا أتعابي وحدهم، أو يضطرني الى اضاعة وقتي ... لا يستطيعون أن يعطوني الأجر الذي أتقاضاه عادة، وحتى إذا رخّصت لهم قليلاً حباً بالتعاون معهم، فإن أجري يظل عبئاً يتعبهم، وليس بوسعهم حمله وحدهم". معروف أن الرحابنة خططوا لتقديم عروض استعادية مستمدة من مسرحياتهم على منصة مهرجانات بعلبك، التي رفعت عنها الستارة العام الماضي بعدما أسدلتها الحرب سنوات طويلة. إلا أن الظروف لم تسعف الرحابنة، ووديع الصافي واصدقاءهم الذين شاركوهم صنع "مجد بعلبك"، بتوجيه هذه التحية للمهرجانات العريقة. هكذا انكسر حلم اللقاء بين وديع والرحابنة مرة أخرى لأن "أعضاء لجنة بعلبك كانت أيديهم مغلقة، ولا يعرفون الفرق بين الفن الأصيل وغيره". وخلافاً للمثل القائل "البعد جفا" يعتز وديع بصداقة الرحابنة ويحن الى الأيام التي جمعتهم في أعمال كل منها عرس متجدد للأغنية الأصيلة. وتعذر اللقاء لا يؤثر على صداقتهم الثمينة لأن "المرحوم عاصي ومنصور وأنا تعاونا بكل حب واخلاص، ولا تزال هذه العلاقة موضع احترام الرحابنة". هكذا أحبني عبدالناصر وما رأي وديع الصافي بأغاني فيروز الجديدة - القديمة وفق التوزيع الذي أنجزه ابنها زياد؟ قال: "في الحقيقة، لم أسمع هذه الأغاني ... لكني لا أحبذ فكرة التجديد هذه ولا اعتقد أنها صائبة. قدمت فيروز أغاني رائعة، فهي تتمتع بصوت مدهش وموهبة صقلها الاخوان رحباني ... وكانت في البداية مبتدئة تحتاج الى العناية التي وجدتها لدى عاصي. وهو كان عبقرياً وفناناً عملاقاً ساعده شقيقاه اللذان كانا رائعين أيضاً ... والمؤسسة التي انشأها الاخوة استعانت بي وبغيري من الفنانين، لكنها لم تصنعني، فأنا كنت قد أصبحت جاهزاً بعدما قطعت المراحل الأولى بسنوات، حتى أنهم تأثروا بي، كما يعترفون أنفسهم ... عاصي أكبر مني بقليل، ومنصور من عمري ... تعبنا معاً وعانينا معاً في البداية من قلة المال وصعوبات العمل". وديع الذي سبقه صوته الى احبائه في أطراف الوطن العربي والعالم، يكاد يكون على سفر دائماً، فهو لا يطيق المكوث في مكان واحد طويلاً ولو كانت له منزلة خاصة في نفسه. ومع أنه يخص وطنه الأول، لبنان، بنصيب وافر من وقته، تحس أن لرحيله شبه المنتظم عن بيروت الى القاهرة أسباباً أخرى غير الحرص على التواصل مع جمهوره، فهل يشعر أن لبنان لم ينصفه؟ "نعم، اذا كنت تقصد الحكومة. الشعب اللبناني - مثل السوري والمصري... - كان دائماً عظيماً وفياً شملني بمحبته. لكن الحكومة حاضرة - غائبة عن الفن والفنانين. والدولة لم تنصفني، لا بل حاربتني. هذه هي العادة، البارزون يُحاربون في لبنان ويُجبرون على هجره. الشعب بريء من ذلك، فهو كرمني ولا يزال. وأنا ابن هذا الشعب خرجت من بيئته، وأغني له بكل طوائفه. كما عاملني الشعب السوري بود ومحبة لا أنساهما. وكرمتني مصر، شعباً ومسؤولين، تكريماً كبيراً. فكما تعلم منحني الرئيس حسني مبارك شرف حمل الجنسية المصرية، وهذا شيء لم يحصل من قبل مع أي أجنبي لم يستوفِ شروط الاقامة الطويلة التي تجعله مؤهلاً لحمل الجنسية". ولئن لم يعش وديع لفترات طويلة في مصر ولم يحمل جنسيتها حتى الماضي القريب، فعلاقته الوثيقة بها ترقى الى نحو نصف قرن. وكان موضع حب وتقدير الشعب المصري ومسؤوليه، وفي مقدمهم الرؤساء الثلاثة "عبدالناصر والسادات ومبارك احبوني كثيراً، وكنت أزور مصر زيارات خاطفة". وهم أفردوا حيزاً من وقتهم الضيق له ولأغانيه سواء خلال زياراته القصيرة، أو في مناسبات أخرى. حتى أن الرئيس عبدالناصر كان يتكبد أحياناً مشقة السفر الطويل ليحضر واحدة من حفلات مطربه المفضل، اذ "كان يحب أغنية "طل الصباح وزقزق العصفور" لأنه فلاح في الأساس. وكثيراً ما أتى ليلاً من مصر الى سورية في أيام الوحدة على متن طائرة عسكرية فقط كي يحضر حفلتي ثم يعود الى القاهرة". لعبد الوهاب فضل علي لكن تبدو أحياناً أغانيه المصرية أقل قدرة على اجتذاب الجمهور من مواويله وأغانيه اللبنانية القديمة. يرد وديع على هذه الملاحظة بتعليق تستشف منه أن صدق الأغنية اللبنانية هو تفوقها، اذ يؤكد ان "العتابا والميجانا والأغاني اللبنانية تعبر عن بيئتي. ويفترض في أن أغني بلهجات العرب المختلفة كي أقربهم من بعضهم البعض". هكذا تصبح الأغنية وسيلة لتوثيق الصلات بين هذا العربي وذاك وتعريف كل منهم بهموم الآخر. وفي هذا السياق، يسجل لوديع أنه كان سباقاً الى الغناء بلهجات بدوية خليجية قبل عقود من رواجها الواسع في سوق الأغنية العربية المعاصرة وتهافت المطربين الشباب عليها، فهو يقول: "غنيت باللهجة الخليجية والسعودية المليئة بالأصالة والحيوية، والسورية والمصرية، لكني أجدت الغناء باللبنانية أكثر من غيرها لأنها لهجتي الأصلية". وهل كانت اغنيته المصرية ستلقى قسطاً أوفر من النجاح لو قدر له أن يتعاون في شكل أوسع مع عبدالوهاب؟ "لم نلتقِ كثيراً كفنانين، بل اجتمعنا كأصدقاء. كنت احتفي به عندما يأتي الى لبنان الذي أحبه كثيراً، وهو يكرمني حين أحل في القاهرة. وكما تعرف، قال عني عبدالوهاب ما لا يقال، وما لم يقله عن أحد. لا شك أنه عاملني بسخاء. تأثرت به، وبأناقته الفنية، في العزف والتلحين والأداء أيضاً. كان رحمه الله على درجة كبيرة من الموهبة والاجتهاد والمعرفة". وفي جعبة وديع مشروع جديد سيستمد نفسه من عطاء صديقه الكبير، فالمطرب الذي أدى "مقاطع من أغان لعبدالوهاب وأم كلثوم، بسبب محبتي لهما، وتلبية لرغبات أصدقاء طلبوا سماعها". يدرس حالياً عرضاً جديداً لتسجيل "المجموعة التي انتقيتها من أغاني عبدالوهاب". وعندما سألناه عن أقرب أغاني الراحل الكبير الى قلبه، تلك التي يدندن بها حين يكون مع نفسه، بدت عليه الحيرة قبل أن يقول: "الجندول والكرنك، اضافة الى الأغاني الخفيفة التي قدمها في الأفلام، مثل "يا وابور قلي رايح على فين". الله ما هذه اللطافة والرقة، لا أحد يغني للقطار بهذه العذوبة. لعبدالوهاب فضل كبير علينا. كلنا تربينا على أناقته في اللفظ والتلحين". البداية في المهد إلا أن التأثير الذي أحدثه عبدالوهاب فيه كان أشبه برافد نهل منه وديع في مرحلة متأخرة نسبياً، فالمطرب الذي رُزق موهبة وامكانات صوتية نادرة، من حيث القوة والليونة وسعة المساحة، التي تبلغ ديوانين ونصف ديوان على حد تعبير المؤرخ الموسيقي الدكتور فيكتور سحاب، رضع الفن مع حليب أمه، في كنف عائلة من المطربين والشعراء. وقبل أن يصقل التماس مع مصر موهبته، كانت بداياته في المهد، اذ "ولدت في بيت كان سيده، جدي، من أعظم شعراء لبنان آنئذٍ. وكان جداي ووالدتي ووالدي وأخوالي وأعمامي من أصحاب الأصوات الجميلة. إلا أنهم ظلوا أوفياء لتقاليد العائلة وواصلوا العمل في الزراعة، وكنت الوحيد الذي تفرغ للفن والغناء ... تشبعت في ما بعد بالشيخ سيد درويش وعبده الحامولي والمقرئين الأفذاذ الذين تتلمذت على أصواتهم. كنا في جلساتنا العائلية نعزف العود ونغني، ولجدي صوت جميل للغاية ... تربيت في حضنه، وكثيراً ما قال لي: تعال - تقبرني - لتغني الميجانا والعتابا". واضح أن تلك الأيام لا تزال تعطر بذكراها الندية حياة وديع الصافي، فهو يتشبث بالطفل الذي كان يجلس على ركبة جده، وعندما يعن على بال الطفل الكبير الغناء يترنم بمقاطع قديمة "كان يغنيها لي جدي بشرواله التقليدي منذ ما يزيد على 65 عاماً، ومنها مثلاً أبيات شروقي غنيتها سابقاً يبدأ التصفيق في إيقاع منتظم قبل أن يصدح: لما تركتوا الدار عزتني الدني هجر الحبايب يوم أصعب من سني". يمثل وديع الصافي الحرف الأول في كتاب الأغنية الريفية الشامية اجمالاً، فهو الرائد والسبّاق الى وضع غناء الضيعة على شفاه كثيرة قبل تأسيس مهرجانات بعلبك العام 1957 بخمسة عشر عاماً على الأقل. ومنذ بدأ في الأربعينات وحتى أواسط الخمسينات، كان وديع المطرب الفولكلوري الأول في بلاد الشام "مثلت لبنان وسورية في تلك الفترة، وكان لي جمهوري في البلدين لأن اللهجات والعادات تتشابه، لكن ربما كان الشعب السوري أكثر عاطفية". طبيعي اذن أن يشعر المؤسس بشيء من الضيق عندما يأتي ذكر الأغنية العربية الراهنة، وأن يقلب شفتيه لدى سؤاله عما إذا كانت اغنيتنا في خطر. ومن دون الخوض في التفاصيل والأسماء، قال باختصار: "لا يبقى سوى الأصيل الذي يقوم على أرض صلبة، وكل ما عداه تقليد سرعان ما تتهاوى ركائزه الهشة ويسقط. نحن تعبنا كثيراً. كانوا يصفوننا أول الأمر بالجنون، ويتساءلون: لماذا يغني عن العنزة وأبو طنوس... هل فقد عقله؟ ليس غريباً أن يواجه المبدع معارضة قوية في لبنان، ألم يتهموا جبران بالجنون؟ وربما تكون النكتة التي أطلقها الشاعر جورج جرادق معبرة تماماً عن الواقع الذي تعيشه الأغنية، إذ سأل أحد أصدقائه: ماذا أنجبت زوجتك، فقال: ولداً. فرد الشاعر: "تهانيّ الحارة بالمطرب الجديد"، أي أن الجميع صاروا مطربين. وكثير من هؤلاء "الأطفال" صاروا أثرياء يتسابق الجمهور لحضور حفلاتهم! وهم "يقدمون أعمالاً هابطة، لحنها رديء وكلماتها أردأ ... من أبسط شروط نجاح الأغنية، حسن اختيار الكلمات ... لذا فاستعمال كلمات رخيصة أخلاقياً جريمة في حق البلد وثقافته، والشعب بريء يستمع الى الجيد والهابط ... خلال شهر رمضان الماضي قدم بعضهم أغاني مبتذلة تدل على استهتارهم الأخلاقي فنشرت مقالة في "الأهرام" نددت فيها بهذا السلوك الذي لا يتفق مع أخلاقنا، فبلادنا مهبط الأنبياء والرسل، وكانت النتيجة صدور أوامر للسلطات المختصة بحظر هذه الأغاني وحفلات مطربيها". وجديد وديع الصافي طالع من رحم هذه التقاليد، إذ يستعد لتسجيل "ألحان وأناشيد دينية في الغرب - المانيا وبريطانيا وأميركا - أتوجه بها للمسلمين والمسيحيين وتنهل من عقائدهما على حد سواء، منها "ارحمني يا الله". وكنت أهديت هذه الأناشيد الى شيخ الازهر الطنطاوي والبابا شنوده، لأن الغاية منها الرد على التطرف وحث المسلمين والمسيحيين على الوقوف بعضهم مع بعض، ونشر السلام والمحبة بين الناس".