كانت المعركة على مستويات عدة معركة عمالقة، وإن كان واضحاً منذ البداية ان المفاجآت الكبيرة لن يكون لها مكان. وكأن الجوائز التي تسبق الاوسكار، وتعطى باسم "الكرة الذهبية" تشكل، في هذا المجال، صمام امان، حيث غالباً ما تكون نتائج هذه "الكرة الذهبية" هي النتائج التي تسفر عنها الاوسكارات. ومع هذا كان ثمة من يأمل في ان تأتي هذه الدورة السبعون ل"الاوسكار" ببعض التغيير، ولكن عبثاً! ربما كان التغيير الحقيقي يكمن في العدد المرتفع ل"التسميات" التي رشحت فيلم "تيتانيك" اذ رشح اربعة عشر مرة، كان من حظه ان فاز منها بإحدى عشرة جائزة، وهو بدوره رقم قياسي في تاريخ هوليوود. ولكن ليس كل ما يتعلق بهذا الفيلم المدهش، يشكل رقماً قياسياً في تاريخ السينما العالمية؟ مهما يكن، ستظل الحسرة تأكل فؤاد بطلة "تيتانيك" كيت ونسليت، الانكليزية الصغيرة التي كان البعض قد غامر بتوقع فوزها بجائزة افضل ممثلة، ولكن هل كان بإمكانها حقاً ان تفوز في مواجهة الدور الصعب والرائع الذي لعبته هيلين هانت في "أفضل ما يمكن" خاصة وان الاخيرة جابهت في هذا الفيلم نفسه واحداً من آخر عمالقة هوليوود: جاك نيكلسون، شريكها في الفيلم، وفي نيل الاوسكار؟ للمرة الثالثة نال نيكلسون جائزة افضل ممثل، وهو بدوره امر نادر الحدوث في عالم "الاوسكار". لكن فوز الممثل المخضرم لم يشكل مفاجأة لأحد، اولاً لأن دوره كرجل نفور، عنصري، كريه في "أفضل ما يمكن" كان من اروع ادواره، وثانياً، لأن جائزة افضل ممثل ل"الكرة الذهبية" كانت قد "بشّرته" بالاوسكار، حتى وإن كان قد بدا لوهلة انه يخوض معركة عمالقة حقيقية ضد ممثلين لا يقلون عنه رسوخاً وعظمة: بيتر فوندا، داستن هوفمان وروبرت دوفال... هذا لكي لا نتحدث عن مات دامون، صاحب دور الشاب المعقد في "صيد طيب". مهما يكن فإن دامون لم يخرج من المولد بلا حمص، اذ فاز عن نص "صيد طيب" مع بن آفليك بجائزة أفضل سيناريو كُتب خصيصاً، و تمكن روبن ويليامز ان ينتزع للفيلم ذاته جائزة افضل ممثل مساعد، عن دوره كطبيب نفساني عامر بالانسانية وبالتفهم. هنا، في هذا المجال لا شك ان التجديد "الاوسكاري" كان ملحوظاً، اذ تصارع على جائزة "افضل ممثل مساعد" عمالقة صف اول، ابرزهم أنطوني هوبكنز وبيرت رينولدز، وكان شبه طبيعي ان تذهب الجائزة لروبن ويليامز. وما يقال عن هذه الجائزة يمكن ان يقال عن جائزة افضل ممثلة مساعدة التي فازت بها نجمة كبيرة هي كيم باسنجر عن فيلم "سري لوس انجليس"، الذي حاز كاتب السيناريو له جائزة افضل اقتباس سينمائي. الى هذه النتائج، هناك جائزة افضل فيلم اجنبي التي ذهبت للفيلم الهولندي "كاراكتر". وما تبقى ذهب الى "تيتانيك"، اذ خطف الفيلم العملاق كل الجوائز التقنية من جائزة الملابس، الى الموسيقى الدرامية، الى افضل صوت فأفضل مونتاج فأفضل مؤثرات... الخ. كانت المفاجأة الاساسية هي هذا الانزياح الذي يحصل في السينما الاميركية ويجعل الاندماج شبه كلي بين ما ينتمي الى حيز الجودة الفنية وما ينتمي الى السينما التي كانت الى فترة قريبة، تعتبر مجرد سينما شعبية او جماهيرية. لسنوات خلت كانت الجودة في مكان والاقبال الجماهيري على الفيلم في مكان آخر. اليوم مع التقنيات الجديدة، وربما مع الوعي الجديد الذي يكتسبه المتفرج السينمائي العادي في العالم بشكل عام، وفي الولاياتالمتحدة بشكل خاص، بات من الممكن لفيلم واحد ان يكون رومانطيقياً وكوارثياً وجيد الصنعة في الوقت نفسه، وما نموذج فيلم "تيتانيك" مع النجاحات التي حققها حتى الآن، سوى النموذج الافضل والارسخ لسينما يمتزج فيها الاداء الفني للممثلين والاداء الابداعي للمخرج، والاداء التقني لمجموع العاملين الآخرين، ليصب ذلك كله في موضوع كان لسنوات قليلة فقط ينتمي الى سلسلة افلام كوارث اقل ما يقال عنها انها كانت تتسم بسذاجة تجعلها غير مقنعة الا لفئات معينة من المتفرجين. كانت الافلام الخمسة التي رشحت لجائزة افضل فيلم من خيرة ما حققته هوليوود هذا العام واكثر نتاجها نجاحاً في شباك التذاكر عبر العالم، من "صيد طيب" لغاس فان سانت، الى "تيتانيك" لجيمس كاميرون، الى "أفضل مايمكن" لجيمس بروكن، وصولاً الى "سري لوس انجليس" لكيرتس هانسون و"عري كامل" لبيتر كاتانيو. وجاء شريط آتوم ايغوبان متميزاً مما حمل الفنان الارمني الى قائمة مرشحي لجائزة افضل مخرج... وبشكل اجمالي يمكن القول ان معظم الاسماء الواردة في معظم الفئات، كانت لسنوات خلت تعتبر اسماء طليعية اين منها عالم هوليوود المخملي. ولئن كان هذا التطور الكبير قد تحقق في أوسكارات هوليوود، وبالتالي في السينما الاميركية، فما هذا الا بفضل المخرجين الذي ما برحوا يمزجون بين المتطلبات الهوليوودية الضخامة، المواضيع التي تثير الاجماع، النجوم... الخ وبين الرؤى الشخصية. وفي هذا السياق يبدو الفوز الكبير في الاوسكارات وخارجها لفيلم "تيتانيك" فوزاً عادلاً، لأن جيمس كاميرون، تمكن هنا من تحقيق تلك المعادلة التي كان يحلم بها كبار مبدعي السينما طويلاً: المعادلة التي تنتج في نهاية الامر فيلماً عاماً جاداً، وفيلماً خاصاً جاداً. من هنا يفرض نفسه "تيتانيك" كظاهرة اساسية في تاريخ السينما، ويستحق وحده ان يتم التوقف عنده. فالفيلم لئن كان يتتبع حكاية اكبر كارثة اصابت سفينة ركاب، فإنه في الوقت نفسه ركز على الطابع الشخصي، من خلال قصة حب رائعة شغلت الجزء الاول من الفيلم وأعادت للحب اعتباره، كما اعادت للرومانطيقية اعتبارها. وهذا ما اضفى ذلك الطابع الانساني على فيلم كان من المفروض ان يخلو من ذلك الطابع. ومن هنا - في اعتقادنا - تدفق الاموال والجوائز على الفيلم، اذ نادراً ما تمكن فيلم كارثي ضخم من ان يتسم ببساطة وعفوية رومانطيقية مثل تلك التي اتسم بها "تيتانيك". ولعله يجدر بنا هنا ان نفتح هلالين لنشير الى ان "تيتانيك" ينضوي ها هنا ضمن تيار اعطى هذا العام فيلمين آخرين هما "آلين 4" للفرنسي جان بيار جونو، و"كونتاكت" الذي قامت فيه جودي فوستر بواحد من أبدع ادوارها. وما يجمع هذه الافلام الثلاثة هو ان الضخامة الشكلية والانتماء الى سينما "النوع" الفضاء والكوارث والخرافة العلمية لم يمنعا هذه الافلام من ان تتسم بنزعة انسانية واضحة. ففيلم "آلين" هو عن الامومة اولاً وأخيراً، مليء بالحنان الشاعري رغم مشاهده المرعبة، وهو حنان تمكنت سيغورني ويفر من التعبير عنه بقوة في واحد من اعمق وأقوى مشاهد الفيلم. اما "كونتاكت" فإنه في خلفية خياله العلمي فيلم عن الانسان والموت والدين والعلم. مثل هذا الكلام ينطبق ايضاً على فيلم مثل "صيد طيب" عن الامل الباقي امام الانسان لكي يعيش انسانيته رغم جراحه. صحيح اننا هنا لسنا امام فيلم خرافة علمية، فالمخرج غاس فان سانت ليس من صانعي هذا النوع، لكننا امام فيلم عن الانسان، عن عبقري الرياضيات الذي تجرحه طفولته الكئيبة ما يمنعه من السعي لممارسة مواهبه، لكن لقاءاته ببشر آخرين تفتح له آفاق الحياة والامل على مصاريعها. هنا مرة اخرى نجد امامنا الامل والانسان في اكثر معانيهما تجلياً. "امستاد" سبيلبرغ شاء لنفسه ايضاً ان يكون فيلماً عن الانسان، لكنه فشل في ذلك، لأنه سلك درب التبسيط، وبدا بعيداً جداً عن افلام كان قد سبق لها ان حققت له نجاحاً ومكانة. مهما يكن من امر فإن "امستاد" الذي نال من تجاهل الاوسكاريين ما يستحق يدفعنا الى التساؤل: ماذا بقي من ستيفن سبيلبرغ؟ والى اين اودت به ضخامة "جوراسيك بارك" وقوة "لائحة شندلر" الموضوعية التي لم تتواكب مع قوة سينمائية تذكر؟ ألا يزال في امكاننا ان نعتبر ستيفن سبيلبرغ مخرجاً حقيقياً، ام انه في حقيقة امره منتج يعرف كيف "يصنع افلامه"؟ لئن كان فأل سبيلبرغ مع الاوسكارات، تسمية وفوزاً، قد خاب، فإن هناك اسماء كرمتها الجائزة هذا العام، تعيدنا الى واقع ان السينما التي تتقدم لا تبدو جاحدة بالنسبة الى الذين يحبونها بشكل جيد، وحسبنا هنا ان ننظر الى حالة جولي كريستي وروبرت دوفال وبيتر فوندا وداستن هوفمان وجاك نيكلسون وانطوني هوبكنز، فهؤلاء ينتمون معاً الى الرعيل الذي كان من اقطاب السينما الطليعية في السبعينات، وها هم اليوم في قلب المعمعة، في قلب الهوليوودية الضخمة، بشروطهم وليس بالشروط الهوليوودية. صحيح انه كان في الامكان التحسر على ممثل مثل ليوناردو دي كابريو، ادى في "تيتانيك" دوراً كان من شأنه ان يعطيه الاوسكار، الى جانب زميلته الرائعة كيت وينسليت ، لكن دي كابريو بإمكانه ان ينتظر فهو لا يزال في مقتبل العمر. ان النجاحات التجارية، والجوائز فضلاً عن اختيارات مانحي الاوسكار تؤكد لنا ان ثمة مسحة من الانسانية تهيمن على فن السينما الاميركية. ولئن كنا هنا نخلط بين النجاح الجماهيري والنجاح الجوائزي، فما هذا الا لأن السينما الاميركية بميزانياتها الضخمة، واختياراتها الانتاجية القائمة، ربما، على منطلقات علم الاجتماع وعلم النفس الجماهيري، باتت المرأة الاكثر صدقاً للتوجه العام للانسان. من هنا نرى في اختيارات الاوسكار لهذا العام، نوعاً من "الردة" الجماهيرية الى الانسان .