للمرة السادسة والستين منذ العام 1929، عاد التمثال الذهبي الصغير يشغل الناس ويملأ الدنيا، صحافة واعلاماً وقلوباً واجفة راجفة في عاصمة السينما. على ايقاعات الترجيحات والترجيحات المضادة، لا على ايقاعات الهزات الأرضية التي تضرب ولاية كاليفورنيا بوفرة هذه الأيام، وكانت آخرها عشية توزيع الاوسكار، على ايقاعات مثل هذه سارت الحياة الفنية في هوليوود خلال الأسابيع الأخيرة. وكانت مفاجأة ليلة الثلثاء الماضي عدم وجود أية مفاجأة على الاطلاق: كل ما في الأمر أن ستيفن سبيلبرغ، صاحب الارقام القياسية الشهير، تمكن من ان يحقق الفوز الأكبر بضربة معلم اسمها "قائمة شندلر" حصدت له سبع اوسكارات التهمها وعيناه تطلبان المزيد. قبل أسبوع من موعد الاعلان عن جوائز الاوسكار في هوليوود، خرجت مجلة "تايم" الأميركية عن تحفظاتها المعهودة في مثل هذه الأمور، لتحدد أسماء بعض الفائزين بشكل قاطع، ولتقول - بعد ان عينت ستيفن سبيلبرغ فائزاً بحصة الأسد من الجوائز - ان "الأكاديمية" لن يمكنها بأي حال من الأحوال عن ان تغض الطرف، هذه المرة، عن منح جوائزها الكبرى لصاحب فيلم "قائمة شندلر". والحال أن الاعلان عن الجوائز اواسط الأسبوع المنصرم، أتى ليقول ان ما جاءت به "تايم" لم يكن من قبيل التخمين، وان الذين راحوا يؤكدون منذ اسابيع طويلة ان اوسكارات هذا العام سوف تكون اوسكارات سبيلبرغية، لم يكونوا مغالين. ومع هذا، بدا واضحاً خلال الحفلة ان ستيفن سبيلبرغ شعر بغصة وبنوع من خيبة الأمل، فهو الذي اعتاد على الأرقام القياسية، كان يريد ان يحطم رقماً قياسياً جديداً، بأن يفوز بأكبر عدد ممكن من الاوسكارات عن "قائمة شندلر"، وهو ما كانت الصحافة ترجحه على أي حال، اذ لم يفتها ان تشير الى ان فيلم "سبيلبرغ قد سمي ل 12 جائزة "مضمونة" مما سيجعله "بالتأكيد" يحطم الرقم القياسي الذي كان سبق لفيلم "بن حور" ان ضربه حين فاز ب 11 جائزة، وهو أكبر عدد من الجوائز فاز به فيلم واحد على مدى تاريخ هوليوود. بيد أن "قائمة شندلر" لم يفز الا بسبع اوسكارات، منها اوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج، الى جانب اوسكارات أخرى عدة تقنية وفنية، اذا اضفنا اليها الاوسكارات التقنية الثلاث الأخرى التي فاز بها فيلم آخر لسبيلبرغ هو "الحديقة الجوراسية"، سنجدنا أمام ظاهرة ندر ان عرفت هوليوود مثيلاً لها: "ظاهرة مخرج واحد له في سباق الاوسكار فيلمان، يحصدان معاً عشر اوسكارات، أي نصف العدد الاجمالي للجوائز الممنوحة. وهو أمر يجعل من ستيفن سبيلبرغ، لهذا العام على الأقل، امبراطوراً لهوليوود غير متوج، ويعطيه - رغم غصة الفشل في ضرب الرقم القياسي بفيلم واحد - شعوراً بأنه ثأر اخيراً من هوليوود النخبة التي طالما ناصبته العداء وتجاهلته اوسكاراتها، هو الذي حقق حتى اليوم ثلاثة عشر فيلماً، منها ثلاثة افلام تعتبر في قائمة اكثر الافلام مردوداً في تاريخ السينما. لكي لا يتهموا باللاسامية اذن، مثلما كان حال كلينت ايستوود في العام الفائت، حين ثأر بدوره من تجاهل هوليوود الطويل له، بانت هذا العام على ملامح ستيفن سبيلبرغ مشاعر المنتقم، ولا شك ان مثل هذه الخواطر كانت تدور في رأسه وتطن فيما كان يعانق كلينت ايستوود الذي كان هو من أعلن عن فوزه بجائزة أفضل مخرج. والحقيقة انه كان من الواضح منذ شهور ان سبيلبرغ عرف كيف يحشد في فيلمه الأخير كل العناصر التي ستؤهله لكي يكون فيلم الموسم، وليس على الصعيد التجاري وحسب كما اعتادت أفلام سبيلبرغ الأخرى ان تكون، فمن اختيار الموضوع اضطهاد النازيين لليهود الى التركيز على بعد جديد من التعامل مع هذا الموضوع الشائك بعد يتمثل في تقديم صورة ايجابية لبطل نازي يكون خلاص مئات اليهود على يديه الى اختيار التصوير بالأسود والابيض لاضفاء مسحة فنية نخبوية على العمل الى الحملة الصحافية الهائلة والمكلفة 20 مليون دولار، كما يقال التي احاطت عرض الفيلم، اضافة الى تصويره في بولونيا ومن دون ممثلين كبار. هذا كله جعل من هذا الفيلم المرشح المؤكد للفوز برضى المقترعين من رجالات هوليوود الذين ما كانوا يريدون - على أي حال ان يتهموا باللاسامية ان هم لم يعطوا الفيلم اصواتهم. هل يمكن الحديث هنا عن ابتزاز معنوي؟ ليس بالتأكيد، ولكن من الواضح ان "المقاومة تجلت في الحدّ من حجم انتصار سبيلبرغ العائد وسط طنة ورنة الى يهوديته، عن طريق منعه من ضرب الأرقام القياسية هو الذي يكاد ضرب مثل هذه الارقام يكون واحداً من هواياته الرئيسية في الحياة. "قائمة شندلر" اذن فاز بأوسكار أحسن فيلم، واحسن مخرج، واحسن اقتباس سينمائي لنص مكتوب، واحسن تصوير، واحسن توليف واحسن ديكور، واحسن موسيقى. ومن ناحية ثانية فاز "الحديقة الجوراسية" لستيفن سبيلبرغ نفسه بثلاث اوسكارات هي: أفضل تسجيل صوت، وافضل مؤثرات صوتية وأفضل مؤثرات خاصة. الاوسكارات الباقية توزعت على عدد من الأفلام الأخرى، وان كان من المدهش ان هوليوود التي ارخت العنان لابنها - "الامبراطور" صاحب اكبر النجاحات الجماهيرية في تاريخ السينما والذي بالكاد يعترف به النقد كمخرج جاد، ظلت هذا العام عصية على سيدين كبيرين آخرين من سادة الفن السينمائي، هما الأكثر اوروبية بين كافة المخرجين الأميركيين: روبرت ألتمان، الذي لم يحصد الجائزة الوحيدة التي كان فيلمه "مقطوعات قصيرة" سمي لها جائزة أحسن مخرج، وفي هذا، بالطبع ظلم كبير يستشعره أي شخص يتعاون بين عمل آلتمان المبدع في هذا الفيلم، ويحمل شبيلرغ الكلاسيكي والعادي رغم صخبه في "قائمة شندلر"، وجيمس إيغوري، الذي لم يفز بأي من الاوسكارات الثماني التي سمي لها فيلمه الرائع "ما تبقى من النهار"، هذا الفيلم الذي ينتمي الى تلك السينما الكبيرة التي كان كثيرون يعتقدون انها ماتت بموت فيسكونتي حتى بعثها هذا الاميركي المتمرد على هوليوود والذي اكتشفتهه اوروبا وعشقت سينما المنطلقة من نصوص كلاسيكية انكليزية. لم يكن من المنطقي بالطبع ألا يفوز "ما تبقى من النهار" بأي جائزة، وهو أمر ألقى ظلالاً كبيرة على رغبة هوليوود المعلنة في استعادة ابنائها الضالين. مهما يكن، لا بد من الاشارة هنا الى ان "ما تبقى من النهار" كان الثاني في قائمة الأفلام الأكثر ترشيحاً والتي ضمت ثلاثة هي "قائمة شندلر" 12 ترشيحا و"ما تبقى من النهار" و"البيانو" ثمانية ترشيحات لكل منهما، ومن اللافت ان هذه الأفلام الثلاثة بالكاد تمت بصلة الى العالم الهوليودي فسبيلبرغ حقق فيلمه في بولونيا عن موضوع اوروبي، وجيمس الغوري حقق فيلمه في بريطانيا مع ممثلين انكليز كبار على رأسهم سير انطوني بركنز وايما طومبسون عن نص كتبه الياباني الراصد للحياة البريطانية ايشيغيرو، اما "البيانو" فيلم اوسترالي/ نيوزيلندي استخدم ممثلين اميركيين ولكن بشكل يخرج كليا عن النمط الهوليوودي. "البيانو" الذي حققته جين كامبيون، والذي سبق له ان فاز بنصف السعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، كان، على أي حال، التالي من حيث عدد الجوائز: ثلاث اوسكارات هي على التوالي: اوسكار افضل ممثلة لهولي هانتر سبق ان نالت الجائزة نفسها في "كان" وفي مسابقة الصحافة الاجنبية في هوليوود قبل اسابيع، واوسكار أفضل ممثلة تلعب دوراً ثانياً، فازت به الصغيرة آنا باكين، التي كان حضورها في حفلة الاوسكار بقبعتها الطريفة وعباراتها المبتسرة وابتساماتها الساحرة، حبة السكر الوحيدة في حفلة لم تتميز بأي ظرف هذا العام، رغم كل المحاولات التي بذلتها مقدمة الحفلة ووبي غولدبرغ لاضفاء طابع مسرح على السهرة، وفاز "البيانو" ايضاً بجائزة أفضل سيناريو موضوع أصلا للسينما، نالتها جين كامبيون نفسها التي بدت خلال السهرة سعيدة رغم اعيائها. "القضايا" على الطريقة الهوليوودية لافت، بالطبع، ان تنال شخصياً "البيانو" النسائيتان اوسكارين كبيرين. فالحال ان جين كامبيون اشتغلت على هاتين الشخصيتين انطلاقاً من واقع انها انما ارادت لفيلمها في الأصل ان يكون فيلم "نساء"، وأشبه بصرخة من أجل المرأة، وهو أمر قدرته هوليوود وفهمته، هي التي حرصت في هذا العام ان ترشح لجوائزها الكبرى أفلام قضايا: من قضية اضطهاد اليهود في فيلم سبيلبرغ، الى قضية السيدا في فيلم "فيلادلفيا" فاز بأوسكار أفضل ممثل لتوم هانك وبأفضل اغنية لبروس سبر نغسترين عن اغنيته في الفيلم "شوارع فيلادلفيا" وقضية المرأة والى جانبها قضية العنصرية في "البيانو" وقضية التفاوت الطبقي في "ما تبقى من النهار" والقضية الايرلندية في "باسم الآب"، وقضية خطأ العدالة الممكن من "الهارب"…الخ. بهذا المعنى يمكن القول بأن هوليوود التي اطلقت من خلال اوسكارات هذا العام كانت هوليوود الجديدة، أو هوليوود بوجه متجدد: فإن تعطى جائزة افضل ممثلة لهولي هانتر، التي كانت تتنافس على الجائزة مع اثنتين من اكثر النجوم شعبية في أيامنا هذه: ايما طمبسون وديبرا وينغر، وهي التي يمكن اعتبارها نجمة - مضادة، او يسجل لصالح هوليوود، حتى وان كان استبعاد ايما طومبسون انما كان لسبب واضح: فالسيدة فازت بالجائزة نفسها في العام السابق ولم يكن من المنطقي ان تفوز بها في عامين متتاليين. وفي هذا السياق نفسه لا بد من لفت النظر الى سابقة مدهشة، حيث ان هولي هانتر وايما طوبسون اللتين تنافستا على جائزة أفضل ممثلة، كانتا تتجابهان كذلك على جائزة "أفضل ممثلة في دور ثانوي" التي انتزعتها منهما الصغيرة آنا باكين. المدهش في هذا الأمر هو ان ممثلتين كبيرتين تتأبط كل واحدة منهما اليوم اوسكارا تحلم به كل نجمات هوليوود منذ أمد بعيد، لم تترددا دون خوض تجربة القيام بدور ثانوي ايما طومبسون في "باسم الاب" وهولي هانتر في "المؤسسة" بل والمطالبة بجائزة لقاء ذلك! تذكار لتاريخ عابق بالأحلام ما الذي يتبقى من جوائز بعد ذلك؟ لا شيء يذكر: جائزة أفضل ممثل في دور ثانوي لتومي لي جونز عن دوره في فيلم "الهارب" ماكينة هوليوودية ضخمة كانت سيئة الحظ في الجوائز حسنته في اقبال المتفرجين على فيلم لمع فيه هاريسون فورد، جائزة أفضل تصميم ملابس ل "زمن البراءة" لمارتن سكورسيزي الذي بدا هنا وكأنه الخاسر الأكبر، هو الذي كان فيلمه الأخير هذا مرشح لخمس جوائز، ولكن يبدو أن المقترعين لم يحبوا كثيراً هذا الفيلم الذي يستعيد الحياة المخملية في نيويورك بدايات هذا القرن، ويبدو كثير الشبه بسينما فيسكونتي كما هو حال "ما تبقى من النهار" الأوروبية. أما فيلم "السيدة داوتفاير" فلم يعط أكثر من جائزة الماكياج التي استحقها مزينوه بسبب أو بفضل السحنة التي أعطوها لروبن ويليامز فحولته من رجل طريف، الى سيدة أشد طرافة. في حفلة أوسكارها السادسة والستين، تمكنت هوليوود من أن تجمع مرة أخرى كل كبارها، في الصالة بين الحضور، على المسرح بين مانحي الجوائز، أو على المسرح أيضاً بين متلقيها، فكان كيرك دوغلاس الى جانب غولدي هاون، وروبرت آلتمان الى جانب ريتشارد جيري وكيانو ريغز الى جانب ديبورا كير التي كرمت تكريماً خاصاً عن مجمل أعمالها، وهو التكريم نفسه الذي أتى ايضاً من نصيب بول نيومان الذي نال بدوره أوسكاراً خاصاً وصفق له الحضور طويلاً ووقوفاً. التكريم أيضاً كان من نصيب الراحلين لهذا العام، من ميلينا دكوري الى فنسانت برايس، ومن دون آيشي الى جوزف ماتكفيتش. كانوا جميعاً هناك على الشاشة كأنهم هنا ليذكروا بتاريخ هوليوود الطويل العابق بالأحلام، تماماً كما كانت هولي هانتر وآنا باكين هنا لتذكرا بعالم جديد يهب على السينما، عالم لم يعد من الضروري أن تكون هوليوود مركزه ومرساته. كما هو عالم لم يعد من الضروري أن يكون كما عهد هوليوود غائباً عن مشاكل العالم وقضاياه. وهو الأمر الذي ذكر به توم هانك والعيون ملأى بالدموع، حين ألقى خطبة حادة عن "السيدا" التي تشكل موضوع الفيلم الذي نال عليه جائزة أفضل ممثل: "فيلادلفيا". كانت ثلاث ساعات ونصف الساعة، مرحة على الطريقة الهوليوودية، صاخبة على الطريقة الهوليوودية، أبوية على الطريقة الهوليوودية، بليدة على الطريقة الهوليوودية، وعابقة أيضاً برائحة ترتيبات الكواليس على الطريقة الهوليوودية. وهي كلها أمور بدت متعلقة على المخرج الصيني شين كيغي الذي لم يفز فيلمه الكبير "وداعاً يا خليلتي" لا بجائزة أفضل تصوير التي كان مرشحاً لها ولا بجائزة أفضل فيلم أجنبي التي كانت تبدو مضمونة له، فاذا بالهوليووديين يفضلون عليه في اللحظات الأخيرة فيلماً اسبانياً عنوانه "حقبة جميلة" من اخراج فرناندو تروبا، تدور أحداثه في اسبانيا بداية سنوات الثلاثين، حيث يطالعنا شاب فار من الجندية يجد خلاصه في الريف لدى أسرة من أربع فتيات يحتضنه. فيلم ضد الحرب بالتأكيد مما يجعله يدخل في حلقة أفلام القضايا التي تتميز بها هوليوود هذه الأيام ولكن هل تراه حقاً اثار اعجاب المقترعين أكثر من فيلم "وداعاً يا خليلتي"؟ سؤال كان يبدو حائراً على وجه شين كيغي، وسيظل حائراً لفترة طويلة. تماماً مثلما هو حال السؤال الآخر الذي طرحه الكثيرون حول هذه الفرصة التي اضاعتها هوليوود للتصالح مع العملاقين جيمس آيغوري وروبرت التمان، اضاعتها لصالح مصالحة أخرى: مع ستيفن سبيلبرغ الذي عرف كيف يخطف الأضواء وكيف يحلق في ليلة لا مفاجآت فيها، ولا لحظات حماس كبرى. فيلم قائمة شندلر لسبيلبرغ حقق 7 جوائز أفضل فيلم: قائمة شندلر، ستيفن سبيلبرغ. أفضل ممثل: توم هانكس، فيلم فيلادلفيا. أفضل ممثلة: هولي هانتر، فيلم البيانو. أفضل ممثل مساعد: تومي لي جونز، فيلم الهارب. أفضل ممثلة مساعدة: آنا باكين، فيلم البيانو. أفضل مخرج: ستيفن سبيلبرغ، فيلم قائمة شندلر. أفضل فيلم أجنبي: الحقبة الجميلة، اسبانيا. أفضل سيناريو غير مقتبس: جين كامبيون، فيلم البيانو. أفضل سيناريو مقتبس: ستيفن زيليان، فيلم قائمة شندلر. أفضل تحرير سينمائي: مايكل كاهن، فيلم قائمة شندلر. أفضل تأثيرات تصويرية: دنيس مورن، ستان ونستون، فيل تيبت ومايكل لانتياري، فيلم "جوراسيك بارك". أفضل ماكياج: غريغ كانوم، في نيل ويولاندا توسيانغ، فيلم داوتفاير. أفضل أغنية: شوارع فيلادلفيا، لبروس سبرنغستين.