بين النساء العربيات اللواتي اخترن الاخراج السينمائي مهنة لهن، تعتبر إيناس الدغيدي الابرز، والاكثر استمرارية ونجاحاً، في مصر وخارجها، فهي على مدى عشرة افلام حققتها في عقد من الزمان، تمكنت من ان تحتل مكانة بارزة في الحياة السينمائية. صحيح ان اياً من افلامها لم يتمكن من فرض نفسه ك"تحفة سينمائية" تضعها في مكانة متقدمة بين السينمائيين العرب، ولكن ما يعطي لإيناس الدغيدي مكانتها، هو ذلك الاستمرار عند مستوى معين من الجودة نادراً ما هبطت عنه، حتى في افلامها الاكثر شعبية والاكثر اثارة للجدال بين النقاد مثل "ديسكو ديسكو" و"استاكوزا". مهما يكن لا يكف النقاد عن طرح تساؤلاتهم عما اذا كانت إيناس الدغيدي مخرجة جماهيرية وانها اكثر من هذا قليلاً. وسط تلك التساؤلات تواصل إيناس مسيرتها وتقدم فيلماً في العام. اما فيلمها الاخير "دانتيلا" الذي كتبت قصته هالة سرحان، وتقاسم بطولته يسرا وإلهام شاهين ومحمود حميدة فإنه جاء متميزاً بين افلام إيناس الدغيدي، في موضوعه اولاً، اذ يقدم قصة حب مزدوجة تعيشها كل من صديقتين مع رجل واحد. "دانتيلا" فيلم حقيقي ومتميز عن الحب وعن الاحاسيس، نقل إيناس الدغيدي من مستوى ادائها الى مستوى آخر اكثر تميزاً. ومن هنا حين شاهدنا الفيلم في عرض خاص في القاهرة، وجدنا ان الوقت قد حان لطرح اسئلة على إيناس الدغيدي وفنها السينمائي، في محاولة للكشف عن عمق علاقتها بفيلمها الذي يمكن اعتبارها واحداً من اجمل افلامها وأكثرها ذاتية. هنا اجزاء من هذا الحوار. إيناس، من يراك عن قرب لا يتمالك نفسه عن التساؤل عن السبب الذي دفعك الى الاخراج، لا الى التمثيل، لماذا وراء الكاميرا وليس امامها، وبشكل اخص لماذا السينما؟ - بكل صراحة جاءتني السينما بالصدفة. كنت في السابعة عشرة من عمري حين دخلت "المهنة" للمرة الاولى. قبل ذلك كان من الصعب تحديد هدف للحياة. في البداية دخلت كلية التجارة، ولكن كانت لي صديقة شاءت ان تلتحق بمعهد السينما، فوجدتني اندفع معها ودخلت قسم المونتاج. الاخراج لم يخطر على بالي آنذاك. اما التمثيل فكان اقرب الى المستحيل طالما انني ابنة لعائلة محافظة. في المعهد، رحنا ندرس كافة الفنون السينمائية طوال خمس سنوات، حتى بدأت انتقل من نجاح الى آخر، وفجأة رأيتني اتحول من قسم المونتاج الى قسم الاخراج تحت تأثير اساتذة كبار من امثال صلاح أبو سيف ومحمود مرسي اغراني دائماً التمثيل، ولكنني ترددت كما قلت لك، بسبب عائلتي ولكن ايضاً لأنني فكرت طويلاً: انا لو عملت في التمثيل سيكون شكلي هو الاساس، ولكن الشكل لا يدوم، وانا طول عمري لم احب ان اشتغل انطلاقاً من شكلي. ثم اني احب الاشياء التي تدوم وهكذا بالتدريج، ولأني في شخصيتي احب ان اكون قائدة، وجدتني في قلب لعبة الاخراج. ففي الاخراج سأكون قائدة، لن اكون جزءاً من كل، ثم ان عائلتي لن تجد سبباً للاعتراض... في صباك هل كانت لك هوايات فنية: الرسم مثلاً، التمثيل...؟ - لم يكن هذا ظاهراً. كنت امارس، بالفعل، نشاطات فنية مختلفة ولكن في الاطار المدرسي: تمثيل، فن شعبي، ولكني دائماً كنت انطلق من رغبتي في القيادة. ولهذا كنت افلح في كل شيء ما عدا في الدروس. كنت مع النشاطات وضد المذاكرة. المهم، تخرجت من معهد السينما واشتغلت مساعدة اخراج لمدة عشرة اعوام، ومع كبار المخرجين من صلاح أبو سيف الى بركات الى حسين كمال الى كمال الشيخ، ثم مع الشباب من امثال علي عبدالخالق وأشرف فهمي... وبعد ذلك كان من الطبيعي لي ان اتجه الى الاخراج. فيلم أول ضد القانون هل استفدت من المعهد اكثر، ام من العمل مباشرة مع المخرجين؟ - بكل وضوح، استفدت من العمل كمساعدة، اكثر مائة مرة مما استفدته خلال دراستي في المعهد. على اية حال، لا بد ان اقول لك انني بدأت العمل في السينما، وكنت لا ازال في السنة الثانية من دراستي في المعهد. لذلك اتيحت لي الفرصة لكي ازاوج بين النظرية والتطبيق. بين الدراسة والعمل. اثناء ذلك هل عرض عليك ان تمثلي...؟ - لم تتوقف العروض ابداً. منذ الشهور الاولى لدراستي في المعهد. في البداية كنت اعتذر عن عدم القبول خوفاً من اهلي، وبعد ذلك صرت أرفض عن قناعة. مهما يكن، حاولت ان امثل مرة: كان ذلك في فيلم "أفواه وأرانب" حيث لعبت دوراً صغيراً، احسست بعده انني لا احب شكلي في الفيلم ودوري فيه. كان الدور غليظاً وكان ذلك مطلوباً. الحمد لله "كرهت روحي في الفيلم" وكرهت التمثيل. هل كانت لديك منذ ذلك الحين اهتمامات بقضايا المرأة ووضعيتها في المجتمع؟ - كنت أشعر منذ طفولتي، وضمن اطار علاقاتنا الاسرية، ان في البيت تفرقة مؤلمة بين الذكور والاناث. ومن المؤكد ان هذا الاحساس ظل يؤثر علي دائماً. ورحت احس ان التفرقة ليست في بيتنا فقط، بل في المجتمع المصري وفي كل المجتمع العربي. وهكذا، فيما بعد وجدت كل حواسي تدفعني الى التفكير في الامر وفي العمل عليه. اليوم ارى ان التعامل معنا، نحن البنات، في البيت بتلك الطريقة، ربما لم يكن شراً او محاولة للاساءة الينا، بل ربما كان محاولة لحمايتنا. مهما يكن فإن الشعور بالتفرقة تأصل في داخلي، وظهر في معظم اعمالي اللاحقة... "عفواً أيها القانون" كان اول فيلم من اخراجك. وفيه كشف واضح لظلم القانون للمرأة.. اذن، لم يكن الامر على سبيل الصدفة...؟ - الحقيقة انني عندما قررت ان اتحول الى مخرجة بعد سنوات عديدة من العمل كمساعدة، لم اخطط سلفاً للموضوع الذي اتناوله. كنت اريد ان اخرج وليس ثمة اية امكانية لتناول اي موضوع غير الموضوع الاجتماعي. فالسينما المصرية تقتصر في شكل عام على المواضيع الاجتماعية. وهكذا وجدتني امام سيناريو قرأته فأعجبني لأنه ينطلق من حكاية واقعية. اعجبتني الفكرة، وعرضت الامر على صلاح أبو سيف فشجعني، ورحت اعمل على السيناريو. في مسارك السينمائي هناك افلام جيدة وأفلام اقل جودة. لكني ألاحظ انه كلما كان فيلمك اقل جودة كلما كان انجح تجارياً. وهنا يستوقفني نجاح فيلمك "امرأة واحدة لا تكفي" لأفترض ان نجاحه لا يعود الى موضوعه بقدر ما يعود الى ان بطله هو أحمد زكي... - هذا صحيح. أحمد زكي كان له دور اساسي في نجاح الفيلم.. لكن الفيلم جيد ايضاً... طبعاً هو فيلم جيد، ولكني اعتقد انه لا يدافع عن المرأة الا في شكله الخارجي فقط، اما في جوهره فإنه اقرب لأن يكون دفاعاً عن الرجل... - صحيح. فأنا اردت في هذا الفيلم ان اقول، ان الرجل هو، بدوره، ضحية للمجتمع. اذكرك بأن جمعيات الدفاع عن النساء اتخذن منذ البداية موقفاً واضحاً ضد هذا الفيلم. وأنا رددت يومها بأني لم اشأ في فيلمي ان ادافع عن الرجل الشرقي، بل كان كل همّي ان اقول ان المناخ الذي يعيش فيه الرجل هو الذي يفرض عليه دوره. الى أي حد تتدخلين في السيناريو؟ - الاساس بالنسبة اليّ هو اختيار الموضوع. انا نادراً ما اعمل على فيلم يعرض علي لكي اكون مخرجته لا اكثر. اختيار الفكرة يأتي دائماً مني، بعد ذلك اشارك في كتابة السيناريو ولكني بوصفي مخرجة الفيلم. لو جاءني سيناريو لأقرأه لا احس به ان لم اكن مشاركة في كتابته وفي صياغة رؤيته السينمائية. احس دائماً انني احب ان اضع في السيناريو شيئاً مني. "القاتلة" مثلاً، كان من الافلام التي لم اخترها. كنت قبل ذلك قد اخرجت فيلم "امرأة واحدة لا تكفي" ولاحظت فيه ان فيفي عبده يمكنها ان تكون ممثلة ممتازة، خصوصاً انها تريح المخرج وتتبع توجيهاته بدقة. بالنسبة اليّ كانت فيفي عبده مفاجأة حقيقية. من هنا حين عرض عليّ "القاتلة" قبلته على الفور. لم يفرضه احد عليّ. وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً. انه فيلم لا احبه، ولو عرض عليّ اليوم من جديد لحققته بشكل مختلف تماماً. انا لم اتدخل، جدياً، ولا حتى في السيناريو. على العكس من هذا اتدخل في سيناريو كافة افلامي الاخرى. افلامك قبل "دانتيلا" كانت عبارة عن مواقف وأحداث. "دانتيلا" في المقابل اراه فيلماً عن العواطف. له خصوصية تتعلق بالمشاعر، تطغى على الموضوع وعلى القضية فيه... - يفترض ان تكون قد لاحظت هذا. ان الفيلم يتلاءم مع النضح الذي طاول احاسيسي وجعلني ارى ان علاقات الحب والاحاسيس امر في غاية التأرجح. انت تحب اليوم، ثم تحلم بمن تحب وتشعر انك لن تكون لك حياة من دونه ثم تنساه. اختلفت نظرتي للحب العادي التقليدي. وأعتقد ان هذا واضح في الفيلم. تبدلت عواطفنا، ونعيش اليوم في زمن تغير فيه كل شيء. مشاعرنا وأحاسيسنا اليوم تختلف. في الماضي كان ممكناً للشاب ان يحب فتاة ويغني لها تحت شباك غرفتها أما اليوم فلم يعد هذا ممكناً. في "دانتيلا" حديث عن الحب، لكنه في الحقيقة فيلم عن الصداقة. انا ضد المرأة التي تقول: "مستعدة ان اخسر صديقتي من اجل رجل". الصداقة بالنسبة اليّ قيمة اساسية من قيم الحياة. انها اعمق من الحب. الناس تنظر الى الامور بشكل مختلف اليوم. اما انا فأقول ان الغلط ليس عيباً، شرط ان نعترف به وننقذ صداقتنا ونتصالح. في "دانتيلا" تداخل احبه بين الحب والصداقة... ربما تشعرين بالنسبة الى "دانتيلا" انك خارج الموضوع، لأن نظرتك الى الصداقة محسومة... - طبعاً، فأنا علاقتي بأصدقائي ابدية، او ارجوها كذلك على اي حال... حسناً.. ومع هذا، بعد ان عرفتك، احس انك موجودة في الفيلم. هناك ثلاث شخصيات متحابة، متناصرة، وأرجو ان تقولي لي، انت اقرب لأي من هذه الشخصيات؟ - ربما تجدني في الشخصيات الثلاث معاً. لكني ارى من ناحية ثانية انني لست قريبة من الشخصية التي تلعبها إلهام شاهين، فهي شخصية ساذجة مغرقة في عاطفيتها وأنا لست كذلك. ربما اكون اقرب الى الشخصية التي تلعبها يسرا، ولكن على مستوى ثان: يسرا التي عرفت كيف تصنع نفسها، البنت "الجدعة". انا صنعت نفسي بنفسي، لم اعتمد على احد، ولم يصنعني احد. في "دانتيلا" عندك ثلاثة ممثلين كبار يؤدي كل واحد منهم بشكل متميز، خصوصاً يسرا، التي اخذت هنا، في شخصيتها ابعاداً عدة. كيف تراك عملت مع هؤلاء الممثلين. والى اي حد تدخلت في عملهم؟ - عندما تقرر ان يقوم محمود حميدة ويسرا وإلهام شاهين بالادوار الرئيسية الثلاثة في الفيلم، كنت اعرف سلفاً ان بإمكاني ان اعتمد على قيام تحدٍ كبير بينهم وبين انفسهم. لهذا اقول الآن: ليتنا نصنع افلاماً كثيرة فيها ادوار مركبة لممثلين متعددين وكبار، لأن كل واحد منهم سيبدو مستنفراً في مواجهة الثاني. كانت المنافسة بين الثلاثة قائمة على مستوى الاداء في الفيلم الذي تناول قصة حب. والحقيقة انه كانت هناك قصة حب حقيقية خارج الفيلم. كلهم اشتغلوا عليه بحب. المخرج قد يخسر فيلمه ان اشتغل عليه مع أحد من ممثليه الاساسيين بقلق. "دانتيلا" تحقق وسط قدر كبير من الحب بين الذين اشتغلوا عليه. وهذا الحب ظهر على الشاشة. وجدتني مندفعة في الفيلم بحيث انني كتبت ثلاثة ارباع الحوار بنفسي، وهو شيء افعله للمرة الاولى. من هنا الاحساس بأنه فيلم عن العواطف والاحاسيس... - كاتبا السيناريو، رفيق الصبان ومصطفى محرم، شعرا بهذا منذ البداية، وهذا ما جعلهما يقولان ان الفيلم ينطلق من احاسيس انثوية واضحة. مهما يكن هناك مسألة تتعلق بنهاية الفيلم. ان الامرأتين بعد ان يتركا الرجل محمود حميدة تنطلقان في حرية مطلقة لتعيشا معاً. اي حل هو الذي تفترضيه هنا؟ هل ستقضيان بقية حياتهما مع بعض حفظاً لصداقتهما..؟ - ابداً.. انهما امرأتان عاديتان احبتا رجلاً واحداً وكاد ذلك الحب ان يدمر صداقتهما. وعندما قررتا ان تتركاه، ذهبتا معاً الى حياة جديدة، ربما ستحب فيها كل واحدة منهما رجلاً جديداً، من دون ان يؤثر ذلك على صداقتهما... لكن هذه النهاية المفتوحة ستجعل الفيلم متهماً بأنه يدعو الى حياة بين نساء لا مكان للرجل فيها... - لقد وجهت له هذه التهمة بالفعل، خلال مهرجان الاسكندرية، لكنه فهم قاصر وساذج للفيلم. اتهمت بأنني ادعو الى علاقة شاذة بين المرأتين كحل مقترح! ولكن من اين اتت هذه الفكرة؟ ان المرأتين عاديتان، وتحبان الرجل. صادف انهما احبتا الرجل نفسه. ولكن هل هو آخر رجل في العالم؟ واضح انهما انقذتا الصداقة، وستستعد كل واحدة منهما لتعيش حياتها مع رجل آخر بعد ذلك. اما بينهما فليس ثمة اية علاقة شاذة بالطبع، وليس ثمة ولو تلميحاً الى ذلك في اي مشهد من مشاهد الفيلم. انه فيلم عن الحب بين الرجل والمرأة. الرجل هو محور الحب، وغايته بالنسبة الى يسرا والهام شاهين في الفيلم. إيناس، انك وبشكل شبه منتظم تحققين فيلماً كل عام، فما هو مشروعك المقبل للعام الجديد؟ - عند بداية هذا العام احقق فيلماً جديداً مأخوذاً عن قصة "العري" للاديب جمال الغيطاني وهو من بطولة يسرا ورغدة. لئن كان لدي في "دانتيلا" سيدتان تحبان بعضهما البعض، فإنني في الفيلم الجديد عندي سيدتان تكرهان بعضهما البعض. اما العري الذي يتحدث عنه الفيلم فهو عري المجتمع ككل. لقد احببت موضوعه وآمل له ان ينجح، علماً بأن المخرج الراحل عاطف الطيب كان هو الذي يريد ان يحقق هذا الفيلم.