سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فتح ل"الوسط" دفاتر الثورة الكردية والعراق . جلال طالباني يتذكر الملك حسين تدخل لتحسين علاقتنا مع الشاه وعبدالناصر حذرنا من صفقة ايرانية على حسابنا الحلقة الأخيرة
يتابع جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني في هذه الحلقة سرد قصة اندلاع الصدام بين ملا مصطفى البارزاني وعبدالكريم قاسم، ويتحدث عن العلاقة بين الأكراد وايران ويشير الى يفغيني بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الذي عايش أحداث المنطقة كمراسل صحافي. وهنا نص الحلقة الأخيرة: هل كانت المناشير التي وزعت عقب الانتفاضة صحيحة وهل وافق عليها البارزاني؟ - لا أدري حتى هذه اللحظة، لكنني أعتقد انها صحيحة باقتناعي الشخصي. وأظن ان الشيخ أحمد كان موافقاً عليها. وعادت الأمور الى حالتها الطبيعية وأعلنت العشائر الولاء للحكومة بعد هذه الأحداث، ولم يبق في الساحة الا نحن اعضاء الحزب وكان عددنا في مناطق أربيل والسليمانية وكركوك لا يتجاوز 400 مقاتل، اضافة الى حوالي 300 مقاتل مع الملا في منطقة دهوك. وازاء هذه الحالة اتخذت الحكومة اجراءات بحل الحزب واغلاق صحافته ومصادرة ممتلكاته. والحقيقة لم يكن ملا مصطفى يميل الى القيام بثورة او مواصلة العمل المسلح، لذا حاول الاتصال بالسوريين، وكانت الوحدة مع مصر قد انفرطت، طالباً اللجوء السياسي، الا انهم رفضوا، فتوجه بطلبه الى الأتراك لكنهم رفضوا أيضاً. وحاول المصالحة مع الحكومة العراقية، التي أرسلت بدورها اللواء حسن عبود آمر موقع الموصل للقائه، والغاية جر الملا الى مكان من أجل قصفه بالطائرات. وحدث هذا بالفعل، فأفشل محاولة المصالحة. وأثناء ذلك، شن الشيوعيون حملة واسعة النطاق عنوانها السلم في كردستان والمطالبة بالحل السياسي للقضية الكردية، وانخرط في هذه الحملة الكثير من الشخصيات الوطنية ووجهوا نداء الى عبدالكريم بهذا الخصوص. الى هذه اللحظة لم يكن حزبنا قد توصل الى قرار القتال واعلان الثورة المسلحة، وترافق هذا مع قرار عبدالكريم ضم الكويت وتشكيل وحدات عسكرية تطوعيه لتحريرها، ما دفع الملا الى ارسال برقية معلناً استعداده شرط العفو عنه والتصالح معنا، لكن عبدالكريم قاسم رفض هذا العرض، وطلب منا ارسال وفد الى بغداد، وفعلاً بعثنا نوري شاويس الذي التقاه وأبلغه ضرورة الاستسلام وقطع الصلة مع ملا مصطفى. رفضنا هذا الموضوع، وبقى الملا في منطقة بهدينان، وتوليت قيادة منطقة السليمانية وكركوك، اما القوى المسلحة في منطقة أربيل فكانت بقيادة المرحوم عمر مصطفى دبابة. في كانون الأول ديسمبر 1961 عقدنا اجتماعاً للجنة المركزية بمن حضر، وكان عددنا 12 عضواً، والموضوع المطروح هل نقاتل ام لا؟ وقررنا تشكيل حركة الأنصار الدفاعية المسلحة على ان تمارس الكفاح المسلح على طريقة حرب الأنصار، وان لا تتخلى عن الحوار والتصالح، ورفعنا شعار الديموقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان. وعارض هذا القرار اثنان من أعضاء اللجنة المركزية أحدهما الأستاذ علي عبدالله، وهو الآن نائب رئيس الحزب الديموقراطي الكردستاني، إذ قال ان قرار الثورة خطأ وان عبدالكريم قاسم سيعود الى توجهاته الديموقراطية تحت ضغط القوميين بحكم قلة خياراته. اما الشخص الثاني فهو المرحوم المقدم نوري أحمد طه، أحد الضباط الذين ساهموا في جمهورية مهاباد، وقال في ضوء تجربته الشخصية ان كل حركة مسلحة بقيادة ملا مصطفى سيكون مصيرها الفشل. وهكذا بدأت عمليات الكفاح المسلح في أواخر العام 1961، على شكل حرب عصابات ومن بعدها توسعت. الى متى؟ - استمرت هذه العمليات الى العام 1962 وتوسعت جيداً في العام 1963وحتى انقلاب 8 شباط فبراير 1963. في هذه الفترة كنت عضواً في المكتب السياسي ومع المقاتلين في الجبل. وفي صيف العام 1962 انتقل الملا الى منطقة راوندوز واقام في منطقة باله التي تحولت الى مقر دائم للبارزاني حتى نهاية الثورة في العام 1975. وخلال هذه الفترة تشكل مكتب عسكري مهمته الاشراف على العمليات العسكرية، وكنت مسؤولاً عنه. وفي صيف العام 1962 حدث لقاء مع البعثيين المعارضين أصلاً للحكومة، كان ممثلنا فيه المرحوم صالح اليوسفي عضو المكتب السياسي للحزب وممثل البعثيين علي صالح السعدي العضو القيادي في الحزب. وتم الاتفاق على ان ندعمهم في حال قيامهم بعمل عسكري ضد عبدالكريم قاسم. وفي الوقت نفسه اتصل المرحوم طاهر يحي بسكرتير حزبنا إبراهيم أحمد، عن طريق المقدم الكردي كريم قرني، وأخبره ان هناك حركة تجمع القوميين والبعثيين غايتها اطاحة عبدالكريم قاسم والاتفاق معنا. قدم الأستاذ أبراهيم أحمد شروطنا وهي، الاعتراف بالحكم الذاتي وتعيين ملا مصطفى حاكماً عسكرياً في كردستان، واشراك الأكراد بأربع حقائب وزارية في الحكومة الجديدة، وأطلاق الحريات الديموقراطية بعد مرحلة عبدالكريم قاسم. جاء جواب طاهر يحي بالايجاب. توسعت الحركة المناهضة لعبدالكريم قاسم وراحت تقترب من موعد التنفيذ، بعد اضرابات الطلبة واضراب عمال البنزين، الى ان جاء كانون الثاني 1963 فاتصلوا بنا يطالبوننا باسماء أربعة وزراء أكراد نرشحهم للحكومة الجديدة. وقدم ملا مصطفى الأسماء الآتية: بابا علي الشيخ محمود والعميد فؤاد عارف وجلال الطالباني وبكر عبدالكريم، الا انني رفضت. لماذا؟ - لان انطباعي عن البعثيين غير جيد، وانهم دمويون وانا لا أتحمل المسؤولية، كنت مرشحاً لوزارة العدل، فأي عدل يتحقق في ظل هؤلاء، واستبدل اسمي باسم الشهيد علي العسكري. وعند قيام الحركة في صباح الثامن من شباط كنت في معية ملا مصطفى. أيقظته، وقلت له: عمي انهض صارت الحركة، فقد أرسل مندوبنا في بغداد برقية تأييد، وعندها علمت ان الجماعة التي اتفقنا معها قامت بهذه الحركة. بعد يومين او ثلاثة، جاء كريم قرني، ومعه لقمان ابن ملا مصطفى الذي كان معتقلاً في السجون العراقية كهدية وعلامة حسن نية، وطلب من ملا مصطفى ان يرسل وفداً الى بغداد للتفاوض مع الحكومة الجديدة. ومع قيام الحركة حدث مباشرة خلاف بين الرئيس والمكتب السياسي الذي كان يميل الى اصدار أوامر باحتلال كل المدن الكردية وكسب كل الحاميات المعادية للحكومة الى جانبنا وقبول كل الضباط الشيوعيين والقاسميين، بحيث يكون لدينا مركز يسمح لنا بالتفاوض مع الحكومة من موقع القوة، خصوصاً ان الحكومة لم تضمن بيانها الأول ما وعدتنا به فهي لم تعلن الحكم الذاتي لكردستان ولم تعين ملا مصطفى حاكماً عسكرياً لمنطقة كردستان، واكتفت بكلمات عامة لا تفي بالغرض. وفضل ملا مصطفى أعطاءهم فرصة، فأرسلني وصالح اليوسفي الى بغداد حيث نزلت في فندق بغداد الفاخر، وزارني في الليل طاهر يحي، وكان آنذاك رئيس أركان الجيش. وقال هل أنتم على عهدكم؟ أجبته بالايجاب، ثم سألته وأنتم؟ فرد بالايجاب على رغم انهم عينوا في الوزارة الجديدة، بابا علي الشيخ محمود وفؤاد عارف وأنا على خلاف اتفاقنا معهم. وفي اليوم الثاني قمت بزيارة مجاملة لرئيس الجمهمورية عبدالسلام عارف ورئيس الوزراء أحمد حسن البكر، وكان حديثهم ودياً عن الشعب الكردي. تصور ان عبدالسلام عارف يحكي بالشعب الكردي وبكردستان الحبيبة.... وهو ما أفرحني. في تلك الأيام كانت لنا صداقات مع الحزب الشيوعي، وبدأنا نهرب اعضاءه عبر كردستان. كنت أملك سيارتين لا تخضعان للتفتيش فاستعملت واحدة لهذا الغرض، ومن ضمن من هربتهم المرحوم سليم الفخري والمقدم سعيد مطر وآخرون، مما ازعج البعثيين. وفي أول لقاء لي مع علي صالح السعدي حدث نوع من الحدة بيننا. قال انكم تؤوون الشيوعيين فقلت له رأينا وخلاصته اننا لسنا مع ابادة الشيوعيين ولا نؤوي قوى غايتها العمل العسكري ضدكم. عنيف ولكن هل كان علي صالح السعدي عنيفاً؟ - عنيف ولكن آراءه متقدمة، على عكس ما عرف عنه. فمثلاً طلبوا مني الذهاب معهم الى القاهرةوالجزائر ليس لان القضية الكردية لا يمكن حلها في العراق وانما لاشراك الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس أحمد بن بله فيها، وهذا ما دفع أحمد حسن البكر الى القول اننا مستعدون لمنحكم الحكم الذاتي ولكن هل سيسكت عبدالناصر من دون استغلالها ضدنا؟ في حين قال علي صالح السعدي ان عبدالناصر سيكسر رقبتنا، وسيقول ان البعثيين قسموا العراق، لذا توجبت موافقته. الحقيقة انني فهمت من بعد انهم يحتاجون الى الوقت لتصفية معارضيهم من شيوعيين وغيرهم ولتثبيت مواقعهم في الحكم بدلا من تنفيذ اتفاقهم معنا. كنت متردداً في السفر الى القاهرة، كوني لم أحصل على موافقة السفر، اضافة الى ان الوزيرين الكرديين تحملا مسؤولية سفري، طبعاً زعل مني ملا مصطفي كما هو مثبت في كتاب "رحلة رجال شجعان"، اذ يقول المؤلف انني عندما التقيت جلال الطالباني في المطار وأخبرته بزعل الملا اصفر وجهه خوفاً، لكني ادركت ان جلال الطالباني بعيد النظر ويدرك أهمية العلاقة العربية وأهمية العلاقة مع عبدالناصر. الخلاصة، وهذه للتاريخ، سافرت مع علي صالح السعدي الى القاهرة، وفي الطائرة قال لي لقد اعتقلنا قيادة الحزب الشيوعي العراقي، فسألته ماذا ستفعلون بهم؟ قال نسعى الى الوصول للتفاهم والاتفاق والمصالحة معهم ويكفي دماء، وكان البعثيون آنذاك قد اعدموا الكثير من الشيوعيين. ذهبنا الى القاهرة والتقينا عبدالناصر. وبعد الترحيب بالثورة ونجاحها، قال ارجو ان تسمعوا مني جيداً، انني لم أفرح لمقتل أحد من جماعة عبدالكريم قاسم وتألمت على جميعهم الا المهداوي، فأنا لم أفرح لمقتله ولكنني لم أتألم. وقال ان عبدالكريم قاسم قاد الثورة وأحد الضباط الأحرار ولم تكن ثمة ضرورة لقتله. والنقطة الثانية التي اثارها عبدالناصر هي التوقف عن قتل الشيوعيين "لان هذا القتل سيخلق لكم ضجة في المعسكر الاشتراكي وفي العالم، فقتل الناس بشكل عشوائي غير صحيح". وكان هذا الكلام موجهاً الى الوفد العراقي برئاسة علي صالح السعدي وصالح مهدي عماش وزير الدفاع وطالب شبيب وزير الخارجية وعن الوفود الشعبية أديب الجادر ممثلاً عن اتحاد المهندسين وانا. اما بالنسبة الى القضية الكردية، فطلب علي صالح السعدي من عبدالناصر التقاء الوفد الكردي فقدمني له باعتباري ممثلاً عن الحزب الديموقراطي الكردستاني، إضافة الى الوزير فؤاد عارف. وبالفعل التقينا الرئيس عبدالناصر في جلسة خاصة، وتكلمت عن مفهومنا للوحدة العربية ووحدة العراق وتأييدنا لهما، وشرحت له مفهومنا للحكم الذاتي، وتولد لدي اقتناع مفاده ان عبدالناصر أخذ انطباعاً جيداً. ويمكنك ان تجد ذلك في المقدمة التي كتبها الدكتور جمال الآتاسي لكتاب "الأكراد" لمنذر الموصلي، فقد ذكر فيها أن عبدالناصر أبلغه أنه كان مرتاحاً للشرح الذي قدمه جلال الطالباني للقضية الكردية، وهذه الحقيقة أكدها أيضاً الصحافي الفرنسي في صحيفة "لوموند" اريك رولو. وأتذكر، أيضاً، قول الرئيس جمال عبدالناصر، نحن القوميين العرب لا توجد لدينا حلول جاهزة للقضية القومية مثل الشيوعيين، فالشيوعي عندما تسأله عن القضية القومية يستل كتاباً من مكتبته للينين او ستالين ويقول ان حلنا للقضية القومية هكذا، في حين نحن القوميين العرب ليست لدينا حلول جاهزة لمثل هذه المسائل. لذا سندرس هذه القضية وبعد عودتكم من الجزائر سنواصل الحديث معكم. سافرنا الى الجزائر، ووجدنا الرئيس بن بله أوضح من عبدالناصر، ببساطة كان متواضعاً من دون فخفخة الرؤساء حوله. وقد وجه كلامه للوفد العراقي قائلاً: "اخوان أعطوا الحكم الذاتي للأكراد بسرعة، فنحن في الجزائر كنا نقبل في فترة من فترات نضالنا بالحكم الذاتي، ولكن عندما تعنت الفرنسيون معنا لم نعد نقبل الا بالاستقلال. لذا عليكم حل هذه القضية على أساس اعطاء الأكراد حقوقهم وكسب عواطفهم في المنطقة، وهذا سيمنع استغلال القضية الكردية من قبل الايرانيين وغيرهم". بعد رجوعنا الى القاهرة، استقبلنا الرئيس عبدالناصر، وقال: فكرت في الموضوع وأنا أؤيد الحكم الذاتي ضمن العراق المتحد، ولكن يا جلال انقل عن لساني وبلغ البارزاني والحزب ما يلي: أولا، ضرورة التأكيد على الوحدة الوطنية في العراق. ثانياً، عند مطالبتكم بالحكم الذاتي بينوا انكم تريدون ذلك ضمن الوحدة العراقية. ثالثاً، لا تعارضوا الوحدة العربية. رابعاً، تنبهوا واحذروا من شاه أيران لأنه يريد استغلال القضية الكردية من أجل مطامعه ومصالحه الخاصة وبإمكانه ان يستغني عنكم عندما تقتضي ذلك مصالحه. عقدنا اجتماعاً مشتركاً بعد رجوعنا الى بغداد وطالبت بما اتفقنا عليه، وهو الحكم الذاتي، وكان الرد اننا سنحصل على الجواب بعد اجتماع مجلس قيادة الثورة. وفعلاً عقدنا اجتماعاً مع وفد حكومي برئاسة الأستاذ حازم جواد، وكان أميناً قطرياً في حزب البعث ووزير دولة. بدأ جواد حديثه مشيراً الى انهم مع حق تقرير المصير للشعب الكردي وليس فقط الحكم الذاتي، وتمنى اليوم الذي تتشكل فيه جمهورية كردستان الاشتراكية، ولكن عليكم الانتظار لفترة نظراً الى الظروف الصعبة التي نمر بها. طبعاً شكرت حازم جواد على عواطفه الطيبة وقلت اننا لم نطالب بالاستقلال وانما بالحكم الذاتي لكردستان، أي نصف ما تحدثت عنه، فرد قائلاً انهم سيعطوننا الجواب في اليوم التالي. استدعانا مجلس قيادة الثورة في اليوم الثاني، والتقينا المرحوم صالح مهدي عماش. وكان وفدنا يتشكل مني ومن محمد سعيد الخفاف وبابا علي وفؤاد عارف وصالح اليوسفي، وقال عماش انهم موافقون على منحنا الحكم الذاتي وأبدى استعدادهم لاعطائنا تعهداً بذلك، وطلب مني ان أكتب صيغة الحكم الذاتي التي نريدها الآن، وهو من جانبه سيحصل على موافقة وتواقيع كل اعضاء مجلس قيادة الثورة، لكننا يجب ان نمهلهم أربعة أشهر من أجل تنفيذ اتفاق الحكم الذاتي. من جانبنا ذكرناهم بوعودهم، وطلبنا ان يعقد الوفد الكردي خلوة بين اعضائه لمناقشة الخطوة المقبلة. طبعاً في تلك الأيام كانت حساسية إثارة قضية الحكم الذاتي لا تقل عن الحديث عن انشاء إسرائيل ثانية، وقررنا أستشارة ملا مصطفى، وبالفعل بعد أتصالنا به طلب عودتي حالاً شرط ان لا أوقع على أي شيء. بعد ذلك ذهبت وأخبرت الحكومة بانني عائد الى كردستان بطلب من الملا. وعند عودتي أعددت تقريراً عن زيارتي الى القاهرةوالجزائر وقدمته الى الملا، الذي كان غاضباً بسبب رحلتي. شرحت له الأهمية الكبيرة لزيارتي هذه والتقاء الرئيسين جمال عبدالناصر وأحمد بن بله وإيصال رأينا اليهما والحصول على تأييدهما، ففرح الملا بعد سماع هذه الأخبار. "الشعب الكردي" للمرة الأولى بعد أيام ارسلت الحكومة العراقية وفداً الى كردستان، على رأسه طاهر يحيى وآخرون، ومعهم بيان صادر عن مجلس قيادة الثورة يعلن احترام المجلس حقوق الشعب الكردي على أساس اللامركزية... الخ. وعلى رغم استعمال كلمة الشعب الكردي للمرة الاولى، الا انهم استبدلوا الحكم الذاتي باللامركزية، وهو ما دفع الملا الى رفض البيان. بدأنا نهيئ مشروعاً بديلاً، والحقيقة انني لم أشترك في كتابة هذا المشروع، وانما أعده المقدم الركن كافي عبدالنبي، وكان مضمونه أكثر من المطالبة بالحكم الذاتي وأكثر من المشروع الفيديرالي، اذ يطالب بتشكيل جيش كردي بديل من الجيش العراقي يملك كل الأسلحة التي يملكها الجيش النظامي. وقدم هذا المشروع الى الحكومة العراقية التي أرسلت وفداً شعبياً برئاسة الأستاذ فائق السامرائي، وعضوية حسين جميل ومجموعة أخرى من الشخصيات العراقية، والتقوا ملا مصطفى في قرية جوارقرنه قرب رانية. ناقشوا مشروعنا واحتدمت وجهات النظر. ولشرح الموقف السوفياتي في تلك الفترة أقول، ان شخصاً اسمه زايد سيف من السفارة زارني في الفندق في بغداد، وهمس في أذني، خوفاً من تسجيل حوارنا ما يلي: مواصلة الحوار مع الحكومة المركزية، الاستفادة من العلاقة مع عبدالناصر والعلاقات العربية الأخرى، تجنب تجدد القتال مع البعثيين. ولمعلوماتك فإن موسكو في ذلك الوقت كانت تمنح حزبنا مساعدات مالية فيما كانت تزود عبدالكريم قاسم الأسلحة. وهل كنتم تحصلون على أسلحة من ايران؟ - لا، لم تكن عندنا علاقة معها حتى العام 1963، على رغم وجود اتصال. الحكومة الإيرانية تراجعت في علاقتها معنا عندما حدثت حركة شباط وقتل عبدالكريم قاسم، واعترفت بالحكومة الجديدة، وشكل الايرانيون مركز عمليات مشتركة بينهم وبين العراق وتركيا، مقره في كركوك، لضربنا في حال تجدد القتال. وضمن احتفالات النوروز في آذار مارس، نظم اجتماع شعبي، حضره حزبنا والقادة العسكريون وأغلب رؤساء العشائر الكردية في مدينة كويسنجق، لبحث العلاقة مع الحكومة المركزية. وجرى انتخاب وفد جديد من 11 عضواً لمفاوضة الحكومة المركزية، وباقتراح من ملا مصطفى انتخبت رئيساً له. وشكلت الحكومة وفداً شعبياً غير رسمي برئاسة الأستاذ فائق السامرائي والأستاذ عبدالعزيز الدوري وحسين جميل والمرحوم رضا الشبيبي وعدد من الشخصيات البعثية. تكلمنا في موضوع الحكم الذاتي وحدود منطقة الحكم الذاتي. وفي ذلك الاجتماع كنت أحمل معي صورة رسالة أعطاني اياها المرحوم فؤاد الركابي وموقعة من مجموعة من اللاجئين والمعارضين السياسين الموجودين في القاهرة، من القوميين والبعثيين والناصريين، في شأن القضية الكردية وحدود كردستان، وموجهة الى الرئيس عبدالناصر. قدمت تلك الرسالة الى فائق السامرائي، وقلت هل تقبلها؟ فسألني السؤال نفسه، وقبلناها وقال اذاً القضية محلولة. لكنهم تراجعوا بعد ذلك بحجة ان هذه الرسالة كتبت في ظروف غير طبيعية، واستمر النقاش يومين من دون ان نصل الى نتيجة. أثناء اقامتي في فندق سميراميس في بغداد، جاء من يخبرني ان هناك شخصين يريدان لقائي وهم سلام أحمد الأمين القطري لحركة القوميين العرب في العراق وخريج الجامعة الأميركية ونايف حواتمة ومعهما شخص آخر اسمه عبدالاله النصراوي. جلسنا، وأخبروني بانهم يخططون لحركة انقلابية ضد الحكومة العراقية، وعرضوا علينا فكرة الاشتراك. فسألتهم عن اهدافهم، فقالوا التخلص من البعث لانهم لا يريدون الوحدة العربية وغير جادين في الديموقراطية. أجبتهم بأننا نؤيد أي حركة تزيح البعث لكننا لا نملك قدرة الاشتراك ولن نقوم بعمل ضدكم وذهبوا. ومنذ لقاء المؤامرة ذلك تعرفت على الأستاذ نايف حواتمة أي في العام 1963. بدأت مباحثات الوحدة الثلاثية، السورية العراقية المصرية، في نيسان ابريل من ذلك العام. قدمت مذكرة باسم الوفد الكردي، قلت فيها إن بقى العراق على حاله فنحن نطالب بالحكم الذاتي، وفيما لو تحققت الوحدة على أساس اتحادي فنحن نطالب بأكثر من الحكم الذاتي، وفيما لو تحققت الوحدة الاندماجية فنحن نقبل بان تكون كردستان الأقليم الرابع، أسوة بأقليم العراق وسورية ومصر. طلب مني السفر الى القاهرة في مايو، وتكملت مع عبدالناصر، وقلت ان البعثيين يتحدثون باسمكم، قال انهم غير صادقين وليتهم يتفقون معكم حتى نوقع هذا الاتفاق في القاهرة. وأثناء وجودي في القاهرة أكتشفت مؤامرة حركة القوميين العرب والقي القبض على قادتها بمن فيهم نايف حواتمة وسلام أحمد، وورد اسمي ضمن تلك الأسماء ما يعني ان عودتي الى بغداد أصبحت متعذرة. المهم، التقيت الرئيس عبدالناصر الذي لم يصدق الخبر، ونصحني بعدم الرجوع الى العراق بل الذهاب الى بيروت وعقد مؤتمر صحافي، قال لي اعلن فيه مايلي: بيِّن انكم مع الوحدة، وانهم يشبهونكم باسرائيل الثانية وهذا خطأ كونكم مسلمين وانكم تدافعون عن أرضكم ولم تأتوا من مناطق أخرى الى فلسطين، وانكم مع القومية العربية وليس ضدها، وانكم تريدون السلام والحل السياسي وليس الحرب. وبالفعل ذهبت الى بيروت، وساعدني هشام أبو ظهر والصحافيون الناصريون. رفضت العودة الى العراق، وقررت السفر الى أوروبا. وخلال وجودي في اوروبا شن البعثيون الحرب على المنطقة الكردية، ضمن تعاون تركي عراقي ايراني، في 10 حزيران، بحجة انها ليست حرباً وانما نزهة صيفية للشباب، وخلال ايام "سوف نقضي على التمرد الخياني الكردي". وصلتني وانا في باريس برقيتان، الأولى مرفقة بوثيقة عممها صالح مهدي عماش وزير الدفاع يعيب فيها على مصر العاصمة العربية تأييدها الأكراد ويختمها بمثل عراقي، "عرب وين وطنبوره وين". وبرقية ثانية سرية للغاية صادرة من وزارة الدفاع، حول التعاون التركي الايرانيالعراقي. سلمت هاتين الوثيقتين الى الأستاذ محمد حسنين هيكل، وكان في باريس، ووعدني بنشر مقال عنهما بعد التأكد من صحتهما لدى عودته الى القاهرة، وبالفعل نشر المقال. بيريز يريد لقائي في باريس التقيت الدكتور كامران بدرخان، وأخبرني في أحد الأيام ان وكيل وزير الدفاع الأسرائيلي شمعون بيريز يرغب في لقائي، قلت أمهلني بعض الوقت من أجل الأستشارة. وفي الوقت نفسه زارني طه محي الدين معروف، نائب رئيس الجمهورية الحالي، وكان مفصولاً من عمله كمستشار أول في السفارة العراقية في لندن، وأخبرني ان الملك حسين موجود ويرغب في لقائك وكان جوابي أمهلني قليلاً للأستشارة. وفي الحالتين أستشرت السوفيات، اذ كنت على صلة يومية معهم، وقد حذروني من لقاء المسؤول الأسرائيلي، لكنهم قالوا من المفيد ان تلتقي الملك حسين. طبعاً أعتذرت بلباقة للدكتور كامران بدرخان، وقلت له انني استلمت أمراً من الداخل يقول انني غير مخول، وأختصاصي يتحدد بتطوير العلاقة مع عبدالناصر والتيار العربي. لكنني التقيت الملك حسين في فندق كريون، وكان معه أحد أفراد العائلة المالكة أعتقد انه زيد بن شاكر، برفقة طه محي الدين معروف، وبعد الترحيب بنا، طلبت منه المساعدة، ولخص جوابه بان امكانات الاردن محدودة ولا أستطيع التعاقد معكم وتقديم المساعدات، لكنني أستطيع التحدث مع صديقي شاه ايران في هذا الموضوع وأحاول اقناعه بمساعدتكم. اذا هكذا بدأت العلاقة مع ايران؟ - لا قبلها. لكن وعده قوى العلاقة. كيف يمكن ان يساعدكم شاه ايران؟ - بكل شيء، بما فيها المساعدة العسكرية، خصوصاً بعد ان شن الجيش العراقي هجومه وارسل الجيش السوري لواء اليرموك لقتالنا بقيادة فهد الشاعر. كان وضعنا سيئاً. وقد انتقلت الى المانيا ومنها الى موسكو، وكنت ازورها بصورة سرية، ولكن التلفزيون السوفياتي أذاع المقابلة التي أجراها معي في باريس، وترافق هذا مع تقديم جمهورية منغوليا اقتراحاً لمناقشة القضية الكردية في الأممالمتحدة، وأثارت جمهورية تشيكوسلوفاكيا القضية في جنيف لكنها لم تلق القبول. في تلك الأيام دافع السوفيات عن القضية الكردية بحماس كبير. قدموا مذكرات الى سورية وايران وتركيا ودعوها الى عدم التدخل في الشؤون الداخلية العراقية وعدم قتل الأكراد وأثاروا ضجة واسعة حول حرب الأبادة التي يتعرض لها الأكراد، بمعنى آخر ان ما يقوم به الأميركيون الآن هو أقل بكثير مما قام به الاتحاد السوفياتي. وزير الخارجية الروسي الحالي بريماكوف كان صديقاً للملا مصطفى فماذا كان دوره؟ - نعم انه صديق الملا وصديقي وصديق الأكراد، وهو الوسيط بيننا وبين الحكومة العراقية في اتفاق آذار مارس 1970. وعدنا السوفيات بتقديم مساعدات مادية وعسكرية، ونصحونا بان لا نتصل باسرائيل، ونصحونا ايضا بالاتصال بايران التي جددت الأتصال بنا، وتعزيز علاقاتنا مع عبدالناصر، الذي كان يحتاج الى وسيط بينه وبين البعثيين. أرسلني السوفيات الى تشيكوسلوفاكيا، وهم بدورهم وعدوني بتقديم ما نحتاجه من مساعدات عسكرية، وكذلك المانياالشرقية وعدت بتقديم مساعدات طبية، يعني كل المنظومة الأشتراكية أعلنت استعدادها لتقديم المساعدات شرط إيصالها الى كردستان. رجعت للأشتراك في مؤتمر الطلبة الأكراد الذي حضره الجواهري الكبير والقى فيه قصيدته المعروفة "كردستان موطن الابطال"، والأستاذ جبران حايك. وكان من المفترض ان اذهب الى نيويورك لحضور مناقشة الاقتراح الذي قدمته منغوليا، الا ان هذه السفرة لم يكتب لها النجاح بسبب سحب منغوليا اقتراحها. التقيت في طهران مندوبنا شمس الدين المفتي، وهو صديقي وزميلي في كلية الحقوق، ومن خلاله تعرفت على بعض الحقائق الكردية الايرانية. وحدثني ان وفدا من حزبنا حضر الى ايران ولم يحصل على شيء، رغم وعودهم بتقديم مساعدات. وكل ما قدمه الايرانيون لا يتجاوز مئة بندقية قديمة. رجعت الى كردستان ووجدت الوضع صعباً ومشتعلاً، فقد جندت الحكومة العشائر العربية والكردية لمقاتلتنا، لكنهم لم يقضوا علينا. والغريب في الموضوع، ان الأستاذ هاني الهندي أخبرني فيما بعد ان صالح مهدي عماش، وزير الدفاع أخبر مجلس قيادة الثورة بانه ضد تجدد القتال في كردستان وانهم لا يستطيعون حل هذه القضية عسكريا، ومع صدور القرار بالأكثرية، أستعمل فقرة نزهة الى شمال العراق. في تشرين 1963، قامت الحركة الناصرية التي طردت البعث من الحكم، وشكلت وزارة جديدة برئاسة طاهر يحيى. وسبق ان التقيته عندما ذهبت الى القاهرة في مايو من ذلك العام، وعرض عليّ مساعدة مادية رفضتها، ثم اصطحبني خارج الغرفة وتمشينا، وقال انت رايح الى القاهرة وستلتقي الرئيس عبدالناصر، أرجو منك ان تحفظ هذه الجملة وتبلغها للرئيس وكانت، نحن على العهد باقون وعملنا مستمر بعونه تعالى، وتبدو انها كلمة سر، وبالفعل نقلتها الى عبدالناصر. خلافات كردية هذا دليل على دور مصري؟ - كان طاهر بعثياً، وعضواً في المكتب العسكري في الحزب، لكنه أنتقل الى التعاون مع الناصرين وأصبح رئيساً للوزراء بعد التغيير الذي قام به الرئيس عبدالسلام عارف، وعين أحمد حسن البكر نائباً للرئيس بالأسم ولكنه أعتذر، وأعلن البراءة والأعتزال من الحياة السياسية. وكان هذا نتيجة الخلافات التي جرت بين البعثيين، ويمكن التأكد من هذا الموضوع بالرجوع الى كتاب "أوكار الهزيمة" للمرحوم هاني الفكيكي. وبعد نجاح حركة تشرين بعثوا لي شخصا ومعه رسالة تطالب بايقاف القتال والعودة الى الحوار. وكان ردي اننا مع الحوار ووقف أطلاق النار وتلك هي سياسة حزبنا، اما في ما يخص وفد المفاوضات، فلدينا وفد من عشرة أشخاص موقوفين في بغداد. بدأت المفاوضات الجديدة، وبعد مداولات طويلة وافق البارزاني على الاستمرار فيها … أشتدت خلافات الحركة الكردية وانفجرت في شباط فبراير 1964، وكانت تدور على نقاط عدة منها: هل نقبل التفاوض مع الحكومة الجديدة ام نرفض؟ وان قبلنا التفاوض ماهي المطالب التي نقبل بها؟ ولكننا عدنا الى طاولة المفاوضات مرة ثانية ومع وفد جديد جاء الى مدينة رانية ضمّ الشيخ أحمد البارزاني، الأخ الأكبر للملا وكان يحظى باحترام الجميع، والملا ونوري شاويس وانا، بعد ان قبلنا ايقاف اطلاق النار. وكان وفد الحكومة مؤلفاً من محافظ السليمانية، على خلاف مستوى اللقاءات الأخرى التي جمعتنا مع رئيس الوزراء او رئيس الجمهورية وغيرهم. وجلب معه القرآن ونص بيان وقعه ملا مصطفى، اذ انصب اعتراضنا على فقرة "يعودوا الى أعمالهم الحرة الكريمة" وكان رأينا ان "القتال ليس عملاً حراً وكريماً". اضافة الى عدم الأشارة الى حقوق الأكراد وعدم تسميته الشعب الكردي. وكان نوري شاويس، عضو المكتب السياسي هو الأخر من المعترضين. وبعد صدور البيان أعترض عليه المكتب السياسي. لكنه حظي بموافقة موسكو، اذ ارسل نيكيتا خروشوف برقية تهنئة الى عبدالسلام عارف، اما الحزب الشيوعي أقليم كردستان فقد أصدر بياناً شبيهاً بمنطقنا في أول الأمر، لكنه غير رأيه بعدما عرف ببرقية خروشوف. عقد المكتب السياسي اجتماعاً عارض فيه هذا التوجه. ومما عمق حدة الخلافات هو تصريحات البارزاني وتأييده فكرة الحزب الواحد وإذابة كل الأحزاب السياسية في الأتحاد الأشتراكي. وزاد من حدة الخلاف بين المكتب السياسي والملا تصريحه الآخر وتمجيده عبدالسلام عارف وقوله "انني رجل مسلم ومؤمن والمؤمن مؤتمن على قضية الشعب الكردي وهو الذي يتولى حقوقنا". بعد ذلك جرى الاتفاق مع البارزاني على أشياء بسيطة مثل، عودة الموظفين والشرطة والضباط والبيشمركة الى وظائفهم وأماكنهم، وعودة الادارات الحكومية الى المناطق التي تقع تحت سيطرتنا، وتعيين موظفين أكراد، وخلت كل هذه الأشياء من أي مطلب قومي. وأصدر المكتب السياسي بياناً عنوانه "اتفاقية المشير البارزاني، صلح ام استسلام"؟ ولم أكن من ضمن الجماعة التي كتبت هذا البيان، وعارضته رغم معارضتي تصريحات البارزاني، وكان موقفي هو ضد نقل خلافاتنا الى العلن. بمعنى آخر اتخذت موقف الوسط، بعد تدهور العلاقة بين المكتب السياسي وملا مصطفى، راح كل طرف يجمع انصاره. فحشد الملا حوله العشائر والضباط، وأصدر قراراً باقالة كل القادة العسكريين وعينني قائداً عسكرياً وعين مسؤولين جدداً لوحدات البيشمركة بعد طرد الحزبيين، ولكنني لم أقبل ذلك باعتباره ضد الحزبيين. ومن جهته عقد المكتب السياسي مؤتمراً حزبياً في قرية ماوت قرب السليمانية وقرر تجريد ملا مصطفى من صلاحياته الحزبية. ولم أحضر هذا الاجتماع، وحاولت جهدي مناقشة الملا في مدى جدية أقواله، "بنهاية الثورة، وعدم الاصرار على المطالبة بالحكم الذاتي، ويجب ان لايكون الحزب ضد الشعب وان الشعب أكبر من الحزب، واننا من الخطأ ان نضحي بحياة الناس، وضرورة الانتظار لما تثمر عنه تجربة الاتحاد الاشتراكي، وكيف نختلف مع حكومة حظيت بتأييد السوفيات والأميركان"؟ وعملت وسيطاً بين الأطراف الى حزيران 1964 رغبة في تفادي الانشقاق، لكن الحزبية وقرار الأكثرية في آخر الأمر تغلبا فأنضممت الى جماعة المكتب السياسي. ووقف 15 عضوا من أصل 17 عضواً في اللجنة المركزية، ضد حل الحزب وضد التفريط بحقوق الشعب الكردي واعتبار عبدالسلام عارف رجلاً أهوج لا يمكن الاطمئنان اليه. بالمقابل دعا الملا الى مؤتمر حزبي في تموز 1964، وأصدر قراراً بفصل جميع أعضاء اللجنة المركزية دفعة واحدة، وآخر بتشكيل لجنة مركزية جديدة لم يكن فيها سوى هاشم عقراوي من اللجنة القديمة، وهو أنشق عليه في العام 1973 وأنضم الى الحكومة العراقية. وأدى التجاذب الى أنشقاق الحزب. التحقت بجناح الملا الأكثرية الساحقة من القوات المسلحة والعشائر، فيما التحقت الكوادر والمنظمات الحزبية بالمكتب السياسي. في ذلك الوقت كتب إليِّ الملا رسالة بخط يده أستهلها بآية قرآنية "يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين" وأجبته بكل أحترام وقلت له انا حزبي لا استطيع ان أوافق على خرق المبادئ الحزبية، وأنا آسف شديد الأسف على الأفتراق عنك بعد كل هذا العمر النضالي تحت قيادتك، اذ ان الأختلاف صار على مبادئ وقيم لا يمكن تجاهلها. بعد ذلك شن البارزاني هجوماً مسلحاً بالتعاون مع العشائر على المكتب السياسي الذي اضطر الى التراجع الى ايران، وكنت من معارضي التوجه الى ايران واقترحت الذهاب الى منطقة بارزان والاحتماء بالشيخ أحمد. آنذاك بدأ شاه ايران بالتعاون والاتفاق، عبر مدير المخابرات الايرانية، مع البارزاني بسبب الحكومة الموالية لعبدالناصر، وكان ذلك في العام 1964. وفي ضوء هذه الخلفية صار هناك حزبان كل منهما يدّعي انه الحزب الديموقراطي الأصيل ويكيل للآخر الاتهامات بخيانة القضية. وفي العام 1965 تجدد القتال بين الحكومة والبارزاني، مما حدا بنا الى ارسال وفد اليه واقترحنا اما قبولنا كحزب ثان للثورة تحت قيادته وإما حل خلافات الحزب فوافق، وسلمناه الاذاعة وكان السوفيات صمموها خصيصاً للثورة الكردية. هل كان رجوعكم كحزب؟ - لا رجعنا كمقاتلين والبحث معه في توحيد الحزب. اقترحنا عليه عقد مؤتمر لتوحيد الحزب الا انه رفض وعين بعضنا مسؤولين عسكريين، وطلب من أعضاء المكتب السياسي ان يكونوا تحت خيمته في منطقة دوله رقا التي كان رئيس عشيرتها عباس ماما أغا. مرت أربعة أشهر ولم تحل قضيتنا أي الى العام 1966. وفي ذلك الوقت أعدم في السجن أحد رفاقنا المعتقلين واسمه علي حمدي. ما أثار الرعب في نفوسنا. ثم بعث الملا مسلحين وأمر بنقلنا الى مكان أخر وتوجسنا من هذه القضية، لكن أحد البارزانيين أخبر الشهيد علي العسكري، بان الخطة تهدف الى تصفيتنا بحجة اننا حاولنا الهرب في الطريق، ما دفعنا الى عقد اجتماع، ضم الشهيد علي العسكري وحلمي الشريف والمرحوم عمر مصطفى والمرحوم نوري شاويس والمرحوم نوري أحمد طه وعلي عبدالله وأنا، ارسلنا برقية نطلب فيها لقاء الملا، لكنه رفض طلبنا واصر على قراره بنقل الشخصين، انا وحلمي الشريف. وأخبرنا عباس ماما أغا بذلك، وبدوره كتب برقية الى الملا يطلب منه ابقاءنا تحت حمايته. وكان جوابه الرفض مرة ثانية. عندئذ قررنا الهرب الى المدن، ما عدا علي عبدالله والمرحوم نوري شاويس فقد فضلا البقاء. كانت تدور مفاوضات بين الحكومة التي يرأسها عبدالرحمن البزاز والبارزاني لعقد هدنة، وعند الطلب من جناحنا ان يشترك في هذه المفاوضات، كان ردنا هو أستشارة الرئيس عبدالناصر. لذا أرسلنا الأستاذ حلمي الشريف الى القاهرة، وأتصل بعبدالناصر الذي نصحه بالموافقة على المفاوضات لثلاثة اسباب: ان القتال سيء وان الحل السياسي أحسن، العلاقات مع ايران اصبحت خطيرة، والقتال يؤدي الى تعزيز العلاقة معها في حين ان السلام يقطع هذه العلاقة، ومن أجل تخليص الحركة الكردية من الارتباط بالشاه والتعويل على تطور الحكم في العراق. ذهبت الى بغداد بصورة سرية من أجل لقاء الحركة الاشتراكية العربية، ومنهم أديب الجادر وخيرالدين حسيب وعبدالاله النصراوي، وشرحت لهم وضعنا فنصحونا بالقبول. أعلنت أتفاقية 30 حزيران يونيو 1966 بين حكومة عبدالرحمن البزاز والبارزاني، يومذاك كنت مجتمعاً مع الأخوة الناصريين، وسمعنا الطائرات تقصف القصر الجمهوري وعرفنا انها محاولة عارف عبدالرزاق الانقلابية التي فشلت. وقد أيد جناح حزبنا هذه الاتفاقية. ثم أجبر عبدالرحمن البزاز على الأستقالة، وخلفته حكومة برئاسة ناجي طالب، أحد الضباط الأحرار، وهو عربي شيعي ناصري النزعة، وكان عضو مجلس الرئاسة بين مصر والعراق. وقد ضمت هذه الوزارة صديقنا، الاستاذ رجب عبدالمجيد، كنائب لرئيس الوزراء ووزير الداخلية. وقد أيدنا بحماسة هذه الحكومة، باعتبارها وطنية ومعادية للاستعمار ويقودها الضباط الأحرار. واما تقويمي هذه الفترة فانا اعتقد اننا ارتكبنا خطأين كبيرين: تأييد الحكومة لا بأس به ولكن كان علينا ان نترك العمل المسلح للبارزاني ونركز على العمل السياسي، فالبارزاني بدأ يتسلم المساعدات من ايران وما كان لنا سوى الحكومة العراقية