بعد أربعة أيام من الهجمات الجوية والصاروخية الليلية التي استهدفت قائمة كبيرة من المواقع والمنشآت العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية الحيوية، أعلن الرئيس بيل كلينتون وحليفه رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير وقف عملية "ثعلب الصحراء" ضد العراق، مؤكدين أولاً انها "حققت الأهداف التي كانت محددة لها"، وثانياً أن "التهديد باستئناف العمليات العسكرية يظل قائماً" كلما دعت الحاجة إليه. ولا شك انه لا يزال من السابق لاوانه التكهن بالمدى الذي نجحت فيه هذه الهجمات في تحقيق أهدافها، لا سيما على مستوى "الغرض الاستراتيجي" الذي كان مرسوماً لها، أي "اضعاف القدرات العسكرية للنظام العراقي، وزعزعة استقراره، وتقويض دعائم سيطرته على البلاد". فمثل هذا "الغرض الاستراتيجي" كان يستدعي، من حيث المبدأ، شن هجوم متواصل فترة زمنية طويلة حتى يحقق هدفه. وهذا تحديداً ما كان يفترض بعملية "ثعلب الصحراء" أن تكونه. بل ان الرئيس كلينتون نفسه وصف هذه العملية عند اعلانه البدء فيها بعبارة "حملة مركزة ومتواصلة". كما وردت هذه العبارة أو ما شابهها مراراً على ألسنة كبار المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين الأميركيين والبريطانيين تعليقاً على العمليات العسكرية. لكنه كان متوقعاً أن تتوقف العمليات مع حلول شهر رمضان المبارك. وهذا ما حدث فعلاً والأمر الذي تتفق عليه المصادر الدفاعية والديبلوماسية العربية والأجنبية ان وقف العمليات أملته "اعتبارات سياسية ومعنوية بالغة الحساسية" تتعلق أساساً بشهر الصوم الكريم ودلالاته الدينية والعاطفية القوية في العالمين العربي والاسلامي، بل ان وقف العملية لم يكن نتيجة تدخلات أو ضغوط، اذ كان الأمر مخططاً منذ البداية. أما الأمر الثالث الذي تتفق عليه هذه المصادر فهو ان ما حدث يمثل "وقفاً للعمليات لا انتهاء لها. فالعملية كانت مخططة أصلاً لأن تتم على مراحل. وما نفذ منها حتى الآن يعتبر بمثابة المرحلة الأولى التي كان لا بد أن تعقبها مرحلة توقف ومراجعة تتزامن مع شهر رمضان المبارك، على أن يلي ذلك تنفيذ المراحل الأخرى من العملية بجوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية المتكاملة". وانطلاقاً من هذا التحليل، فإن "الغرض الاستراتيجي" البعيد المدى الذي عقدت الولاياتالمتحدة العزم على تحقيقه ومعها بريطانيا طبعاً، لا يزال على حاله ولم يدخل عليه أي تعديل، وهو ببساطة "اضعاف نظام الرئيس صدام حسين، وتقليص قدراته العسكرية والأمنية، وزعزعة استقراره السياسي، وإرباك وضعه الاقتصادي". أي "تهيئة الأجواء الملائمة التي تمهد لتغييره". وهذا يعني، بطبيعة الحال، استمرار العمل على أكثر من صعيد، للوصول الى ذلك "الوضع الملائم لاسقاط النظام". وفي صورة أساسية، سيتركز ذلك خلال المرحلة المقبلة على الجوانب الرئيسية الآتية: 1- استمرار العمل بنظام العقوبات الاقتصادية، وربما تشديدها، والتأكد من عدم تمكين بغداد من خرقها عن طريق عمليات التهريب والتجارة خارج اطار "اتفاق النفط مقابل الغذاء" بهدف "زيادة الأوضاع الاقتصادية الداخلية سوءاً، وتعزيز النقمة الشعبية الناجمة عنها ضد النظام وأدواته". 2- تنشيط أوضاع المعارضة السياسية والأمنية والعسكرية للنظام، لا سيما في مناطق الجنوب والشمال، توصلا الى "تحويل هذه المعارضة الى مصدر تهديد وإرباك جدي على الصعيدين المسلح والشعبي". 3- الاستمرار في ممارسة "الضغوط العسكرية" على بغداد من خلال الاعتماد على أساليب ووسائل متنوعة، "تشتمل على عمليات القصف الجوي والصاروخي". ولا يستبعد في هذا المجال اللجوء الى "أساليب العمليات الخاصة والتسلل والتخريب في الداخل". لكن الهدف الرئيسي في هذا الاطار سيظل متركزاً على اضعاف قدرات النظام العسكرية والأمنية. وهذا ما سيستدعي بدوره "استئناف عمليات مهاجمة الأهداف التي تم قصفها في المرحلة الأولى، وربما اضافة أهداف أخرى عليها في المراحل اللاحقة". ويستفاد من المعلومات الرسمية وشبه الرسمية ان عملية "ثعلب الصحراء" تضمنت الآتي: - اطلاق 415 صاروخاً جوالا كروز بعيد المدى، بالمقارنة مع 323 صاروخاً اطلقت خلال خمسة أسابيع من الحملة الجوية التي شهدتها حرب الخليج العام 1991. وتضمنت هذه الصواريخ 325 صاروخاً من طراز "توماهوك" الذي يطلق من السفن والغواصات، و90 صاروخاً من طراز "أ.ل.سي.م" الذي يطلق من الجو بواسطة قاذفات القنابل الاستراتيجية الثقيلة. - شن 650 طلعة جوية هجومية ومساندة شاركت فيها طائرات أميركية تابعة لكل من سلاح الجو وسلاح البحرية وسلاح مشاة البحرية المارينز، الى جانب طائرات تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني. وبلغت حصة البريطانيين من هذا المجموع 32 طلعة. - كان مجموع عدد الطائرات التي شاركت في الحملة 170 طائرة قتالية رئيسية، اشتملت على 72 طائرة تابعة لسلاح البحرية الأميركي انطلاقاً من حاملة الطائرات "انتربرايز"، وضمت 24 مقاتلة من طراز "ف - 14 تومكات" و48 مقاتلة من طراز "ف - 18 هورنت". وساهمت الوحدات الجوية التابعة لسلاح مشاة البحرية المارينز بسرب ضم 12 مقاتلة "ف - 18 هورنت"، بينما تولى سلاح الجو الأميركي توفير 73 طائرة اشتملت على 15 قاذفة استراتيجية ثقيلة من طراز "ب - 52" و6 قاذفات استراتيجية ثقيلة من طراز "ب - 1"، التي استخدمت في هذه العملية للمرة الأولى، و12 قاذفة لا يكتشفها الرادار ستلث من طراز "ف - 117 نايت هوك"، و12 مقاتلة من طراز "ف - 15 إيغل" و28 مقاتلة من طراز "ف - 16 فالكون". أما بريطانيا، فتألفت مساهمتها من 12 مقاتلة هجومية من طراز "تورنادو". - بلغ مجموع الأهداف العراقية التي هوجمت 96 موقعاً ومنشأة اشتملت على "فئات" عدة من الأهداف الحيوية الرئيسية والثانوية ذات الطابع العسكري والسياسي والأمني والاقتصادي. وفي الواقع، اقتصرت الأهداف ذات الطابع "الاقتصادي" على منشأة واحدة هي مصفاة النفط القريبة من مدينة البصرة. القيادة والتحكم أما الأهداف ذات الطابع "السياسي" و"الحزبي" فاشتملت على قصور ومقرات رئاسية وحزبية ومواقع صنفتها القيادة العسكرية الأميركية والبريطانية بأن لها علاقة بمسائل "القيادة والتحكم"، أي بقدرة النظام على السيطرة على البلاد سياسياً وأمنياً، مثل مقرات "الأمن الرئاسي" و"الأمن الخاص" و"المخابرات العامة" و"المخابرات الحزبية" وغيرها، وبلغ مجموعها 38 هدفاً. الأهداف "العسكرية" الطابع تألفت من شقين: أولهما "عسكري بحت"، واشتمل على 46 هدفاً تألفت من منصات دفاع جوي صاروخية ورادارية 32، وقواعد جوية 5، ومقرات قيادة وتجمع وثكنات ومراكز اتصال لقوات "الحرس الجمهوري" وقوات "الحرس الخاص" 9. أما الشق الثاني، فهو "عسكري/ صناعي"، وتضمن الأهداف التي يشتبه بعلاقتها ببرامج العراق السرية المفترضة في تطوير أسلحة الدمار الشامل الكيماوية والبيولوجية والصاروخية وانتاجها وتخزينها، وبلغ مجموعها 9 أهداف. - حددت المصادر العسكرية الأميركية والبريطانية الرسمية "نسب الفاعلية" التي تحققت في مهاجمة هذه الأهداف على أساس 3 مستويات: الأول، "تدمير الهدف كلياً أو إلحاق أضرار جسيمة به". وبلغ عدد الأهداف 38 أي ما نسبته 30 في المئة. الثاني، اصابة الهدف بأضرار متوسطة، وهذا ما كان مصير 45 هدفاً، أي بنسبة قاربت 50 في المئة. المستوى الثالث إلحاق "أضرار بسيطة"، وهو ما تم إلحاقه بالأهداف المتبقية، أي 23 هدفاً تشكل نسبة 20 في المئة. - هذه الأهداف هي جزء من قائمة تشتمل على 250 هدفاً عراقياً اشتملت عليها الحملة. وعلى أي حال، يتضح أن الدوائر العسكرية والسياسية الأميركية والبريطانية حرصت هذه المرة على تجنب "أخطاء حرب الخليج"، التي اتسمت فيها التقديرات التي تناولت حجم الخسائر العراقية وتقويمات نتائج العمليات العسكرية بقدر كبير من التبجح والمبالغة. بل كان ملاحظاً أن التصريحات الرسمية اتسمت بالتحفظ في الحديث عن "الانجازات" المفترضة، وفي التشديد على "الطبيعة المرحلية" للعملية، و"المدى البعيد" المحدد لها حتى تتمكن من بلوغ أهدافها النهائية. مؤشرات المرحلة التالية ويشكل هذا التحفظ مؤشراً الى الخطط التي تحتفظ بها واشنطن ولندن لاستئناف الهجوم عندما يحين الوقت المناسب لذلك. أما المؤشر الآخر، والأكثر دلالة، فهو استمرار عملية الحشد العسكري الأميركي والبريطاني، فالولاياتالمتحدة تعمل بسرعة على مضاعفة حجم الوحدات الهجومية المرصودة لمسرح العمليات العراقي، حيث وصلت بالفعل الى المنطقة خلال الأيام الماضية حاملة الطائرات الأميركية الثانية كارل فنسون وعلى متنها 72 طائرة قتالية من طرازي "ف - 14 تومكات" و"ف - 18 هورنت"، ومعها قوة العمليات البحرية الملحقة بها التي تشتمل على 7 قطع قتالية رئيسية قاذفة للصواريخ، ما سيرفع عدد السفن الأميركية في مياه الخليج الى 15 سفينة ونحو 4-5 غواصات مجهزة جميعها لاطلاق صواريخ "توماهوك" الجوالة، ويعيد مجموع المخزون الأميركي من هذه الصواريخ في المنطقة الى ما كان عليه قبل بدء العمليات، أي نحو 500 صاروخ. كما قررت واشنطن تخصيص "قوة عمليات جوية" ثانية تشتمل على نحو 120 طائرة قتالية، بما في ذلك 15 قاذفة استراتيجية ثقيلة أخرى من طراز "ب - 52" و12 قاذفة استراتيجية ثقيلة لا يكتشفها الرادار ستلث من طراز "ب - 2 سبيريت"، التي ستشهد في حال اندلاع المواجهة المرتقبة أول استخدام عملياتي لها منذ دخولها الى خدمة القوات الجوية الأميركية في أواسط التسعينات. وسيكون في عداد هذه القوة أيضاً 12 قاذفة هجومية أخرى لا يكتشفها الرادار ستلث من طراز "ف - 117 نايت هوك"، ونحو 75 مقاتلة من طراز "ف - 15 إيغل" و"ف - 15 إي سترايك إيغل" و"ف - 16 فالكون". ومن ناحيتها، قررت بريطانيا ارسال حاملة الطائرات "إنفينسيبل"، وعلى متنها 15 مقاتلة عمودية من طراز "هاريير" و"سي هاريير"، ورفع عدد مقاتلات "تورنادو" التي تحتفظ بها في المنطقة الى 24 طائرة، وربما اضافة عدد من مقاتلات "جاغوار" اليها أيضاً. ومع التعزيزات الجارية لحشد المزيد من القوات، فإن المنتظر أن يصل مجموع هذا الحشد العسكري الغربي بحلول نهاية شهر رمضان المبارك الى نحو 50 ألف جندي و400 طائرة قتالية و3 حاملات طائرات و25 قطعة بحرية قتالية رئيسية و700 صاروخ جوال كروز تطلق من الجو والبحر. واللافت ان هذا المستوى من القوات كان أصلاً الحجم المحدد لتنفيذ "الحملة الهجومية الاستراتيجية" التي خططت ضد العراق منذ "أزمة القصور والمقرات الرئاسية" التي اندلعت في شباط فبراير الماضي وحال الاتفاق الذي توصل اليه آنذاك السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي انان مع القيادة العراقية دون تحولها الى مواجهة عسكرية شاملة في حينها. ان امكان التوصل الى خروج ديبلوماسي آخر من المأزق الحالي تبدو محدودة. والثابت في المعادلة القائمة، انه ما لم تسفر المساعي الهادئة طريق وسطاء عرب ودوليين، بما في ذلك فرنسا وروسيا، عن نتائج ايجابية خلال الأسابيع المقبلة، فإن وقف العمليات العسكرية لن يكون أكثر من "هدنة رمضانية" يعقبها استئناف العمليات الهجومية في ما ستشكل عندئذ المرحلة الثانية من "ثعلب الصحراء"، وربما مراحل لاحقة أخرى لن تنتهي أو تتوقف إلا مع تحقيق "الهدف الاستراتيجي" الشامل المحدد لهذه العملية، والذي لا يبدو أنه سيكون مرشحاً للتغيير مستقبلاً .