تستطيع ادارة الرئيس بيل كلينتون اللجوء الى استخدام وسائل وأساليب عدة لتنفيذ عمليات هجومية ضد العراق في حال رست الامور على "الخيار العسكري" كطريقة وحيدة، وربّما أخيرة، للتعامل مع بغداد في ضوء الازمة الحالية والتصعيد الناجم عن قرار نظام الرئيس صدام حسين عدم السماح للمفتشين الاميركيين بالعمل في صفوف فرق المراقبة الدولية المكلّفة بالتحقّق من المخزونات التي يفترض ان تكون لا تزال موجودة لدى العراق من اسلحة الدمار الشامل وذخائرها الصاروخية والكيماوية والبيولوجية. وعلى رغم ان مساعي اللحظة الاخيرة كانت لا تزال قائمة حتى نهاية الاسبوع الماضي لتفادي المواجهة، فان احتمالات توصّل الادارة الاميركية الى قرار توجيه ضربة عسكرية، او حتى مجموعة من الضربات، لا تزال ماثلة بقوة. ويبدو واضحاً الآن ان الرئيس كلينتون يفضّل اعطاء المساعي الديبلوماسية التي تتركّز حالياً على الاممالمتحدة وأمينها العام كوفي انان، فرصة للنجاح، وربما كان ذلك في نظر مصادر ديبلوماسية عربية ودولية نابعاً من رغبة واشنطن بتجنّب اثارة هزّات سياسية وعسكرية في المنطقة عشية انعقاد مؤتمر الدوحة الاقتصادي وخلاله. كما انه قد يعكس، في الوقت نفسه، اهتمام الرئيس الاميركي بعدم الظهور بمظهر العازم على اللجوء الى القوة العسكرية قبل استنفاد الوسائل السياسية. ويحظى هذا الجانب بالذات من جوانب الازمة الحالية بأهمية خاصة في واشنطن، نظراً للتحفظات الشديدة التي اعربت عنها دول خليجية وعربية عدة، الى جانب كلّ من فرنسا وروسيا والصين، حيال القيام بعمل عسكري اميركي أو دولي جديد ضد بغداد. وفي المقابل، فان تنفيذ واشنطن عملاً كهذا لن يحظى، على ما يبدو، إلا بتأييد بريطانيا التي اعلنت حكومتها العمّالية على لسان رئيسها طوني بلير عن استعدادها للمشاركة في أي هجمات قد تقرّر الولاياتالمتحدة شنّها ضد الاهداف العراقية. وقد يتغيّر هذا الموقف في حال وصول الجهود الجارية حالياً الى طريق مسدود. وفي هذه الحال سيصبح بمستطاع واشنطن انتزاع موافقة رسمية من جانب الاممالمتحدة على "الترخيص" بالقيام بعمل عسكري ضد بغداد، ليصبح مثل هذا العمل تعبيراً عن "قرار دولي" عوضاً عن ان يكون مجرّد خطوة اميركية منفردة. وعلى اي حال ستكون هذه هي المرة الرابعة، منذ انتهاء حرب الخليج العام 1991، التي تشنّ فيها القوات الاميركية ضربة عسكرية على العراق. وكما في المرّات السابقة، فان المرجح ان يقع اعتماد واشنطن لتنفيذ هذه الضربة على وحداتها الجوية والصاروخية في المنطقة. لكنّ ذلك لا ينفي احتمال اشتمال هذه الضربة، او الضربات، على عناصر وأساليب اخرى تستطيع القيادة الاميركية اللجوء اليها اذا أرادت. الخيارات الاميركية المتاحة ويصعب التكهّن في الوقت الحاضر بحجم العمل العسكري الذي قد تقرّر واشنطن القيام به، او بالنطاق الذي سيشمله هذا العمل اذا نفذ فعلياً. وتراوح الخيارات الاميركية المتاحة في هذا المجال من مستوى ادنى يقتصر على شن غارة جوية او صاروخية، او مجموعة من هذه الغارات، على اهداف عراقية محدّدة تتسم بقيمة عسكرية او سياسية او معنوية عالية، الى مستوى اقصى قد تتخذ معه العمليات الاميركية شكل حملة جوية وصاروخية هجومية واسعة النطاق وتمتد على فترة زمنية متوسطة او بعيدة الاجل. كما قد يشتمل النشاط العسكري الاميركي، في مثل هذه الحال، على عمليات هجومية ذات طابع خاص تنفّذها وحدات مختارة من قوات النخبة، مثل كوماندوس الجيش وسلاح البحرية، في عمق الاراضي العراقية، وحتى داخل العاصمة بغداد والمناطق المحيطة بها، ضد اهداف ومنشآت حيوية تؤدي مهاجمتها وتدميرها الى الحاق ضرر معنوي كبير بالنظام العراقي. وإذا كانت المعلومات الاستطلاعية متوافرة بدقّة، وهو ما يعمل الاميركيون على الارجح على تجميعه حالياً بواسطة الطلعات التي تقوم بها طائرات "ت. ر - 1" وهي طراز محدّث ومحسن من طائرات "يو - 2" الاستطلاعية الشهيرة التي كانت تقوم بهذه المهمات ابان الحرب الباردة، فسيكون بمستطاع واشنطن اختيار مجموعة واسعة من الاهداف العراقية المنتقاة. وعلى رغم ان بغداد هددت مراراً باسقاط هذه الطائرات عندما تحلّق في اجوائها، فانها لم تعمد الى التصدي لها حتى الآن متذرعة بأنها تحلّق خارج اطار عمل أنظمة دفاعها الجوية المضادة. لكن هذا التفسير غير مقنع تماماً، لأن هذه الطائرات تحلّق عادة على سرعات وارتفاعات يفترض ان تكون الدفاعات الجوية العراقية قادرة على الوصول اليها بسهولة نسبية. فسرعة هذه الطائرة لا تزيد عن 0.8 ماك حوالى 800كلم / ساعة، ويبلغ ارتفاعها العملي نحو 22 ألف متر 70 ألف قدم. ومعروف، في المقابل، ان بغداد نجحت خلال السنوات الماضية في إعادة تأهيل جزء لا يستهان به من انظمة دفاعها الجوي التي لحقت بها اضرار بالغة خلال حرب الخليج. وتشتمل هذه الانظمة التي يستطيع العراقيون تشغيلها حالياً على طرازات عدة من الصواريخ السوفياتية، مثل "سام - 2" الذي يصل مداه الى حوالى 75 كلم ويصل ارتفاعه الى 100 ألف قدم وهو الطراز نفسه الذي اسقط طائرة "يو - 2" فوق الاراضي السوفياتية مطلع الستينات، و"سام - 3" الذي يصل مداه الى حوالى 50 كلم وارتفاعه الى 60 ألف قدم، و"سام - 6" الذي يصل مداه الى 35 كلم وارتفاعه الى 100 ألف قدم. كما يستخدم العراق صواريخ فرنسية من طراز "رولاند" يصل مداها الى 20 كلم وارتفاعها الى 30 ألف قدم. وحدات جاهزة للعمل وفيما يعتبر معظم العناصر المكوّنة لهذه الشبكة الدفاعية قديماً نسبياً، فانها لا تزال على قدر من الفاعلية يمكّنها من التصدي لطائرات "ت. ر - 1" يو - 2 واسقاطها. لكن المرجح ان القيادة العراقية تجنّبت ذلك حتى الآن على اقل عدم توفير الذرائع لواشنطن للردّ بعمليات انتقامية واسعة. وتحتفظ الولاياتالمتحدة في المنطقة حالياً بوحدات عسكرية تتيح لها تنفيذ هجمات جوية وصاروخية حتى مستوى الحد الاقصى اي حملة هجومية مركزة ومستمرة على فترة زمنية متوسطة او طويلة الاجل. فالى جانب حاملة الطائرات "نيميتز" الموجودة في مياه الخليج، هناك قوات جوية اميركية منتشرة بشكل دائم أو دوري في دول عدة محيطة بالعراق. وهناك ايضاً سفن اميركية، في كل من الخليج وشرقي البحر الابيض المتوسط، مجهّزة بصواريخ هجومية جوّالة كروز تستطيع الوصول من مواقع اطلاقها الى اهدافها في عمق الاراضي العراقية. واضافة الى هذه القوات في المنطقة، تستطيع القيادة الاميركية استخدام قاذفات استراتيجية بعيدة المدى في عمليات قصف انطلاقاً من قواعدها في الولاياتالمتحدة، على ان تزود وقوداً اثناء التحليق، تماماً كما حصل اثناء حرب الخليج. وتعتبر "نيميتز" اكبر حاملات الطائرات العاملة في الاسطول الاميركي حالياً، اذ تبلغ زنتها القياسية 95 ألف طن، وتنطلق منها طائرات مقاتلة وقاذفة يصل عددها الاقصى الى ما يراوح بين 80 و90 طائرة، علماً بأنها تحمل في الظروف العادية 18 مقاتلة اعتراضية من طراز "ف - 14 تومكات" و36 مقاتلة متعددة الاغراض لمهمات الاعتراض والهجوم من طراز "ف - 18 هورنت". وتشمل وحدات سلاح الجو الاميركي العاملة في المنطقة نحو 200 طائرة مقاتلة وقاذفة تضم مقاتلات اعتراضية من طراز "ف - 15 ايغل"، ومقاتلات هجومية من طراز "ف - 15 إي سترايك ايغل"، ومقاتلات متعددة الاغراض من طراز "ف - 16فالكون"، ومقاتلات هجومية لا يكتشفها الرادار ستلث من طراز "ف - 117 نايت هوك". وهناك معلومات غير مؤكدة عن ان الاميركيين يحتفظون في احدى دول المنطقة بعدد قليل من قاذفات "ب - 1" الاستراتيجية البعيدة المدى، الى جانب امكان استخدام قاذفات "ب - 52" الاستراتيجية البعيدة المدى التي تستطيع الوصول الى العراق انطلاقاً من قواعدها في الولاياتالمتحدة بعد تموينها جوّاً بالوقود. واضافة الى حمل قنابل وقذائف موجّهة بدقة من طرازات عدة، تستطيع قاذفات "ب - 52" و"ب - 1" ايضاً حمل صواريخ هجومية جوّالة كروز من طراز "أ. ل. سي. م"، وهي صواريخ جو - سطح يصل مداها الى حوالى 1250 كلم وتتميز بدقة عالية. وتنطبق هذه الصفة على الصواريخ الهجومية الجوالة كروز من طراز "توماهوك"، وهي صواريخ سطح - سطح تطلق من السفن والغواصات ويصل مداها ايضاً الى نحو 1250 كلم. وتضاف الى هذه الوحدات الاميركية قوات سلاح الجو الملكي البريطاني التي قد تشارك معها 14 مقاتلة هجومية من طراز "تورنادو". وبفضل هذه الوحدات الجوية والصاروخية، سيكون متاحاً للادارة الاميركية الاختيار من مجموعة واسعة من البدائل والأساليب العسكرية التي تستطيع من خلالها اتّباع "استراتيجية متدرجة" في تصعيد عملياتها الهجومية ضد العراق حسبما تدعو الحاجة، بدءاً من الهجمات الجوية والصاروخية الآنية والمحددة، وصولاً الى شن حملة جوية وصاروخية هجومية شاملة على مدى ايام وحتى اسابيع عدة. وستكون الاهداف العراقية التي قد تتركّز عليها هذه الهجمات الاميركية منتقاة على اساس الاهمية، وانطلاقاً من مدى توافر المعلومات الاستطلاعية في شأنها. وقد تشمل، كما هو مرجح، منشآت عسكرية وسياسية، مثل مقرّات الرئيس العراقي وحزب البعث الحاكم واجهزة الامن والمخابرات، ومراكز تجمّع القوات العسكرية، والقواعد الجوية، وانظمة الدفاع الجوي والمحطات الرادارية الملحقة بها، والمخابئ التي يعتقد ان بغداد تستخدمها لتخزين ما تملكه من أسلحة الدمار الشامل كالصواريخ الباليستية ارض - ارض والذخائر الكيميائية والبيولوجية. لكن مهاجمة هذه المنشآت المفترضة تستدعي اولاً التحقق من اماكن وجودها والتأكد من طبيعة استخداماتها ونوعية المواد والمعدات الموجودة فيها، وهو أمر لا يبدو انه توافر بدقة لدى الجانب الاميركي والدولي، على الاقل حتى الآن. بين الاحتمالات والمفاجآت اما الاحتمال الذي يمكن استبعاده من المعادلة العسكرية في المرحلة الحالية، فهو استخدام القوات البرية. فمثل هذا الاستخدام يحتاج الى فترة اعداد وحشد وانتشار وتمركز تستغرق وقتاً طويلاً. وعلى رغم ان الولاياتالمتحدة حرصت خلال الفترة التي اعقبت حرب الخليج، على اقامة تسهيلات ومنشآت تخزين مسبق في دول عدة في المنطقة، واحتفظت فيها بمعدات واسلحة وذخائر تكفي لتزويد تشكيلات رئيسية من الوحدات البرية القتالية، من دروع ومشاة ومدفعية وعناصر دعم واسناد لوجستي، بهدف اختصار الفترة الزمنية المطلوبة لتأمين ضرورات التدخل السريع للقوات البرية عندما تبرز الحاجة الى استخدامها، فان الوضع الحالي لطبيعة الانتشار العسكري الاميركي في المنطقة لا يسمح بتنفيذ اي عمل قتالي برّي واسع النطاق. بل ان التخطيط لعمل من هذا النوع سيحتاج اسابيع عدة، وربما اشهراً، مثلما كان الحال إبان عملية الاعداد التي سبقت حرب الخليج واستغرقت نحو 6 أشهر. وهكذا، فان ترجيح قيام الولاياتالمتحدة بعمل هجومي ضد العراق في الظروف الحالية، لا بد من ان يظل مقتصراً على احتمالات العمليات الجوية والصاروخية، وعلى ان يتم تنفيذ هذه العمليات بشكل متدرّج ومنهجي تمليه الاعتبارات السياسية والعسكرية على حد سواء. وسيكون مرجّحاً ايضاً ان تراعي واشنطن، عند تنفيذها مثل هذه العمليات، اعتبارات الظهور بمظهر الحريص على ممارسة "ضبط النفس" والمهتم بتجنب تصعيد الموقف العسكري اكثر مما تدعو الحاجة. وستظل هذه السياسة سمة الموقف الاميركي والدولي الا اذا عمدت بغداد الى خطوات مفاجئة من شأنها مفاقمة الموقف ودفعه خارج نطاق السيطرة. ومع ان مثل هذا الاحتمال وارد من حيث المبدأ، فانه يظل غير مرجح، بل مستبعد الى حد كبير. لكن المفاجآت في ازمة كهذه تظل دائماً واردة، لا سيما من جانب القيادة العراقية التي لم تتردد في الماضي في اعتمادها اسلوباً وطريقة في التعامل مع الظروف المحيطة بها. لهذا يبقى احتمال المفاجآت ماثلاً حتى إشعار آخر .