يستمد العام المقبل اهمية من انه يحضر للعام الفين. لذا من المتوقع ان يشهد العالم تكاثر التوقعات الرؤيوية التي تزدهر عند منعطفات القرون فكيف اذا تطابقت مع الفية جديدة. السباق محموم في العواصم الغربية الكبرى للاحتفال بهذا الموعد التاريخي بعد سنة. نيويورك تستعد. كذلك لندن. باريس تراهن على جاذبيتها الخاصة. روما تعتقد انها اولى بأن تكون الأكثر حضوراً طالما انها تحتضن عاصمة الكثلكة، وان الاحتفال ميلادي. اما برلين فلها قصة اخرى. فهي ستشهد في 1999 انتقال الادارة الحكومية اليها لتستعيد وضعها السابق بصفتها عاصمة المانيا الموحدة. ولكن يبقى من الظلم للسنة الجديدة النظر اليها بصفتها مجرد مقدمة لأخرى تليها زمناً وتفوقها "أهمية". سيشهد اليوم الأول من 1999 حدثاً استثنائياً ولو انه غير ملموس كفاية سيولد "كائن" جديد يبقى محصوراً في دوائر مغلقة لن تمنعه من التأثير على احوال العالم. هذا الكائن اسمه "يورو" وهو كناية عن عملة موحدة تعتمدها احدى عشرة دولة اوروبية غربية في معاملاتها التجارية والبنكية. ومع ان الولادة طبيعية فان الحدث استثنائي اذ لم يسبق، في التاريخ، ان تخلى عدد مماثل من الدول عن حقه السيادي في صك العملة. ويفترض بالمولود الجديد، اذا سار كل شيء على ما يرام، ان يهدد الدولار اساساً، والين استطراداً، طالما ان اقتصاديات الدول المشاركة فيه تقارب الاقتصاد الاميركي وتتفوق على الياباني. ثمة شكوك تحيط بهذا الوافد خصوصاً في بريطانيا التي قررت ان تنتظر لترى. الا ان هذه الشكوك تتجاوز الجزيرة لتطال البر الأوروبي. فثمة قناعة لدى عواصم الاتحاد الرئيسية بأن هذه الولادة تتم في ظروف صعبة. لن تكون نسبة النمو عند الحدود التي قدرتها المؤسسات الدولية. ومع ان هذه الاخيرة مستمرة في مراجعة حساباتها باتجاه التخفيض فان التشاؤم ما زال مسيطراً والمخاوف كبيرة. صحيح ان توحيد العملة يؤمن قدراً من الاستقرار في سوق القطع لكن الصحيح ايضاً انه ينقل المنافسة الى حيز آخر. وبهذا المعنى ستجد الدول الأوروبية الرئيسية نفسها امام امتحان صعب. فللمرة الأولى في تاريخها تكون المانيا وفرنسا وايطاليا وبريطانيا محكومة من قوى يسارية متفاوتة الجذرية. وللمرة الأولى، بالتالي، ستكون مضطرة، في بحر العام، الى تقديم الجواب على السؤال الذي يقلقها: هل تملك نموذجاً تقدمه يجمع بين الانتاجية والعدالة ام ان المثال الانغلوساكسوني سيجتاح القارة ضارباً دولة الرعاية، او ما تبقى منها، ومقتحماً سوق العمل، وفاتحاً الحدود امام تصوير الازمات واستيرادها؟ لقد ارتأى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ان الخيار هو في مكان آخر اسماه "الطريق الثالث". وبدا، لوهلة، ان المستشار الألماني الغربي الجديد غيرهارد شرودر يوافقه الرأي مقترحاً اسم "الوسط الجديد". الا ان السجال لم يحسم بعد في بون وليس معروفاً من الذي سيحظى بالغلبة الايديولوجية: ليونيل جوسبان ام بلير؟ يبدو ان 1999 سيكون عاماً اوروبياً. ففي مطلعه سيقرر الاتحاد تعيين ناطق باسمه حول القضايا الدولية. وإذا كان ذلك بديلاً عن "السياسة الخارجية المشتركة" فانه بديل سيواجه صعوبات شهدنا جانباً منها في تبعثر المواقف حيال "ثعلب الصحراء" في نهاية 1998. وفي منتصف العام يفترض بالأوروبيين حسم النقاش حول تمويل موازنة الاتحاد ووضع الجدول الزمني لانضمام دول جديدة قبل ان يتوجهوا الى انتخاب البرلمان الأوروبي. في شهر نيسان ابريل القادم سيكون القادة الأوروبيون في واشنطن للاحتفال بالذكرى الخمسين لتأسيس حلف شمال الاطلسي. جدول الأعمال حافل طالما انه يتضمن البت بالعضوية الجديدة لهنغاريا وبولونيا وتشيكيا والنظر في وظائف الحلف وتمويله وتسليحه ودوره. الا ان المهم في ذلك ان المناسبة هي مرآة تعكس العلاقات بين الدول الأوروبية نفسها، وبينها وبين الولاياتالمتحدة، والموقع الاجمالي لهذه الاخيرة. لقد اختتم العام 1998، اميركياً، على مشهد متناقض: الضربات الجوية على العراق، تصويت مجلس النواب على عزل الرئيس بيل كلينتون، ظهور معالم التباطؤ في نمو الاقتصاد. وعلى هذا الأساس فان الشهور المقبلة يمكن لها ان تكون شهوراً مضنية في الولاياتالمتحدة. فمحاكمة الرئيس امام مجلس الشيوخ قد تمتد شهوراً مع ما يعنيه ذلك من سجالات حامية تعكس في الوقت نفسه القوة الخاصة للديموقراطية الاميركية وابتذال النقاشات التي قد تشغلها وتستنزفها. ما زال الرأي العام الاميركي مؤيداً بقوة لرئيسه ومعجباً بادارته لشؤون البلاد. ولذا فان السؤال المطروح يتناول ما اذا كان التباطؤ الاقتصادي سيرتد تحولاً في المزاج العام. اذا حصل ذلك فسنكون أمام نتيجتين. الأولى سياسية والثانية اقتصادية. سياسياً سيعني ذلك ضعفاً في هيبة الرئيس ونفوذه خصوصاً انه محروم من اكثرية تشريعية. وبما ان وضع الرئيس الروسي بوريس يلتسن ليس معرضاً لأي تحسن في 1999، وبما ان روسيا متجهة الى انتخابات "دوما" جديدة، فان هناك احتمالاً بأن يعيش العالم نوعاً من الفراغ في القمة خصوصاً ان اوروبا عاجزة عن ملء الفراغ. اقتصادياً سيقود ذلك الى استحضار شبح الركود. لقد شهد النصف الثاني من 1997 اندلاع الازمة المالية الآسيوية. غير ان العام 1998 تحول الى عام الازمة المالية شبه الدولية. لقد توقف النمو الياباني، وعرفت النمور والتنانين نمواً سلبياً، واضطربت اسواق اميركا اللاتينية، وأعلنت موسكو افلاسها. ولقد انعكس هذا كله سلباً على الاقتصاد العالمي كله - بما في ذلك اسعار النفط نتيجة تراجع الاستهلاك - وبات يهدد المواقع الرئيسية فيه. ولما حاول صندوق النقد الدولي ان يلعب دور الاطفائي تبين انه يصب زيتاً على النار الامر الذي دعا قادة الدول الكبرى الى البحث عن صيغة جديدة لاحياء مؤسسات بريتون وودز. بقي الأمل معلقاً على الاقتصاد الاميركي الذي يمكنه ان يلعب، بسبب حجمه، دور القاطرة العالمية. غير انه اخذ يتراجع بعد سبع سنوات متتالية من النمو. واذا استمر هذا الاتجاه في 1999 وتفاقم فان موجة مرتدة تهدد بضرب الحد الادنى من النهوض الذي شرعت تعرفه بلدان اجتاحها الاعصار. ان تراجعاً اميركياً، اذا انعكس ضعفاً في الاستهلاك والاستيراد، يجعل من الصعب على اليابان تجاوز المأزق الذي تعيشه والذي يكلفها، لاصلاح النظام المالي فحسب، مئات البلايين من الدولارات. وإذا انتكس الوضع الياباني فان الدول الآسيوية الاخرى لن تحسن الاقلاع. ويمكن، اذا احتشدت هذه الشروط، ان تأتي المشكلة من الصين.فبكين التي ستحتفل في العام 1999 بالذكرى الخمسين لثورتها الشيوعية ستجد نفسها في موقع غريب فعلاً: مسؤولة رئيسية عن انقاذ النظام الرأسمالي في العالم. لقد نجت من آثار الازمة الآسيوية، وارتضت ان تدفع ثمن ذلك تراجعاً في حصصها التعددية وفي نسبة نموها، غير ان بعدها حدوداً. فهي ان لم تتحمل وقررت تخفيض عملتها لتكسب في الاسواق الخارجية، ومنها اليابانية والاميركية، فانها ستكون اطلقت دورة جديدة من التراجع الاقتصادي المفتوح على احتمالات "الأزمة الكبرى". في وضع رجراج من هذا النوع يصعب توقع ارتفاع في سعر النفط وبالتالي في المداخيل العربية. صحيح انه يجب انتظار السياسة الجديدة للرئيس الفنزويلي غير ان "الارادوية" لا تكفي وحدها في هذا المجال. وإذا كان النفط الرخيص يعني مشكلة بالنسبة الى دول عربية عديدة فانه يعني، بالنسبة الى بلد مثل الجزائر، كارثة. يفترض بالانظار ان تتوجه في 1999 الى الجزائر التي ستشهد انتخابات رئاسية مبكرة. يمكن القول، الآن، ان الاحتمالات مفتوحة. ولكن الذاكرة حاضرة لتعيدنا الى ما جرى مطلع التسعينات حين جرى التدخل العنيف لمنع تداول السلطة وهو الامر الذي ادى الى الاهوال المعروفة. والنفط، ايضاً، شديد الصلة بالمصير العراقي. فهذا البلد سيكون في الشهور المقبلة في قلب الاحداث. لقد انتهت عملية "ثعلب الصحراء" من دون نتائج حاسمة. وبات واضحاً ان واشنطنولندن قررتا التدخل المباشر وغير المباشر من اجل تغيير نظام الحكم عبر اضعاف ركائز السلطة ودعم المعارضات. وليس من باب المبالغة القول بأن الملف سيكون مفتوحاً في 1999 وربما بعد ذلك وانه من الصعب توقع الافضل. وما يزيد في غموض المستقبل العراقي المباشر غموض المآل الذي سترسو عليه الاحوال الايرانية. ستشتد التحديات التي تواجه "الخاتمية" سواء في توجهاتها الداخلية او الخارجية وقد بدأت النذر تتجمع في 1998، وفي اواخرها تحديدا، موحية بأن 1999 سيكون عاماً ساخناً في ايران وفي تركيا التي ستشهد انتخابات مجهولة النتائج وفي محيطها الاقليمي. يصعب الحديث عن العام 1999 من دون ذكر هذا التاريخ: 4 ايار مايو، فهذا اليوم كان، مبدئياً، الموعد المضروب لانتهاء المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية حول قضايا الحل الدائم. وقد تحول، في الشهور الاخيرة، الى الموعد الذي حدده الرئيس ياسر عرفات لاعلان الدولة الفلسطينية. لقد استخدم ياسر عرفات هذه الورقة للضغط على الاسرائيليين والاميركيين الذين سارعوا الى عقد مفاوضات واي بلانتيشن التي انتهت باتفاق. غير ان التطورات اخذت، بسرعة، مجرى آخر. فالتحديات التي واجهها رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بقيت قيد الضبط اما تلك التي نهضت في وجه رئيس الوزراء الاسرائيلي فمن نوع آخر. لقد حاول استيعابها بادئ ذي بدء بتبني مواقف الغلاة ورافضي الاتفاق غير ان ذلك اضعفه حيال المعسكر الآخر. لقد اختتم العام 1998 على تخبط في اسرائيل واتفق على اجراء انتخابات مبكرة ولذا فانه يصعب توقع الوجهة السياسية في العام 99. اي، بكلام آخر، ليس معروفاً من يكون في السلطة في 4 ايار مايو. الا ان ما هو مؤكد هو ان مفاوضات الوضع النهائي لن تكون استكملت في هذا التاريخ. الامر الذي يعطي عرفات قوة الاختيار: هل ينوي استمرار الشراكة وربط "الدولة" بنتائج المفاوضات، ام يضع اسرائيل والعالم كله امام امر واقع جديد. سيكون للعام 1999 طعم خاص اذا شهد ولادة الدولة الفلسطينية.. فهي ستواجه صعوبات جمة بالتأكيد ولكنها قد تكسب جائزة ترضية: الاشراف على الميلاد الاخير في الالفية الثانية في مدينة شديدة الارتباط بهذه الذكرى، بيت لحم!