من احدى القرى الريفية في منطقة بيريغور الفرنسية خرجت كريستين ديفييه جونكور، الى مدينة سارلا الصغيرة حيث التقت سليل احدى العائلات النبيلة. حملت منه واضطرت لأن تتزوجه وسط امتعاض اهلها الذين ينتمون الى اليسار وأهله الذين ينتمون الى اليمين. مع جان جاك دوبيريتي انتقلت الى باريس واصبحت اماً لطفل، ثم انفجر زواجها من دوبيريتي الذي سيصبح في ما بعد وزيراً في حكومة آلان جوبيه. اما اسم جونكور الذي ما زالت تحمله حتى الآن فيعود الى زوجها الثاني كلود جونكور، الذي كان مدير فرع احدى الشركات الملحقة بشركة طومسون الشهيرة. ومنه ايضاً جاء ابنها الثاني. وفي منزله تعرفت الى مدير لاحق في شركة "ألف اكيتان" النفطية ومن ثم الى وزير الخارجية السابق ورئيس المجلس الدستوري الراهن المحامي رولان دوما، ومن هذه العلاقة سيخرج كتاب "زانية الجمهورية" الذي تروي فيه كريستين دوفييه جونكور فصلاً من سيرة حياة فتاة قذفتها الصدف الى معلب الكبار وكان عليها ان تكافح كي تبقى فيه، وهي لا تملك من الوسائل غير إرث زواج من رجل لا يكف عن الصعود، ومن آخر يبحث عبثاً عن قمة كبيرة في هرم الشركات الفرنسية، فضلاً عن جمالها وحداثة سنها بالقياس الى شيوخ السياسة والمال الذين يعيشون الهزيع الاخير من اعمارهم. واذا كانت هذه هي العناوين العريضة لآخر الفضائح الفرنسية المدوّية، فإن تفاصيلها لا تكف عن اثارة فضول جمهور يتطلع الى معرفة المزيد عن الحياة الخاصة لشخصية سياسية مهمة، خصوصاً ان هذه التفاصيل حصيلة تصادم الجنس والسياسة والاعمال والصفقات والعمولات، وهي العناصر التي تشكّل المشهد اليومي تقريباً في فرنسا وفي الدول الغنية. والراهن ان "فضيحة" كريستين دوفييه جونكور ما كان لها ان تبلغ هذا الحجم لولا الاجواء الدولية الناتجة عن انتشار فضيحة مونيكا لوينسكي الاميركية على المسرح الدولي، وانشداد انتباه العالم بأسره نحو تفاصيلها والسعي المحموم لمعرفة خفاياها. ولعل الذين دفعوا السيدة جونكور لنشر كتابها "زانية الجمهورية" كانوا يدركون ان اوجه التشابه بين الفضيحتين مهمة وان لم تكن كاملة. فالرئيس كلينتون يغوي النساء ورولان دوما يتمتع بالهواية نفسها وكلاهما يحتل موقعاً في السلطة على قياس حجمه وحجم بلاده. والسيدة جونكور كالآنسة لوينسكي، لاعبة ليست موهوبة، وتقتصر حسناتها على خصوصيتها النسائية! وكلا القضيتين تهدف الى تحطيم شخصية سياسية. في اميركا حمل كلينتون على الاستقالة وفي فرنسا التخلص من آخر الاصدقاء المخلصين لفرنسوا ميتران، وازاحة خامس شخصية في الدولة الفرنسية من منصبه الذي يعتبر حاسماً في بلد يصحو وينام على وقع التدخلات القضائية في الحياة السياسية. لكن هل تفشل فضيحة جونكور في اطاحة دوما كما فشلت فضيحة لوينسكي في اطاحة كلينتون؟ تروي السيدة جونكور ان علاقتها برولان دوما نشأت اولاً على قاعدة يسارية، فوالداها ينتميان الى التيار الاشتراكي كغالبية المدرسين الفرنسيين، وقد اختار دوما مدينة سارلا لمنافسة زوجها السابق جان جاك دوبيرتي الذي اصبح عمدة للمدينة ويطمح الى تمثيلها في البرلمان الفرنسي. لم يكن دوما يحتاج الى جهد كبير لإقناع جونكور بدعم حملته الانتخابية، فهي لا تكنّ وداً كبيراً لزوجها السابق، وتنتمي اصلاً الى عائلة يسارية، وتتطلع الى الاقتصاص من زوج لم يعتن كثيراً بابنها البكر فريدريك. في المحصلة استطاع دوما ان يهزم "دوبيريتي" وان يفوز بنيابة المدينة وبزوجة المهزوم السابقة. في هذه الاثناء لم تكن السيدة جونكور طليقة اليدين، فزوجها كلود يريد احتلال منصب اداري كبير، وعلى رغم بخله، كان يضطر لإقامة ولائم عامرة بأصداف البحر في منزله واستضافة شخصيات سياسية وادارية كبيرة، من بينها الفريد سيرفان ولوبك لوفلوش - بريجان اللذين كان يعمل معهما في شركة "رون بولانك" المعروفة. وتشاء الصدف ان يحتل الرجلان المنصبين الاول والثاني في شركة "ألف اكيتان" النفطية النافذة . في هذا الوقت كان دوما وزيراً للخارجية 1988 و"… كان زوجي، كلود جونكور، يأمل بالحصول على منصب كبير في ألف اكيتان، وبما انه ساذج فقد روى لألفريد سيرفان انني احتفظ بعلاقة مميزة مع رولان دوما، ودعاه الى عشاء في منزلنا. وكان يقول لي عمرك 40 سنة ولا تحتفظين بثروة ولا بمنصب مهني. اتصلي برولان دوما انها فرصتك الوحيدة. وكان يأمل ان يثمر هذا الاتصال عن تحقيق هدفه اولاً وعن توثيق علاقته بادارة ألف، لكن النتيجة ستكون سلبية بالنسبة اليه، فبعد توثيق علاقتي بدوما لم يعد احد يهتم بالسيد جونكور". وتبرر السيدة جونكور مبادرتها الى الاتصال بوزير الخارجية السابق بنظرتها الى زوجها الثاني "… الذي طرد ابني البكر من المنزل عندما حصل على البكالوريا، ومنذ ذلك الحين قررت ألا ابقى معه، ثم انه لم ير غضاضة في التضحية بزوجته من اجل اهدافه الخاصة، من دون ندم ولا احساس بالكبرياء، لذا عندما طلب مني الاتصال برولان دوما لم اتردد كثيراً، فقد لاحت الفرصة مجدداً لاستقل عنه واستعيد ابني البكر". في هذه الاجواء ارتسمت ملامح صفقة مدهشة. فقد عرض عليها السيد الفريد سيرفان راتباً شهرياً مقداره 51 الف فرنك 10 آلاف دولار على ان تدفع الشركة 11 الفاً في فرنسا و40 الفاً في الخارج، ووضع شقة بتصرفها في احد احياء باريس الراقية ورفض ان "… يعطيني مكتباً في مقر الشركة. اراد ان يحتفظ بي لنفسه وبعيداً عن الأعين. وكانت وظيفتي تقضي بأن اكون صلة الوصل بين وزير الخارجية وادارة ألف اكيتان. فاذا احتاجت الشركة ان يزور فرنسوا ميتران دولة خليجية يتم التفاوض على عقد معها من دون ان يكون الرئيس في وارد زيارة هذه الدولة، كان عليّ ان اقنع دوما بالتدخل لدى رئيسه لهذه الغاية وهو ما تم فعلاً. واذا احتاجت الشركة ان يتدخل وزير الخارجية من اجل قضية تهم "ألف" في هذه الدولة الاجنبية او تلك، كان عليّ ان احمل الملف وطلبات سيرفان الى رولان دوما فيتم ذلك من دون صعوبات" ودائما حسب السيدة جونكور. لكن عملها لم يكن يقتصر على هذا الشكل من اشكال التحرك لمصلحة ألف اكيتان، فغالباً "… ما كنت انظم في منزلي عشاءات لمسؤولين بارزين يريدون اللقاء خارج الاماكن العامة وينتمون الى اتجاهات ودول عدة، وكان سيرفان ينتظرني في مقهى صغير بالقرب من الشقة فما ان يصبح العشاء جاهزاً حتى اترك ادارة المنزل لطاقم من الخدم وانزل الى المقهى ثم اعود الى المنزل لانهي الكأس الاخير مع المدعوين الذين انتهوا من مداولاتهم". وتضيف: "هكذا كان عليّ ان اكون جاهزة لتلبية ما يريده مني سيرفان في اي وقت، وغالباً ما كنت اراه فجأة امام باب شقتي مرتدياً الروب دوشامبر ورائحة سيكاره تحيط بالمكان، ثم يحدثني عن سطوته وقدرته على تحطيم عشر دول دفعة واحدة". بخلاف مونيكا لوينسكي، لا تكشف جونكور تفاصيل علاقتها العاطفية مع وزير الخارجية السابق، بل توحي بها "… كان ذات يوم في منزل اهلي في بيريغور. وفي الثالثة صباحاً رن جرس الهاتف، تناولت والدتي السماعة ثم هرعت الى غرفة رولان دوما وقالت له ان الشخص الذي يريده يتحدث الانكليزية. كان ذلك الشخص جيمس بيكر وزير الخارجية الاميركي السابق وكان يريد ابلاغ رولان دوما تفاصيل مهمة خلال حرب الخليج الثانية". وتروي ايضاً تفاصيل دقيقة عن مواهبه واهتماماته الثقافية واجادته للغات عدة وتعلقه بالفنون وشغفه بزيارة الامكنة والمواقع التاريخية وحرصه على ايجاد الوقت اللازم لتلبية هواياته حتى ولو كانت مواعيده مقفلة تماماً. هكذا كانت تذهب معه لحضور اوبرا في نيويورك ولزيارة موقع تاريخي في اليونان او معرض في المانيا "... لقد كان فعلاً من عمر ابي لكن غوايته لا تقاوم وثقافته ساحرة، فهو حملني على توسيع اطلاعاتي الثقافية المحدودة. كان عليّ ان اجاريه وان ارفع نفسي الى مستوى مدركه". استمرت علاقة دوما بالسيدة جونكور على هذا النحو وخلف الستار حتى العام 1993 عندما التقت بالصدفة "التي توحي بأن كل شيء كان منظماً" احد المسؤولين في شركة طومسون الذي عرض عليها اللقاء مجددا في مقر الشركة وبحضور كبار المسؤولين فيها، وفي هذا اللقاء عرض عليها التدخل لدى وزير الخارجية من اجل عقد صفقة فرقاطات مع تايوان، وقيل لها ان ذلك من شأنه خدمة المصالح الفرنسية، اما لماذا دوما وليس غيره من المسؤولين الفرنسيين، فلأن الصفقة المعينة في حال اتمامها ستؤدي حتماً الى اغضاب الصين . شعرت جونكور بأن القضية جدية للغاية وأكبر منها بكثير وانها سقطت في فخ لا تريده، فبادرت فوراً الى كشف التفاصيل امام الفريد سيرفان المسؤول المباشر عنها في "الف" وبدا لها أولاً انه "مغتاظ" جداً من هذه المبادرة "... حيث بدأ يكيل الشتائم لطومسون ومسؤوليها، وقال لي لا تهتمي بهم". ثم تكررت الاتصالات من طومسون من دون جدوى الى ان غيّر سيرفان رأيه وطلب منها حمل الملف الى دوما بعدما اسرّ لها "... تعرفين يا صغيرتي ان مثل هذه الامور لها ثمن وعمولة ضخمة". وتروي جونكور بقدر من البراءة المصطنعة وبالكثير من التبرير انه كان عليها اطاعة مسؤولها سيرفان، وعليه طرحت القضية على دوما في مكتبه في الكي دورسيه فأجابها بحدة "... ما دخلك انت في هذه القضية. انتِ هنا من اجل إلف اكيتان وليس من اجل طومسون". لكن جونكور كانت تواجه ضغوطاً والحاحاً من مسؤولها المباشر ومن مسؤولي طومسون ثم تعود لطرح الموضوع نفسه مع دوما الذي يقابلها بالرفض وبعبارات جميلة احياناً، ومن دون ان يغضب كان يقفل الموضوع بطرق مختلفة. وتقول السيدة جونكور ان الصفقة وقّعت من دون علمها ومن دون ان يتدخل دوما في الموضوع، وان الامر حسم في لقاء ضم اديث كريسون وميشال روكار والرئيس ميتران وبالتالي لم يكن من حقها ان تقبض عمولة عن هذه الصفقة لأن تدخلها لم يثمر، لكن حجم العمولات الضخم والمقدر بعشرات الملايين من الدولارات ادى الى انفجار القضية علناً، ومع انفجارها جاء سيرفان ذات يوم الى "منزلي وقال لي انه وضع باسمي 45 مليون فرنك في حساب سري في سويسرا لقاء جهودي في هذه القضية. ولم يعبأ بتساؤلاتي حول ما اذا كنت استحق هذه العمولة او لا استحقها". ما تبقى من هذه الرواية بات معروفاً، فقد هرب الفريد سيرفان الى الخارج وحصلت تغييرات اساسية في ادارة الف اكيتان، وظلت كريستين دوفييه جونكور في فرنسا. وبما ان احداً لا يستطيع ان يطال الكبار خصوصاً اذا كان احدهم قد صرح لها بأن لديه القدرة على تحطيم عشر دول دفعة واحدة، فقد تركزت الفضيحة على اسم جونكور وأريد لها ان تكون كبش المحرقة. فهي صديقة دوما وهي التي توسطت وهي التي قبضت العمولة ما يعني ان ادانتها يمكن ان تنهي القضية مع تايوان من جهة، ويمكن من جهة ثانية ان تطيح دوما الاشتراكي وصديق ميتران المخلص الذي يحتل منصباً حاسماً في دولة بات اليمين يحكمها، وفي ظل معارضة اشتراكية يتزعمها ليونيل جوسبان المبتعد عن ارث الميترانية وعن اصدقاء الرئيس الراحل المقربين. اعتقلت جونكور وظلت قيد الاحتجاز الاحتياطي لمدة 6 اشهر. تقول: "... كان يكفي ان اؤكد ان دوما قبض عمولة حتى ينتهي الامر وأعود الى بيتي. لكني لم افعل فالرجل لم يقبض عمولة في هذه القضية والصفقة تمت عندما كان خارج البلاد..." لكن هذا النفي لا يعوّض الاثر السلبي الذي تركه كتابها على سمعة خليلها السابق. خلال الاشهر الستة استطاعت جونكور، كما تروي في كتابها، ان تعيد سيرة حياتها منذ البداية وان تعدّ مادة الكتاب وتستقي عنوانه من احدى الجمل التي وصلتها خلال حديث دار حولها في احد المجالس ووصفت خلاله بپ"زانية الجمهورية"، وهي تبرر صدور الكتاب الذي الحق اذى كبيراً بالسيد دوما بالقول انه لم يسأل عنها وان الجميع ارادوا لها ان تحمل اوزار قضية اكبر منها . عندما وصلته اخبار "زانية الجمهورية" علّق دوما على الكتاب بقوله انه من نسيج خيال المؤلفة اكثر مما هو من الواقع" لكن الكتاب - الفضيحة يلقى رواجاً هائلاً فقد بيعت منه نحو مئة الف نسخة خلال الأيام العشرة الأولى على صدوره، وما يفسر رواجه، عدا عن كونه يتضمن تفاصيل داخلية عن اروقة السلطة وعلاقتها بالجنس والمال، ان الكتاب مصاغ بطريقة اخبارية وبلسان سيدة تقدم نفسها كضحية قادتها الصدف الى ملعب الكبار. غير ان رواج الكتاب يلحق اذى اكيداً بوزير الخارجية الفرنسي السابق ورئيس المجلس الدستوري الحالي ويعرّضه للمزيد من النقد والمساءلة ويوحي بأن ما كشف من تفاصيل في الكتاب ليس كل الحقيقة وان ما خفي منها يدفع نحو تشويق اكبر وفضول لامحدود. ومع استمرار رواج الكتاب ترتفع اصوات من كل صوب مطالبة باستقالة دوما "استقل من منصبك ان كنت اشتراكيا" قال له احد النواب الاشتراكيين في مقال نشرته صحيفة "لوموند". وطالبه بالاستقالة ايضاً الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان "لأن الفضيحة تلحق الأذى بالمؤسسات الجمهورية وحسن ادائها" وفعل ذلك آخرون، ومن المنتظر ان يزداد عدد المطالبين باستقالته. وأغلب الظن ان رئيس المجلس الدستوري، يدرك ان فرنسا ليست الولاياتالمتحدة وان الفضائح الاخلاقية فيها لا تحتل الموقع نفسه الذي تحتله في اميركا، وان صديقه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كشف النقاب عن ابنة غير شرعية قبل وفاته، من دون ان يؤدي ذلك الى صيحات استهجان واستنكار، فكيف اذا كانت فضيحة لوينسكي قد مرت دون اطاحة كلينتون في اميركا نفسها. كل ذلك يعني ان المحامي الجذاب وغاوي النساء والمتعدد العلاقات النسائية خارج الزواج لا يعبأ كثيراً بما ورد في "زانية الجمهورية" ويخشى ان تكون استقالته مقدمة لتحطيمه لأن ملفه لا يتضمن اثباتات دامغة، ما يعني ان بقاءه في منصبه هو افضل وسيلة للدفاع عن نفسه. ويمكن القول في ضوء ذلك ان "الفضيحة" التي يتضمنها كتاب "زانية الجمهورية" مرشحة للاستمرار وهي قد تدخل تاريخ الجمهورية الفرنسية كما دخلت من قبل الماسات جيسكار ديستان، لكن الجمهوريين الفرنسيين، ومن كل الفئات السياسية، يفضلون ان يكون تاريخهم الجمهوري مجرداً من الفضائح التي تظل امتيازاً اميركياً هو في طريقه لأن يصبح نموذجاً يحتذى في عصر يتعولم بسرعة البرق