اتجه الرئيس القبرصي غلافكوس كلاريديس مرة أخرى الى اليونان حيث التقى رئيس الوزراء اليوناني كوستاس سيميتيس على أمل ان يساعده في ايجاد مخرج مشرف لقضية الصواريخ الروسية التي توالى تأجيل تسليمها مراراً ولا يجرؤ حتى الآن اي مسؤول في نيقوسيا أو اثينا على الإعلان صراحة أنها لن تأتي، لأن الطرف الوحيد المستفيد من تسليمها الى قبرص هو تركيا. وقد أعاد اعتقال جاسوسين اسرائيليين في قبرص أخيراً تسليط الأضواء على البعد الاقليمي الذي اتخذته مسألة هذه الصواريخ، التي جعلت اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية تهتم بقبرص نفسها بعد ان ظلت لعشرات السنين ترتاد الجزيرة بحثاً عن العرب. وهكذا تبدو صفقة شراء بطاريات صواريخ "س - 300" من روسيا التي أعلنت في كانون الثاني يناير 1997 بشكل متزايد فشلاً ذريعاً لسياسة الرئيس كلاريديس الذي اعتبر انه بهذه "الصدمة" سيدفع بالمراجع الدولية الى الاسراع في ايجاد حل لتقسيم قبرص التي تحتل تركيا ثلثها الشمالي منذ 1974. وبما ان غلطة الشاطر بألف، فإن كلاريديس 79 عاماً لا يستطيع بسهولة المبتدئين أو هواة السياسة الاعتراف بسوء التقدير بعد ان أعيد انتخابه هذا العام على اساس خبرته السياسية الطويلة التي تجاوزت نصف قرن. عندما أعلنت نيقوسيا عن شراء الصواريخ الروسية بپ420 مليون دولار، بررت أوساط كلاريديس الأمر برغبة الرئيس المعروف بحب المقامرة السياسية في تحريك الملف القبرصي الذي يدور منذ حوالي ربع قرن في حلقة مفرغة، فقبرص ظلت تعلق الآمال على جهود الأممالمتحدة وقراراتها لتوحيد الجزيرة، وتعتمد الاممالمتحدة على واشنطن لإقناع تركيا بتسهيل حل القضية من خلال سحب قواتها والقبول بالحل الذي وافق عليه سنة 1977 الأسقف مكاريوس وزعيم القبارصة الاتراك رؤوف دنكطاش، أي دولة فيديرالية موحدة تضم منطقتين ومجموعتين. واعتبر كلاريديس ان مجرد التهديد بصواريخ أرض - جو روسية سيدفع بواشنطن الى الهرولة الى المنطقة لمنع انفجار الوضع بين تركيا واليونان التي التزمت رسمياً منذ 1993 بالدفاع عن القسم الجنوبيلقبرص في حال تعرضه لأي تهديد تركي. رافقت ذلك ضجة اعلامية ضخمت أهمية هذه الصواريخ التي يصل مداها الى 150 كيلومتراً، واعتبرت الصحافة الاجنبية انها ستشل حركة الطيران التركي في جنوب شرقي المتوسط خدمة لأهداف أثينا. وذهب آخرون الى اعتبار انها تهدف الى قطع التواصل الاستراتيجي بين تركيا وحليفتها اسرائيل وذلك خدمة للعرب، الى ما هنالك من ابعاد شبهت من خلال الصواريخ القبرصية بتلك التي سببت أزمة خليج الخنازير بين كوباوالولاياتالمتحدة في أوائل الستينات. أقامت تركيا الدنيا ولم تقعدها، موحية بأنها مهددة. وانهالت، ومعها دنكطاش، بالتهديدات على القبارصة اليونانيين، وتوعدتهم بأنهم سيدفعون الثمن غالياً مثلما حصل سنة 1974. لكن الولاياتالمتحدة وأوروبا أدانتا هذه التهديدات. ووجد دنكطاش في الصواريخ مهرباً جديداً لعدم المشاركة في أي مفاوضات ترعاها الاممالمتحدة لحل قضية الجزيرة. ولما لم يكفه ذلك، زاد عليه رفضه لمسيرة انضمام قبرص الى الاتحاد الأوروبي ليقاطع منذ لقاءات سويسرا صيف 1997 أي مفاوضات لا تجري على مستوى "دولتين" أي جمهورية قبرص المعترف بها دولياً وجمهورية شمال قبرص التركية... التي لا تعترف بها سوى انقرة. على رغم انه يدرك جيداً ان الاممالمتحدة وأوروبا، وحتى واشنطن، لا تفكر في الاعتراف بدولته، ليس حباً في اليونان ولكن لعدم خلق سابقة قد تؤدي الى قيام عشرات الدول في ظل احتلالات خارجية. واللافت ان تركيا تتعامل مع ملف الصواريخ بشكل ذكي، وان كان كثير التناقض. اذ اقنعت كل دول العالم، باستثناء روسيا واليونان، بأن الصواريخ تهدد أمنها من جنوب الأناضول الى بحر إيجه، وتهدد شمال قبرص. وقال وزير دفاعها وجنرالاتها مراراً ان هذه النقطة في المحيط لن تغير التوازن الاستراتيجي داخل الجزيرة فحسب، حيث يوجد 35 ألف جندي تركي مزودين بأحدث الأسلحة الاميركية، بل بين تركيا واليونان ايضاً. والمعروف ان هذه الصواريخ الدفاعية في جزيرة تفتقر الى سلاح جوي، هي في الحقيقة لحماية قاعدتين بحرية وجوية تنوي قبرص انشاءهما لاستقبال امدادات يونانية في حال نشوب نزاع، عملاً باتفاق الدفاع المشترك بين نيقوسياواثينا 1993. وبعد ان أعلنت أنقرة انها ستنصب صواريخ مضادة في شمال قبرص لعرقلة نشر الصواريخ الروسية، عادت وجددت أخيراً تهديدها بتدمير الصواريخ عند اندلاع أول نزاع. ويبدو هذا التأجيل التركي، في أجواء المواجهة المحتملة كأنه حافز للقبارصة اليونان كي يأتوا بالصواريخ لتكون ورقة ضغط في ايدي تركيا. وربما كشف الأتراك سر حليفهم دنكطاش الذي قال ان "سكان جنوب الجزيرة لن يناموا بعد ذلك لقلقهم من احتمال توجيه تركيا ضربة في أي وقت. مع ان دنكطاش مقتنع ان هذه الصواريخ لن تأتي، مؤكداً ما كان قد أعلنه، من ان قضية الصواريخ ستنتهي الى "إذلال جديد لليونان". لكن الديبلوماسيين الغربيين يقللون من اهمية تهديدات دنكطاش الذي يتباهى بقوة انقرة ويتكلم باسمها.، يعتبرون، ان كلاريديس محرج للغاية بعد ان فشل رهانه على الصواريخ وأضحى رهينتها اذ ان تركيا تستعملها للضغط على كل من يطالبها بتليين موقف دنكطاش. حتى الاتحاد الأوروبي استغل بعض اعضائه التصعيد الذي خلقته أزمة الصواريخ ليقفوا موقفاً مشككاً من احتمال انضمام قبرص الى الاتحاد بسبب المشاكل التي قد تجلبها له. وهكذا خلص معارضو كلاريديس بشماتة الى ان هذا المغامر نجح في جعل العالم ينسى القضية القبرصية والتعاطف مع 200 ألف مهجر قبرصي يوناني ولم يعد يذكر الا الصواريخ والتعقيدات التي يمكن ان تثيرها. المخارج الصعبة والغالية إن الحسابات الخاطئة لحكومة كلاريديس في شأن المردود السياسي للصواريخ اثبتت عدم جدواها، اذ ان واشنطن وأوروبا غير مستعدتين للضغط على انقرة للقبول بمشروع كلاريديس الداعي الى نزع سلاح الجزيرة. كما يثبت كل يوم ان تأجيل تسلم الصواريخ من ايار مايو الماضي الى كانون الأول ديسمبر ثم الى الربيع المقبل، كما اكد تقرير للاتحاد الأوروبي، لن يلغي مرارة الاستحقاقات. وقال سفير أوروبي غربي ل "الوسط" ان روسياوتركيا تصران وحدهما على صفقة الصواريخ. موسكو لأسباب مالية وللعودة الى منطقة الشرق الأوسط، وانقرة لتكون في يدها ورقة ضغط دائمة من خلال قبرص على اليونان والاتحاد الأوروبي. ومع ان الحزب الشيوعي القبرصي وهو ثاني حزب في الجزيرة، أبلغ كلاريديس انه سيدعمه في أي موقف تقتضيه المصلحة الوطنية، فإن كلاريديس بدا حتى الآن وكأنه يخشى من قواعده اليمينية ومن حليفه الحزب الاشتراكي الذي يشارك بوزير الدفاع في الحكومة الحالية. كما ارتفعت أصوات معارضة من وسط اليمين مطالبة باستقالته في حال عدم اتمام صفقة الصواريخ التي ساهمت في اعادة انتخابه. وتؤكد أوساط قبرصية حكومية ومعارضة على السواء ان كلاريديس حاول في ايلول سبتمبر الماضي الحصول من سيميتيس على مخرج يسمح بإرجاء وصول الصواريخ الى أجل غير مسمى، غير ان سيميتيس المعتدل والمهتم بدخول بلاده النظام النقدي الأوروبي لم يجرؤ على ذلك قبل انتخابات مرتقبة خوفاً من وزيري الدفاع والتربية تسوحاجو بولوس وارسينيس المعروفين بمواقفهما المتطرفة. وكان كلاريديس وعد الزعماء الروس في تموز يوليو الماضي بأن قبرص ستفي بالتزاماتها المالية حسب الجدول الزمني المتفق عليه. وقال آنذاك وزير الخارجية يناكيس كاسوليدس: "سندفع ما علينا وبعدها نحن أحرار في تسلم الصواريخ أو ابقائها هناك أو ايداعها بلداً ثالثاً أو بيعها". والاحتمالان الأخيران وردا كثيراً منذ أكثر من سنة، اذ تكرر الحديث عن بيع الصواريخ لبلد عربي مجاور، قبل ان ترد معلومات عن احتمال وضعها في جزيرة كريت اليونانية، توفيراً لمبلغ مليون دولار شهرياً تطالب به روسيا لإبقائها في مستودعاتها بعد نهاية السنة الحالية، وذلك بعدما أضحى سعر تلك الصواريخ 227 مليوناً بدلاً من 420 مليون دولار. ومع تكرار المسؤولين في كل من اثيناونيقوسيا نفي انباء ذهبت الى ان سيميتيس تنصل من صفقة الصواريخ بدعوى انه لم يستشر في شأنها، وعلى رغم تأكيد كلاريديس مراراً أن كل ما يفعله يتم بالتنسيق مع اليونان عملاً باتفاق الدفاع المشترك، فإن الأنظار تتجه مرة اخرى الى اثينا لصدور اعلان إلغاء أو تأجيل أو ايداع في كريت ينقذ الاقتصاد القبرصي ويخرج كلاريديس من مأزق يؤكد أحد كبار معارضيه انه قد يدفعه الى الاستقالة الربيع المقبل. وقال المعارض القبرصي ل "الوسط": "الى جانب فشله في قضية الصواريخ، فإن كلاريديس محبط لأنه يعتبر ان الرئيس الاميركي كلينتون خذله. فقد وعد كل من الطرفين الآخر بأشياء كثيرة ولم يف بوعده، فلا الحل القبرصي تقدم، ولا تم تخفيف الوجود العسكري التركي. وبات الناخبون نادمين على انتخابهم كلاريديس سنة 1993، اذ ضيع كل التقدم الذي حققه سلفه. ولكن الندم لا ينفع والقبارصة وكأن قدرهم تمثيل تراجيديا يونانية ينسون بسرعة من تسبب في كارثة 1974. وها هم مرة اخرى يربطون مصيرهم بأثينا وسط صراع يوناني - تركي لا نهاية له، متناسين الجغرافيا التي جعلت الجزيرة على بعد 60 كيلومتراً من تركيا ووضعتها بين فكي كماشة تركية - اسرائيلية تريد الإطباق على شرق البحر الأبيض المتوسط