انها صفعة جعلت الجميع يفيقون ويدركون ان الوضع القائم في قبرص المقسمة منذ 1974 لا يمكن "ان يستمر الى ما لا نهاية وانه على الرغم من الهدوء الظاهر فهناك مجال للتدهور والاقتتال في اي لحظة". هكذا لخص مندوب الاممالمتحدة المقيم في قبرص غوستاف فيسيل اسبوع العنف والتوتر الذي شهدته الجزيرة بين 11 و18 آب اغسطس الجاري. فقد نتج عن هذه الاحداث التي بدأت بتظاهرة للدراجات النارية احتجاجاً على تقسيم الجزيرة سقوط اكثر من 70 جريحاً ومقتل شابين من القبارصة اليونانيين هز مشهد مصرعهما العالم بعد ان تناقلته شبكات التلفزة العالمية. وقد ضُرب القتيل الاول تاسوس ايساك 26 عاماً حتى الموت بالعصي والحديد من قبل قبارصة اتراك بينهم افراد من الشرطة، داخل المنطقة العازلة الخاضعة للأمم المتحدة. فيما شوهد الثاني سولوموس سولومو 24 عاماً يصاب في الرقبة والصدر برصاص جندي اثناء تسلقه سارية للعلم التركي على بعد مترين من الخط الفاصل في مظاهرة عفوية تلت تشييع القتيل الاول. ومنذ ذلك اليوم تسارعت ردود فعل الاطراف المحلية والدولية المعنية بالقضية القبرصية كل منها يحاول الاستفادة من هذه المأساة لتعزيز وجهة نظره او لحض الاطراف الاخرى على العمل للخروج من هذا المأزق بمبادرة سياسية "تستغل المأساة للتوصل لطرح ايجابي"، او بترتيبات عسكرية تمنع تكرار ما حدث، باعادة النظر في دور وعدد قوات الاممالمتحدة التي يشرف 1200 من جنودها على خط طوله 180 كيلومتراً. غير ان فيسيل الذي يسعى كما قال الى "أي لقاء يساهم في التقارب" اعتبر ان قوات الاممالمتحدة على قلة عددها "كافية لحفظ الامن على الخط الفاصل وهي ليست بحاجة الى تغيير في مهمتها" لتتحول قوات للردع مثلاً. وأضاف "اذا قام كل من الطرفين بواجباته في احترام خط وقف اطلاق النار الذي وقعا عليه" سنة 1974 فلن يكون هناك اي اشكال. ومن ابرز تصريحات الشجب التي صدرت من العواصم الكبرى، لفت الانتباه رد الفعل الاميركي الذي كان الاعنف تجاه القبارصة الاتراك لاستعمالهم القوة بشكل غير متكافئ مع الخطر الذي شكله وجود متظاهرين قبارصة يونانيين في المنطقة العازلة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية نيكولاس بيرنز "ان حياة الانسان مقدسة وأهم بكثير من حماية قطعة قماش"، في اشارة الى العلم التركي الذي حاول القتيل سولومو انتزاعه. وأثار هذا التصريح غضب وزيرة الخارجية التركية تانسو تشيللر التي ردت عليه بالقول "لن نسمح مطلقاً بانتهاك حدودنا والاعتداء على علمنا داخل هذه الحدود". وكانت الوزيرة التركية زارت القسم الشمالي من قبرص الذي تحتله القوات التركية منذ 1974 غداة مقتل القبرصي اليوناني الثاني لتؤكد دعم بلادها للقبارصة الاتراك، وكررت اقوال الزعيم القبرصي التركي رؤوف دنكطاش بأن "هناك شعبين في قبرص لا يتفقان، وانه لولا وجود الجيش التركي لتعرض القبارصة الاتراك للمذابح". ولم تنس تشيللر مطالبة الاممالمتحدة بالمبادرة الى الدعوة لاستئناف المفاوضات المتوقفة منذ سنتين بين دنكطاش والرئيس القبرصي غلافكوس كلاريديس. وألقى دنكطاش مسؤولية ما حدث على الحكومة القبرصية التي لم تمنع المتطاهرين، ودعا كلاريديس الى الاجتماع به لتهدئة الاوضاع. وكان دنكطاش حذر قبل قيام التظاهرات بأن قواته ستطلق النار على من يدخل المنطقة العازلة. كما اتهم دنكطاش اليونان ب "تحريك العناصر المتعصبة في الجزء اليوناني من الجزيرة بهدف اثارة الجانب التركي" واستغلال الاحداث للحصول على مكاسب سياسية. لكن سفيراً اوروبياً زار المنطقة الشمالية مؤخراً اكد ل "الوسط" ان زيارة تشيللر هدفت الى "رفع معنويات حكومة دنكطاش التي تعرضت ومعها القوات التركية الى انتقاد دولي شديد". وقال الديبلوماسي "ان الاحزاب المعارضة لدنكطاش تنتقد بشدة ما جرى". وذهبت احدى الصحف الى اتهام دنكطاش ب "البربرية والعنصرية" لاستقدامه من تركيا عناصر من منظمة "الذئاب الفضية" اليمينية المتطرفة للمشاركة في احداث 11 آب. وأصدرت الأممالمتحدة تقريرين عن احداث يومي 11 و14 آب. وفيما انحت باللائمة على شرطة الطرفين لعدم منعهما المتظاهرين من دخول المنطقة العازلة، اتهمت القبارصة الاتراك بادخال عناصر شرطة الى هذه المنطقة شاركت في اعمال العنف واطلاق النار على المنطقة العازلة وعدم ترك المجال الكافي لعناصر الاممالمتحدة لاخراج المتظاهرين واعادة الشاب الذي تسلق سارية العلم وراء الخط الفاصل. لقاء سيئ التوقيت اما الجانب القبرصي اليوناني فقد اعتبر لقاء كلاريدس - دنكطاش غير وارد او على الاقل "سيئ التوقيت في ظل المشاعر التي خلفها مقتل الشابين". ولم يتوقف السياسيون القبارصة اليونانيون عن الدعوة الى لجم هذه المشاعر، وان اعترفوا بأنهم "لم يستطيعوا منع ما حدث". ورأى وزير الخارجية القبرصي اليكوس ميخائيليدس انه يستحيل على الحكومة منع مهجري القسم الشمالي من الجزيرة 200 ألف من الاحتجاج على حقوقهم المنتهكة، ومنها حرية الحركة التي جاء 120 راكب دراجة نارية من اوروبا للاحتجاج عليها والمطالبة الى جانب 5 آلاف راكب دراجة قبرصي بانهاء مسيرتهم التي بدأت في برلين على شاطئ كيرينيا في شمال قبرص. ومع زيادة الانتقادات للحكومة بعدم استعمال القوة لمنع التظاهرات في ذينك اليومين العنيفين فان السياسيين القبارصة اليونانيين يجمعون على رفض اية تحركات تسيء الى أمن المنطقة العازلة التي تشرف عليها قوات الاممالمتحدة او قد تؤدي الى مواجهات مع القوات التركية التي تحتل شمال الجزيرة منذ 1974 في اعقاب الانقلاب الذي حاول الاطاحة بالاسقف مكاريوس بتدبير من الحكم العسكري آنذاك في اليونان. وقد أعيد تأكيد هذا الموقف خلال الزيارة التي قام بها رئيس وزراء اليونان كوستاس سيميتيس للجزيرة في 17 آب. قام خلال الساعات الثماني التي امضاها في قبرص بتقديم التعازي الى اهالي الضحيتين وشارك في اجتماع المجلس الوطني الذي يضم رؤساء الاحزاب الكبرى الى جانب الرئيس القبرصي. وأشار البيان الختامي الصادر عقب الاجتماع الى تعزيز التعاون السياسي والعسكري بين الطرفين عملاً باتفاق الدفاع المشترك الموقع بينهما سنة 1993، وأكد رفض الانقياد في التصعيد الذي تسعى اليه تركيا وشدد على استمرار "الخيار السلمي لحل القضية القبرصية" وعلى العمل الحثيث لنجاح انضمام قبرص الى الاتحاد الاوروبي. وفي محاولة لطمأنة القبارصة اليونانيين الذين اجتاحتهم هواجس الاجتياح التركي ومطامع تركيا في كل الجزيرة أكد سيميتيس "ان كل استفزاز او اعتداء سيقابل بالرد المناسب وان اي عدوان على المنطقة الخاضعة للحكومة القبرصية يشكل اعلان حرب على اليونان". لكنه مع تأييده لمشاعر المهجرين الذين ضاقوا ذرعاً بعد 22 سنة من الانتظار دعا الى "ضرورة التزام الحكمة والهدوء" مضيفاً "ان كل تظاهرة يجب ان تفي بالغرض الذي قامت من اجله". وبعد ان خفت حدة التوتر على المنطقة الفاصلة في ديرينيا شرق الجزيرة، وانتهى دفن القتيل في ساعة متأخرة من مساء 16 آب في بلدة باراليمنى، حانت ساعة مراجعة الحسابات. ويحاول كل من الطرفين تحسين وضعه وصورته وطرح مبادرات تخرج الوضع من التأزم والجمود. فالاممالمتحدة التي ظلت قراراتها الصادرة عن مجلس الامن والجمعية العامة في شأن قبرص من دون تنفيذ، تتابع مساعيها لاعادة الحوار والتفاوض على حل يعيد توحيد الجزيرة ضمن دولة فيديرالية موحدة تضم منطقتين ومجموعتين. وبانتظار عودة هذه المفاوضات المتوقفة منذ 1994، اعلن هذا الاسبوع عن اقتراحين، الاول يدعو الى التعجيل بلقاء كلاريديس - دنكطاش لاعادة الاتصال وتهدئة الخواطر وهو يبدو بعيد التحقيق. ويدعو الثاني الى صدور بيان مشترك يوقعه الطرفان بادانة اعمال العنف التي وقعت. وقبل اجتماع المجلس الوطني الاسبوع الماضي للبحث في هذين الاقتراحين، أعلن رؤساء الاحزاب الخمسة وكلاريدس نفسه رفض فكرة الاجتماع الذي لا يستطيع الرأي العام تقبله في ظل الصدمة الاخيرة. اما الاعلان المشترك فهناك من يرفضه باعتباره "يساوي في المسؤولية بين المجرم والضحية". وهناك من يصر على ان يراعي موقف القبارصة اليونانيين من الاحداث مما يجعل توقيع دنكطاش عليه غير محتمل. وهناك اقتراح قدمه السفير الاميركي كينيث بيرل يدعو الى لقاء بين قائد القوات التركية في شمال قبرص علي بالتشين وقائد الحرس الوطني القبرصي اليوناني نيكولاوس فورفولاكوس برعاية الاممالمتحدة للحوار حول الوسائل الكفيلة بمنع تكرار ما حدث على خط التماس واعتماد تدابير تلغي فرص الاحتكاك واستعمال الاسلحة النارية على جانبي الخط الفاصل. وكانت مندوبة الولاياتالمتحدة لدى الاممالمتحدة مادلين اولبرايت اعلنت في 18 تموز يوليو الماضي في نيقوسيا عن الاتفاق على هذا الحوار العسكري. لكن دنكطاش اعترض بعد ثلاثة ايام على عدم اشراك قائد القوات القبرصية التركية. وبقيت المبادرة مجمدة. وتعتبر الاممالمتحدةوواشنطن ان الطرفين المعنيين هما اللذان وقعا وقف النار العام 1974 وهما قائدا قوات تركيا وجمهورية قبرص المعترف بها دولياً. الترياق الاميركي المخيف ومع الاحداث العنيفة الاخيرة عادت الاشاعات لتطفو على السطح من جديد عن المخططات الاميركية ومنها مشروع لحل القضية القبرصية على طريقة اتفاق دايتون بين الاطراف البوسنية. وفيما اكد فيسيل "ان كل شيء وارد" دون التعليق على خيار دايتون، اشار الى "ان الحل عاجلاً ام آجلاً سيكون بالحوار، وهذا الحوار يجب ان يكون ودياً وليس بين اعداء". وأكد سفير دولة عظمى ل "الوسط" ان ما جرى وان كان صفعة لتركيا ودنكطاش "ذكّر العالم بأن الوضع في قبرص لا يجب ان يستمر على هذه الحال". ومع اعتراف القبارصة اليونانيين بأهمية الدور الاميركي في التوازن الدولي الحالي، ونظراً الى تأثير واشنطن على انقرة فهم مقتنعون بأن اي استفراد اميركي بالملف القبرصي سيكون لمصلحة تركيا والقبارصة الاتراك وسيدفعون هم ثمنه تنازلات جديدة بعد قبولهم بالفيديرالية التي تحرم عملياً المهجرين من العودة. وحدهم المحللون الاتراك المعارضون لحكومة رئيس الوزراء نجم الدين اربكان اعتبروا ان احداث قبرص الاخيرة افتعلت واستغلت اميركياً للضغط على اربكان الذي ذهب بعيداً في التعاون مع ايران والعراق مثيراً حفيظة واشنطن.