هل غيّر المناضلون "السابقون" الذين كانوا يرفعون لواء مقارعة "الشيطان الأكبر" من الجماعات الثورية الإيرانية مواقفهم ولبسوا رداءً جديداً ينسجم مع نظرية "المجتمع المدني" و"التعايش مع العالم المتحضر"؟ أم أن كل ما يجري في إيران هذه الأيام من نقاش ساخن حول العلاقات مع الولاياتالمتحدة لا يعدو كونه مجرد تكتيك اتخذه "أبناء" الثورة الإسلامية داخل النظام؟ في الأيام القليلة الماضية برزت وقائع توضع في سياق واحد ظهر على السطح جلياً منذ انتخاب الرئيس محمد خاتمي، أهمها تظاهرة "مكتب تعزيز الوحدة"، وهو اتحاد عام للجمعيات الطلابية الموالية لليسار الديني في الجامعات الإيرانية، اقيمت - كالعادة منذ هزيمة اليسار الديني في الانتخابات التشريعية عام 1992 - بصورة منفصلة عن التظاهرات الشعبية والرسمية، أمام مبنى السفارة الأميركية لمناسبة ذكرى اقتحامها في 4 تشرين الثاني نوفمبر العام 1979. وليست هذه التظاهرة بحد ذاتها حدثاً "خاصاً"، لأن الجناحين الرئيسيين اعتادا ممارسة "شعائر" الثورة "كل على شاكلته"، بعد الانشقاق الكبير في عهد الإمام الخميني داخل رابطة علماء الدين المناضلين "روحانيت مبارز" التي صارت تضم فقط اليمين الديني المحافظ، فيما ظهرت جماعة علماء الدين المناضلين "روحانيون مبارز" التي جمعت أقطاب ما كان يعرف في حينه ب "الخط الثالث" وجميع اليساريين الإسلاميين ممن وقفوا على الحياد أثناء الصراع بين مُنظر الثورة الإسلامية الراحل آية الله محمد بهشتي وخلفه الحزب الجمهوري الإسلامي، وأبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية الذي عزله البرلمان. وكانت واقعة الانشقاق بدت طبيعية لاختلاف الرؤى على الاقتصاد والثقافة والعلاقات الخارجية، خصوصاً أن الإمام الخميني لم يعارض ذلك الانشقاق، بل أنه ساهم من ماله "العام" في تمويل الجماعة الجديدة التي صارت تطلق على نفسها لقب أنصار نهج الإمام ودعاة الإسلام المحمدي الأصيل في مقابل من وصفوا بأنصار الإسلام الأميركي. ومنذ العام 1992 وبعد هزيمة أو اقصاء أقطاب اليسار الديني في الانتخابات التشريعية، أخذ الفرز بين الجماعتين منحى خطيراً بلجوء كل طرف إلى اتهام الطرف الآخر بالانحراف، الأمر الذي دفع الإيرانيين إلى التشكيك بنزاهة علماء الدين الذين يشكلون عماد الطرفين المتنازعين وهز صورة رجال المؤسسة الدينية. لقد قام مكتب تعزيز الوحدة الذي ينتمي إليه الطلبة الذين كانوا وراء اقتحام السفارة الأميركية العام 1979، ومنذ انتخاب الرئيس محمد خاتمي، بسلسلة ممارسات وصفت بأنها غير مألوفة ولا تنسجم مع التقاليد المتداولة بعد الثورة. فهذا المكتب الطلابي وكأنه ضغط على "زر" ليغير نهجه 180 درجة، كما يقول علي أكبر محتشمي الوزير والنائب السابق ومستشار الرئيس خاتمي للشؤون السياسية وعضو اللجنة المركزية لجماعة علماء الدين المناضلين "روحانيون مبارز". ولكن كيف؟ لقد كشفت الفترة المنقضية على تسلم خاتمي الحكم ان قادة المكتب الطلابي المذكور، وتحديداً "الطلبة السائرون على نهج الإمام"، وهي التسمية التي أطلقها الطلبة الذين اقتحموا السفارة الأميركية على أنفسهم، لم يعودوا يطرحون أنفسهم كدعاة مواجهة "الاستكبار الأميركي"، بل صاروا يميزون بين الإدارة الأميركية والشعب الأميركي بطريقة غير طبيعية، إذ ألغوا من قاموس احتفالاتهم "التكبير" وحل بدلاً منه التصفيق والصفير بما أثار حفيظة زعماء المؤسسة الدينية في قم، الذين نظموا تظاهرة كبيرة احتجاجاً على ممارسات الطلبة في احتفال مرور عام على انتخاب الرئيس خاتمي. وإذا كانت قم قد شهدت أول تظاهرة احتجاج ضد نظام الشاه لتنطلق منها شرارة الثورة الإسلامية التي أطاحت نظامه، فإن شعارات تلك التظاهرة الاحتجاجية ضد ممارسات الطلبة في جامعة طهران أمام مرأى ومسمع الرئيس خاتمي أكدت أن التاريخ يعيد نفسه وقد يتكرر. وعلى رغم كل ما قيل عن "خطأ" تلك الممارسة التي تزامنت مع مناسبة دينية حزينة، إلا أن مكتب تعزيز الوحدة مضى في طريق نهج جديد عبر تنظيم الاجتماعات الاحتجاجية التي أخذت في ظاهرها توجيه انتقادات لما يصفونه بهيمنة المحافظين على مجلس صيانة الدستور. وطاولت انتقادات المكتب الطلابي، مقام ولاية الفقيه بطرق شتى تعارضت في معظم تبريراتها مع أصل ما كان يطرحه الإمام الخميني حول "الحكومة الإسلامية أو ولاية الفقيه". وكان الثاني من الشهر الجاري يوماً مشهوداً في طهران، حيث تظاهر "الطلبة السائرون على نهج الإمام" أمام المبنى السابق للسفارة الأميركية، لكن اللافت ان البيان الختامي خلا من أية إشارة إلى الولاياتالمتحدة على رغم أنه كرس لمهاجمة الجناح الآخر، على شكل تهديد ووعيد بأن هذا الجناح سيسحق في انتخابات المجالس البلدية والقروية التي ستجرى في 26 شباط فبراير المقبل، غداة الاحتفال بالذكرى العشرين لانتصار الثورة الإسلامية. ولو لم تكن التظاهرة بمناسبة ذكرى احتلال السفارة الأميركية للعام 1979 ونفي الإمام الخميني إلى تركيا فالعراق العام 1964، فإن أحداً لم يكن ليشعر بأن التظاهرة لها علاقة ما بالولاياتالمتحدة. تصفيق وصفير أعداء الولاية شعار "الموت لأميركا" اختفى نهائياً، وكذلك حرق العلم الأميركي، فيما حل التصفيق تأييداً للبيان الختامي والخطاب الذي ألقاه أحد أولئك الطلبة الذين اقتحموا السفارة الأميركية محل التكبير في خطوة متعمدة، لأن التكبير في إيران شعار سياسي وبالصيغة التالية: "الله أكبر الله أكبر خامنئي رهبر قائد... الموت للمعادين لولاية الفقيه... الموت لأميركا الموت لإسرائيل". وكأن جماعة المكتب الطلابي الذي طالب قادته في الأسابيع الماضية بتقنين ولاية الفقيه وإدخال نساء وغير معممين إلى مجلس الخبراء المعني بانتخاب أو عزل ومراقبة الولي الفقيه، اختارت "التصفيق" لتتهرب من الإقرار بالولاء للولي الفقيه ومعاداة أعداء "الولاية"، وهي تتجنب بوضوح اطلاق شعار "الموت لأميركا". ولم يقف الأمر عند هذا الحد من "التراجعات" ضد "الاستكبار" الأميركي، لأن مكتب تعزيز الوحدة اطلق دعوة اعتبرها المراقبون "غريبة"، فقد وجه إبراهيم أصغرزاده أحد الذين احتجزوا 52 ديبلوماسياً في السفارة الأميركية 444 يوماً، دعوة إلى إيران كان "الطلبة السائرون على نهج الإمام" يصفونهم ب "الجواسيس" لزيارة طهران، وهذه المرة كضيوف مكرمين. بل ان معلومات أكيدة أفادت بأن اتصالات جرت بالفعل مع القائم بأعمال السفارة الأميركية في طهران أثناء اقتحامها، بروس لينغن ومع باري روزن الملحق الصحافي يومها، لزيارة طهران وانجاز المرحلة الثانية من محادثات أجراها عباس عبدي مع روزن أخيراً في باريس لإسدال الستار نهائياً على حقبة الصراع. ووصفت أوساط قريبة من المرشد علي خامنئي المحادثات التي يفترض أن تجرى في طهران بين الرهائن والخاطفين بأنها "مرحلة الاياب" استكمالاً لمحادثات عبدي - روزن في باريس لتطبيع العلاقات الثنائية من واقع كون عبدي يرأس تحرير صحيفة "سلام" الناطق شبه الرسمي باسم جناح اليسار الديني وتحديداً جماعة "روحانيون مبارز" التي ينتسب إليها الرئيس خاتمي. وأما لماذا بروس لينغن، فلأنه، كما نشرت "سلام" لمناسبة ذكرى احتلال السفارة الأميركية، يدعو إلى إعادة العلاقات الإيرانية - الأميركية، وهو يردد "ان إعادة هذه العلاقات يمكن أن تبدو صعبة، لكن لا يوجد دليل واحد لكي تعتبر مستحيلة". ويضيف: "يجب فتح حوار مع طهران من دون الالتفات إلى السياسات الإيرانية. ونحن نشعر بالقلق حول خطط إيران لحيازة أسلحة نووية وفي موضوع حقوق الإنسان، ونختلف مع النظام في طهران حول عملية السلام في الشرق الأوسط ولكن يجب ان نفتح الحوار مع إيران لأهميتها في المنطقة". دعوة إلى الحوار قبل انتخابات الرئاسة العام الماضي كانت دعوة الحوار مع واشنطن تنطلق عادة من أقطاب في اليمين الديني المحافظ، ومنهم الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية محمد جواد لاريجاني والرئيس السابق أيضاً لهذه اللجنة سعيد رجائي خراساني. والأكثر إثارة ان وزير الثقافة والارشاد عطاء الله مهاجراني كان يدعو، عندما كان نائباً للرئيس السابق رفسنجاني، إلى ما أصبح يعرف الآن بالحوار المباشر بين إيران وأميركا ويوضع بين مزدوجين للتذكير بهذه الدعوة وبمطلقها. وقد شن قادة اليسار الديني في البرلمان السابق اثناء رئاسة مهدي كروبي الأمين العام لجماعة علماء الدين المناضلين "روحانيون مبارز" في تلك الفترة حملة ضد مهاجراني، وهم اليوم يتحالفون معه ومع جماعة "كوادر البناء" التي صارت تتبنى النهج الاصلاحي وتترك بصماتها القوية على تركيبة المجتمع في إيران. وحتى مع تساؤلات طرحها النواب المحافظون في مجلس الشورى عن مغزى دعوة "الجواسيس" لزيارة طهران ومطالبة النائب المحافظ حسن كامران وزارة الخارجية بتقديم توضيح متسائلاً "كيف يمكن لجماعة كانت تدعي انها على نهج الامام الخميني الراحل، ان تسمح لنفسها بدعوة جواسيس من دون اي تنسيق مع وزارة الخارجية؟"، ومشدداً على "ان صمت الخارجية يزيد من حجم الاستفهامات المثارة"، فان صحيفة "سلام" ارسلت مندوباً عنها ضمن وفد صحافي ايراني من صحف الاصلاحيين لزيارة الولاياتالمتحدة في اطار دعوة وجهتها احدى المؤسسات الصحافية غير الحكومية وصادفت الاحتفال بيوم "مقارعة الاستكبار الاميركي"، وبعد ايام فقط من تأكيدات المرشد خامنئي والرئيس خاتمي ان العلاقات مع واشنطن تلحق ضرراً فادحاً بمصالح الشعب الايراني والقطيعة معها لمصلحة الايرانيين مئة في المئة. وقد نفت الخارجية الايرانية اي صلة لها بموضوع الدعوة الموجهة للينغن وروزن وقالت انها لم ولن تمنح "الجاسوسين" تأشيرة دخول لايران وهما لم يراجعا مكتب رعاية المصالح الايرانية في واشنطن. ولكن لماذا ارسلت هذه الصحف مندوبيها الى الولاياتالمتحدة وهي: "سلام" و"همشهري" التي يصدرها الامين العام لحزب "كوادر البناء" غلام حسين كرباستشي، وصحيفة "زن" التي تصدرها ابنة الرئيس السابق فائزة هاشمي رفسنجاني وهي من اقطاب هذا الحزب الذي نشأ تحت عباءة رفسنجاني، ومجلة "زنان" التي تديرها شهلا شركت رفيقة درب ما شاء الله شمس الواعظين رئيس تحرير صحيفتي "جامعه" و"توس" الموقوفتين وهما من انصار الليبيرالية الدينية؟ ولماذا التوقيت مع احتفالات ذكرى احتلال السفارة الايرانية، ما دفع محتشمي الى اعلان موقف واضح وقد يتضمن تهديداً بفرط التحالف بين اليسار الديني روحانيون مبارز والاصلاحيين كوادر البناء، بقوله وهو ينتقد ايضاً مواقف مكتب تعزيز الوحدة التي اصبحت متناقضة ان "كوادر البناء" يشكلون عقبة امام تحقيق برامج الرئيس خاتمي وشعاراته وما يقوم به هؤلاء يلحق ضرراً بالنظام. واللافت ايضاً ان الرئيس خاتمي وان كان وجه دعوة مكررة للتصالح مع الشعب الاميركي، الا انه حمل وبعنف خلال الاحتفال بذكرى احتلال السفارة الاميركية على واشنطن وطالبها باعتذار رسمي للشعبين الايراني والاميركي، مؤكداً التزامه الشروط الاربعة التي اعلنها مجلس تشخيص مصلحة النظام، أعلى سلطة استشارية للقائد في شأن الحوار مع الادارة الاميركية، وهي، اضافة الى الاعتذار، تعهد واشنطن عدم التدخل في شؤون ايران الداخلية، وتحرير الارصدة المالية المجمدة منذ زمن الشاه، وسحب الاساطيل الاميركية من منطقة الخليج. وحسب مصادر قريبة من خاتمي فان الرئيس الايراني اكد في مجالسه الخاصة انه لا يريد ابداً اعادة العلاقات مع واشنطن "وما يقرره القائد انفذه بالحرف الواحد". ويملك هذه المعلومات قادة اليمين المحافظ الذين غيروا لهجة خطابهم وطريقة ادائهم السياسي مع خاتمي وبدأوا سلسلة اجتماعات مشتركة معه لدعم مشروعه في تخفيف الاعباء الاقتصادية في ضوء تدهور اسعار النفط، وايدوا خططه في تشجيع الانفراج في العلاقات الاقليمية والدولية... وهم يتحركون للفصل بين الرئيس واولئك الذين يختبئون تحت عباءته. فقد تردد على نطاق واسع ان السلطة القضائية طالبت بوقف صدور صحيفة "سلام" التي صارت تشكك في عدد من اسس النظام وتنسجم في توجهاتها مع ما كانت تطرحه صحيفتا "جامعه" و"توس"، وان اجتماعاً عقد في هذا الصعيد بحضور وزير الثقافة والارشاد مهاجراني الذي رفض طلب وقف الصحيفة مع انه تعهد خلال اجتماع غير علني مع عدد من النواب بالمضي في خط الولاية. وفي سياق مماثل نادى زعماء من اليمين في البرلمان بحل مكتب تعزيز الوحدة الذي حذر من جهته من مشروع "عسكرة" الجامعات عبر تعزيز دور افراد البسيج "المتطوعين" الذين ينتظر ان يساهموا في حل المكتب الذي اتهمه العديد من المستقلين ايضاً بالترويج لمفاهيم خطيرة. وبينما يشتد النقاش الساخن على موضوع العلاقات الايرانية - الاميركية وسط معلومات بأن جماعات من الاصلاحيين تخطط لطرح رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني كولي فقيه يتم انتخابه بدلاً من المرشد الحالي علي خامنئي اذا ما سيطروا على معظم مقاعد مجلس الخبراء، فيما كانت جماعات من اليسار الديني تخطط لتبني موسوي خوئينيها ولياً جديداً، لكن رفسنجاني - مثلما اكدت المعلومات - ادرك اللعبة واعلن تأييده لما قام به مجلس صيانة الدستور، الذي لم يسمح لخوئينيها بعدما امتنع عن تقديم الامتحان المطلوب لتثبيت اهلية الاجتهاد، للترشيح كما فعل مع عبدالله نوري، بينما اخفق الاصلاحيون الا في تأييد من ايدهم المجلس الدستوري وهم جميعاً من المؤمنين بولاية الفقيه. وبين هذا وذاك ينتظر الجميع انتخابات المجالس البلدية التي يريدها الاصلاحيون معركة كسر عظم مثلما يخطط لها مكتب تعزيز الوحدة الذي هدد الجناح الآخر بالسحق، الامر الذي دفع الاوساط المقربة من المرشد الى التحذير من ان تتحول الانتخابات المقبلة الى صراع تصفيات تحت خيمة الثورة ونسيان العدو الاول. وتكفي في هذا المجال الاشارة الى ان نائب الرئيس للتنمية عبدالله نوري وعدداً من مستشاريه، بينهم جميله كديور زوجة مهاجراني وبهزاد نبوي استقالوا من مناصبهم - كشرط - لخوض الانتخابات البلدية، وهم يمنون النفس بالحصول على اعلى الاصوات ليثيروا بذلك الشكوك حول قرارات البرلمان والمجلس الدستوري في اقالة عبدالله نوري من وزارة الداخلية وعدم السماح له ولنبوي بخوض انتخابات مجلس الخبراء - لنوري - والانتخابات التشريعية - لنبوي -. ولكن اذا كانت الانتخابات المقبلة لاختيار 200 الف من اعضاء المجالس البلدية ستجرى بعيداً عن صمام مجلس صيانة الدستور، فان صحيفة "سلام" بدأت تعلن مخاوفها من احتمال اقصاء معظم مرشحي اليسار الديني وكذلك الاصلاحيين على قاعدة ان البرلمان الذي يسيطر عليه المحافظون هو الذي يشرف على تلك الانتخابات وقد عين علي موحدي ساوجي رئيساً للجنة المشرفة، وهو من اشد معارضي عبدالله نوري وجماعة الاصلاحيين