لم يكد الرئيس الاسرائيلي عازر وايزمن ينهي زيارة "تاريخية" لقبرص، وهي الأولى من نوعها، حتى انتشر نبأ اعتقال اسرائيليين تتهمهما اجهزة الأمن القبرصية بالتجسس على منشآت الحرس الوطني القبرصي ومعداته. وبين مسارعة وسائل الاعلام القبرصية والاسرائيلية الى اتهام "الموساد" الاسرائيلي وصمت الحكومة الاسرائيلية، وبين الاحراج الرسمي القبرصي والرغبة في عدم تضخيم المسألة، كانت النتيجة الأولى والأكيدة هي تدمير ست سنوات من العمل الديبلوماسي للتقارب بين اسرائيل وقبرص بعدما ظلت علاقاتهما فاترة وحذرة طيلة 30 سنة 1961 - 1991. وبعد خمسة أيام على اكتشاف العميلين وتوقيفهما تبدو حكومة الرئيس غلافكوس كليريدس محرجة امام الرأي العام الداخلي على رغم رغبتها الواضحة في تجنب خلاف جدي مع اسرائيل التي لم يتورع رئيس وزرائها بنيامين نتانياهو عن جرح شعور القبارصة عندما أكد العزم على اعادة العميلين قريباً الى بلادهما. عندما أوقفت الشرطة القبرصية الاسرائيليين عودي هاركوف 37 سنة وايغال داماري 49 سنة في بلدة زيغي بتهمة التجسس وعُثر على معدات الكترونية متطورة في الشقة التي كانا يقطنانها، لم يفهم أحد ماذا كانا يفعلان في هذه القرية الساحلية التي تضم مرفأ لصيادي الاسماك. ولكن سرعان ما أدرك الجميع ان جهاز الكومبيوتر والهاتف النقال وجهازين يعملان بالأشعة مربوطين بآلات تسجيل مضبوطة على موجة أجهزة الشرطة، لم تكن في حوزة سائحين عاديين من بين مليوني زائر يأتون الى قبرص التي تشتهر بكونها مركزاً لتنقلات الجواسيس في الشرق الأوسط. واكدت الشرطة انها قررت تفتيش الشقة لأن الاسرائيليين كانا يتصرفان بطريقة مشبوهة قرب ثكنة عسكرية في زيغي، حيث اجريت قبل اسبوعين مناورات بحرية شاركت فيها اليونان وأعلنت السلطات القبرصية انها ستبني فيها قاعدة بحرية. وثبت في ما بعد ان هاركوف وداماري كانا في قبرص خلال مناورات الشهر الماضي وكذلك مناورات العام الماضي. وركزت الصحافة الاسرائيلية أولاً على رد فعل وايزمن وقالت انه تلقى النبأ كالصاعقة "وفقد انفاسه" وانفجر غضباً لهذا العمل الذي أقل ما يقال عنه انه مهين لرئيس الدولة الذي أمضى ثلاثة أيام يحاول "بصعوبة بالغة" إقناع كليريدس و"زعماء القبارصة اليونان بأن التحالف العسكري مع تركيا ليس موجهاً ضد أي طرف ثالث" كسورية مثلاً "وعلى الأخص ليس ضد قبرص البلد الصديق". وبالفعل أوفد وايزمن رئيس مكتبه ارييه شومير الى نيقوسيا لنقل "رسالة صداقة" الى كليريدس، ونفى الموفد الاسرائيلي وجود أي رابط بين زيارته واعتقال الاسرائيليين. لكن السفير الاسرائيلي الذي رافقه أكد ان "السحابة التي ظهرت في نهاية الاسبوع قبل الماضي ستتبدد وان علاقاتنا الطيبة ستستمر". فشل جديد للموساد وبينما ظلت السلطات الاسرائيلية ترفض التأكيد بأن الموقوفين من "الموساد"، اكدت اذاعة الجيش الاسرائيلي ان اسرائيل تحاول تأمين الافراج عن مواطنيها "بالسبل الديبلوماسية". وأشارت صحيفة "هآرتس" الى اهتمام "الموساد" بمشروع قبرص نشر بطاريات صواريخ "اس - 300" الروسية "التي يمكن ان تحد من حرية عمل الطيران الاسرائيلي في المتوسط"، واكد هذا الموقف في انقرة مدير وزارة الدفاع الاسرائيلية ديفيد ايفري، فيما حاول المسؤول السابق في "الموساد" رافي ايتان خلط الأوراق مؤكداً ان "الاسرائيليين يعملان على ما يبدو لمصلحة هيئة خاصة تؤمن، لقاء المال، معلومات استخباراتية عن الجيش القبرصي لمصلحة تركيا". اما الاذاعة الاسرائيلية فنسبت الى مسؤولين في "الموساد" قولهم ان مهمة الرجلين مراقبة الفلسطينيين واعضاء "حزب الله" من اللبنانيين الناشطين في الجزيرة، وهذه "المهمة" قديمة وقد ذهب ضحيتها عدد من المسؤولين الفلسطينيين في الماضي. وانهالت الانتقادات على "الموساد" الذي لم يخرج بعد من الأزمة التي تسبب فيها فشله في سويسرا والأردن عندما حاول اثنان من عملائه اغتيال مسؤول حركة "حماس" خالد مشعل. والتزمت الصحف القبرصية ومعها السياسيون الاعتدال والحذر أول الأمر في محاولة لتسهيل مهمة الحكومة المحرجة وغض الطرف عن الترويج لإمكانية ان يكون الاثنان يعملان لحساب تركيا التي تحتل شمال قبرص منذ 1974، وتهدد حكومة كليريدس المعترف بها دولياً بكل الويلات في حال نشرت الصواريخ الروسية واستمرت في تطبيق برنامج الدفاع المشترك مع اليونان. وقد اكدت وزارة العدل ان التحقيق لم "يظهر حتى الآن" ان الاثنين يعملان لمصلحة حكومة اسرائيل. والتزم كل المسؤولين الصمت "بانتظار انتهاء التحقيق". لكن تأكيد نتانياهو ان "كل مواطن اسرائيلي مهم بالنسبة الينا وسنعيدهما بالتأكيد الى ديارهما"، أضاف الى "الصفعة" الأولى إذلالا جديداً دفع كل المسؤولين القبارصة الى الرد بأن "هناك دولة وقضاء وقانوناً" في الجزيرة، ووصفت الصحف القبرصية نتانياهو بأنه "سخيف ومستكبر". اضفت الى ذلك تأكيد صحيفة "يديعوت احرونوت" ان "مسؤولاً قبرصياً كبيراً" صرح لها انه "سيتم قريباً الإفراج عن الاسرائيليين بعدما تهدأ الضجة الاعلامية في شأن القضية"، الأمر الذي دفع وزير الدفاع القبرصي يناكيس اوميرو الى الاعراب عن "قلق حكومته من تجسس عميلين اسرائيليين على الحرس الوطني، وذلك في ظل الاتفاق العسكري التركي - الاسرائيلي". واعتبر انه "اذا تبين انهما من الموساد فإن ذلك سيخلق مشكلة ديبلوماسية خطيرة يمكن ان تكون لها نتائج جدية على العلاقات" مع اسرائيل. أما فاسوس ليساريدس زعيم الحزب الاشتراكي القبرصي الذي ينتمي اليه اوميرو، فقال "اعتقد بأنها قضية تجسس وما عساها تكون غير ذلك؟ ان هذين الجاسوسين يعملان من دون شك لحساب اسرائيل وبالتالي لحساب تركيا". كذلك اعرب الحزب الشيوعي القبرصي، وهو ثاني حزب من حيث الحجم والاهمية، عن رفضه "عقلية الحكومة الاسرائيلية" وانتقد تغاضي حكومة كليريدس عن ممارسات اجهزة اسرائيل في مطار لارنكا ومرفأ ليماسول تحت ستار تفتيش المسافرين الى اسرائيل. ولقبرص تاريخ حافل مع المخابرات الاسرائيلية يعود الى زمن الحكم البريطاني، واستمر بعد استقلال الجزيرة سنة 1960 وافتتاح سفارة لاسرائيل في نيقوسيا سنة 1961 بينما لم تفتح سفارة قبرص في تل أبيب الا سنة 1995. وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد اغتالت الاستخبارات الاسرائيلية سنة 1974 "أبو الخير" أول ممثل لمنظمة التحرير في الجزيرة، وسنة 1979 خلفه "أبو صفوت"، واغتالت مسؤولاً فلسطينياً آخر من الضفة هو سمير طوقان. وعام 1988 قامت هذه الاجهزة بنسف سفينة "سول فريني" التي نقلت الفلسطينيين من بيروت سنة 1982. وسنة 1991 ضبط شرطي عادي أربعة عملاء للموساد كانوا يحاولون وضع اجهزة تنصت في السفارة الايرانية في نيقوسيا. ويقول ديبلوماسي عربي انه في كل هذه الحالات "كان مصير المعتقلين إما عقوبات لحمل جوازات مزورة وإما الإفراج عنهم بعد فترة وجيزة. لكن هذه المرة فإن أمن القبارصة انفسهم على المحك". ولا تفوت القبارصة مناسبة إلا ويؤكدون ان رغبتهم منذ 6 سنوات في تدعيم العلاقات مع اسرائيل متلازمة مع اصرارهم على استمرار علاقاتهم الممتازة مع العالم العربي. وغني عن الذكر العلاقات المميزة التي جمعت في الستينات الرئيس القبرصي الراحل مكاريوس مع الرئيس جمال عبدالناصر. ويعتبر بعض اليمينيين في قبرص أنها من الاسباب التي دفعت واشنطن الى تشجيع تركيا على احتلال شمال قبرص. كذلك فإن تدفق اللبنانيين من "مهاجري" الحرب ورجال أعمال ومن خلالهم ازدهار العلاقات التجارية مع الدول العربية ساهم في جعل الاقتصاد القبرصي مربوطاً بالعرب خلال عقدين ركز خلالهما القبارصة جهدهم على تدعيم القطاع السياحي. وظلت قبرص في الثمانينات مركزاً لعشرات المنشورات العربية والمؤسسات الفلسطينية التي انقطعت مواردها المالية مع اندلاع حرب الخليج. وبعد بدء مسيرة السلام في مدريد سنة 1991 بدأ القبارصة في التقرب من اسرائيل معتبرين انه ما دام اصحاب القضية بدأوا في التعاون معها فلماذا يبقون هم بعيدين عن "المغانم" الكثيرة التي حلم بها الجميع في "شرق أوسط جديد" كان محور "زيارة تاريخية" قام بها شيمون بيريز لقبرص سنة 1994. وعلى رغم ارتفاع حجم المبادلات التجارية وارتفاع اعداد السياح الاسرائيليين بنسبة 10 مرات اكثر مما كانت قبل 1992، فإن الطرفين يعترفان بأن الحذر سيد العلاقات. الاسرائيليون يقولون "نحن كنا دائماً هنا. القبارصة انفتحوا علينا أخيراً. أولاً نزولاً عند طلب الاميركيين وثانياً لأنهم يريدون تأمين حصتهم من مردود السلام في المنطقة". اما المسؤولون القبارصة من اليمين الحاكم حالياً فهم مقتنعون بأن كل ما يستطيعون جنيه من "علاقة غير متكافئة مع اسرائيل هو الحصول على ما أمكن من تحييدها في الخلاف المزمن مع تركيا وتأمين دعم اللوبي اليهودي في اميركا". وكان وايزمن صريحاً عندما ذكر القبارصة الذين عاتبوه على التحالف مع تركيا "التي تذبح الأكراد وتقطع الماء عن سورية والعراق"، اذ قال لهم "لا تنسوا ان تركيا بلد كبير يضم 63 مليون نسمة وعلاقاتنا معها قديمة سياسياً وعسكرياً ومبادلاتنا التجارية تفوق بعشرات المرات ما نتبادله مع بلدكم الجميل". وفي وقت يصر المدعي العام القبرصي اليكوس ماركيدس على ان "لا مجال لإطلاق سراح الجاسوسين من دون قرار النيابة العامة"، وبينما يؤكد الأمين العام لوزارة الخارجية اليكوس شامبوس ان قبرص "لم تتلق أي طلب رسمي" لإخلاء سبيلهما أو ترحيلهما، يستمر المسؤولون الاسرائيليون في الايهام بأن هناك صفقة ما تحضر وراء الكواليس. وأكد وزير الخارجية القبرصي يناكيس كاسوليدس لپ"الوسط" ان بلاده "تسعى للصداقة والتعاون مع كل الجيران في ظل الاحترام المتبادل للسيادة والقانون". وقال "وان كانت هذه الحادثة منفردة فإن لها انعكاساً على العلاقات" بين الحكومتين والشعبين. لكن المستشار القانوني للحكومة الاسرائيلية الياكيم روبنشتاين صرح لاذاعة الجيش الاسرائيلي ان بلاده قدمت للسلطات القبرصية اقتراحين يقضي الأول بمحاكمة الجاسوسين الاسرائيليين في قبرص على ان يمضيا فترة السجن في اسرائيل، والثاني بأن يحاكما ويسجنا في قبرص حتى اعياد الميلاد ورأس السنة عندما يصدر كليريدس عفواً عنهما. بالطبع فإن المسؤولين القبارصة يرفضون الاعتراف بأنهم يقبلون مجرد البحث في صفقات مماثلة، ويقول ديبلوماسي قبرصي كبير "مع رغبتنا في تفادي المشاكل وسياستنا المنفتحة لا يمكن ونحن في خضم الانضمام الى الاتحاد الأوروبي ان نتصرف كجمهورية موز وسنثبت للجميع أننا دولة قانون"