"السمك الذي ابيعه ممتاز، وكل غريب يأتي الى القرية يجرّب مطعمي". جاء هذا التعليق لصاحب مطعم معروف في قرية زيغي، قرب مدينة لارنكا في قبرص، في اعقاب اعتقال اسرائيليين بتهمة التجسس في قبرص. وكانا قد تواريا في البيت الصغير الذي استأجراه للتظاهر بقضاء عطلة، ولم يتناولا الطعام ابداً في المطعم. واثار وضعهما الشكوك وجرى تنبيه الشرطة. هكذا تقول الحكاية! لكن هناك جانب جدي، بالاضافة الى العنصر الهزلي، في هذه العملية التي تمثل آخر فشل لجهاز الاستخبارات الاسرائيلي "موساد". كنت في قبرص في الاسبوع الاول من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، وكانت الصحف المحلية لا تزال تدلي بتعليقاتها حول الزيارة الرسمية الاخيرة للرئيس الاسرائيلي عيزر وايزمان. وهي اول زيارة من نوعها لرئىس اسرائيلي منذ ان نالت قبرص استقلالها عن بريطانيا في 1960. وكان هناك سببان وراءها. اولاً، شارك وايزمان والرئىس القبرصي غلافكوس كليريدس معاً في سلاح الجو الملكي البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية وتربطهما علاقة صداقة منذ سنين كثيرة. ثانياً، أراد الرئيس وايزمان ان يسعى الى خفض التوتر المتصاعد بين اسرائيل وقبرص، وقدّر ان تدخله الشخصي قد يكون مفيداً. ورغم ان وايزمان رئىس دستوري ومستقل عن الاحزاب، بخلاف الرئىس كليريدس، فإنه وظّف السلطات التي يتيحها منصبه الى اقصى الحدود - وكان يتجاوزها كثيراً بعض الاحيان. وواجه خلال زيارته الرسمية اسئلة صعبة، لكن القبارصة اليونانيين بدوا سعداء لتجشمه عناء السفر لزيارة جزيرتهم الجميلة ولكن المأسوية. لكن، كما اشار مقال في صحيفة "صنداي تايمز" في 15 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، "ما ان عاد الرئىس الاسرائيلي الى بلاده حتى اُرغم على الاعتراف بان مسعاه لاصلاح العلاقات باءت بالفشل. واشتاط وايزمان غضباً عندما اتضح ان عملية استخبارية للموساد يشارك فيها 20 من عناصره كانت قيد التنفيذ في الجزيرة اثناء الزيارة من دون علمه". يبدو الرقم 20 مبالغاً فيه بعض الشىء. وتابعت الصحيفة ان "وايزمان اوفد اري شومر، المدير العام لمكتبه، الى قبرص للاعتذار من الرئىس. وكان الرئيس الاسرائيلي، الذي يُعرف بتعليقاته العنيفة، اتصل هاتفياً قبل ذلك بافراييم هاليفي رئىس الموساد وعبّر له "بطريقة حيوية تماماً" عن رأيه". ولنا ان نفترض بثقة ان السلطات القبرصية كانت ترصد تحركات رجلي الموساد اللذين اعتقلتهما في وقت لاحق، ابتداءً من لحظة وصولهما الى مطار لارنكا وهما يحملان اسمين مزيفين في جوازي سفرهما. وعندما اعتقلتهما الشرطة القبرصية في الساعة الرابعة من صباح 7 تشرين الثاني نوفمبر، كانا يستخدمان اجهزة رصد للتنصت على الاتصالات اللاسلكية للشرطة او الجيش. وعثرت الشرطة على اجهزة كومبيوتر حضنية واقراص كومبيوتر واجهزة هاتف نقالة. وجرى الاتصال بشرطة سكوتلنديارد في محاولة لكشف بعض الاتصالات الهاتفية التي اجراها الرجلان، علماً ان اجهزة الهاتف النقال ترتبط بشركة في انكلترا. واتضح ان بعض الاتصالات تم مع معهد استخباري في تل ابيب. لا شك لدي في ان "الشراكة الاستراتيجية الاسرائيلية التركية" التي تطورت بتحفيز من اميركا تقف وراء هذا الحادث. فجمهورية قبرص تدرك جيداً ان تركيا تسهر على "الدولة الانفصالية" التي اعلنها دنكطاش زعيم القبارصة الاتراك من طرف واحد في شمال الجزيرة، وان اسرائيل تسهر على تركيا الآن. وتنوي الحكومة القبرصية الحصول على عدد غير معروف من صواريخ ارض - جو من طراز "إس -300" من روسيا في مطلع 1999. وتعهدت تركيا تدمير هذه الصواريخ عند وصولها، وهي تحرص على ان تحصل مسبقاً على كل ما يمكن من المعلومات الاستخبارية حول مواقعها واجهزة الرادار وانظمة السيطرة الخاصة بها. ولا شك ان تركيا طلبت من اسرائيل ان تقدم لها كل مساعدة ممكنة. واُفيد في نيقوسيا ان طائرتين اسرائيليتين من طراز "إف -16" اخترقتا المجال الجوي لقبرص قبل بضعة اسابيع، وربما كان ذلك محاولة لتصوير مواقع ومنشآت. وفي اعقاب اعتقال رجلي الموساد، ناشد وزير الخارجية الاسرائيلي ارييل شارون وسائل الاعلام الاسرائيلية ان تتعامل مع المسألة "بتعقل". ومضى رئىس الوزراء بنيامين نتانياهو ابعد من ذلك، وتعهد ان يعيد الاسرائيليين الى البلاد. وافادت صحيفة "هآرتز" الاسرائىلية ان افراييم هاليفي قبل استقالة رئىس قسم العمليات في الموساد الذي لا يُعرف علناً الاّ بالرمز "واي". وعلى مثل هذه الخلفية، لا تتمتع بأي صدقية ادعاءات الحكومة الاسرائيلية بان الرجلين لم يهدفا الى الحاق الاذى بمصالح قبرص او التجسس لصالح تركيا. تدرك قبرص جيداً ان اسرائيل وتركيا هما القوتان العدوانيتان في المنطقة، وانها تواجه تهديدات من "المحور الجديد"، اذا استعرنا تعبير نتانياهو، بين الدولتين. وتدرك قبرص انها تحظى بقدر كبير من التعاطف داخل الاتحاد الاوروبي، ويستمر التفاوض في شأن عضويتها في الاتحاد منذ اذار مارس الماضي. لكن لا يوجد أي تأييد من جانب الاتحاد الاوروبي، وحتى في اليونان، للمضي قدماً في نشر صواريخ "إس - 300" الروسية. انها مشكلة صُنعت في نيقوسيا. واذا كان التراجع عن هذه الخطوة لا يزال صعباً، فإن تأخير تسليم هذه الصواريخ سيكون عملاً حصيفاً. * سياسي بريطاني، نائب سابق من المحافظين.