يتابع الآسيويون والعالم، باهتمام النسخة الماليزية من فضيحة كلينتون - لوينسكي. ويتأكد معها، خلافاً لكل اعتقاد آخر، ان النموذج الاميركي ما زال قابلاً للتصدير. فإذا كان الأوروبيون نظروا باشمئزاز الى نشر الغسيل الشخصي الوسخ في واشنطن فإن هناك، في كوالالامبور، من تعمد استيراد المسلسل والاكتفاء، الى حد بعيد، بدبلجته من أجل عرضه على الشاشات المحلية. انفجرت الأزمة فجأة عندما شرعت الاتهامات تنهال على نائب رئيس الوزراء وزير المالية انور ابراهيم. ولم تكن اتهامات من أي نوع، فهي لا تقل عن الفجور الجنسي واللواط والتمرد والخيانة الوطنية ومخالفة القوانين المانعة للتظاهرات. وقد رد على ذلك باستنفار أنصاره في البلاد ودفعهم الى السير في الشوارع بعشرات الآلاف وهم يرددون الشعار المستعار من اندونيسيا والذي أسقط سوهارتو: الإصلاح. وبما ان المرجعية الاميركية حاضرة بقوة فقد انصرف المراقبون الى عقد المقارنات بين قضيتي انور ابراهيم وبيل كلينتون. وجرى، في هذا السياق، اكتشاف أوجه الشبه الآتية: أولاً، التركيز على الاتهامات الجنسية. ففي حالة كلينتون تناسى تقرير المحقق كنيث ستار القضايا المالية التي كانت في أساس تعيينه وحصر اتهاماته بمحاولة اثبات ان الرئيس مارس الجنس مع مونيكا لوينسكي وانه، بالتالي، كذب تحت القسم وشجعها على ذلك. وهذا ما حصل مع أنور ابراهيم. وجهت اليه لائحة اتهامات لم يبق منها في الأذهان سوى انه "منحرف جنسياً" وانه مارس اللواط مع شقيقه بالتبني ومع الشاب الذي يكتب له خطاباته، فضلاً عن اقامة صلات مع مومسات وبالجملة. وإذا كان المجتمع الاميركي "البوريتاني" انشق على نفسه حيال "فعلة" رئيسه، فإن في الامكان تقدير رد فعل المجتمع الماليزي، خصوصاً في شقه الاسلامي المحافظ. ولعل الاتهامات الموجهة الى أنور ابراهيم أقسى لأنه يقدم نفسه بصفته مؤمناً ممارساً كان ذات مرة رئيساً لاتحاد الطلبة المسلمين ومن المعجبين بقائد الثورة الايرانية! عزيرة... وهيلاري ثانياً، ما ان ظهرت القضية الى العلن حتى راجت نظريات المؤامرة. رئيس الوزراء مهاتير محمد يؤكد ان نائبه كان يخطط لخلعه، وهذا يقول ان النيل منه سببه اطلاعه على أسرار تفضح الفئة الحاكمة وفسادها وسرقتها للأموال العامة وسوء استخدامها للسلطة. وكما في الحالة الاميركية تولت زوجة المتهم، وهي في ماليزيا عزيزة اسماعيل، أمر صياغة نظرية المؤامرة. كانت هيلاري أشارت الى وجود خطة لدى أقصى اليمين الاميركي لمعاقبة بيل على "ليبراليته" والوصول اليها ايضاً، والمعروف انها لعبت دوراً بارزاً في تنظيم دفاعات البيت الأبيض وتولت الحض على اعتماد سياسة هجومية. كذلك فعلت عزيزة بعد اعتقال زوجها. قالت انها سترفع الراية من بعده مثل صونيا غاندي، وبنازير بوتو... وصعدت من لهجتها الاعتراضية واعتبرت ان اتهام أنور باللواط هو مقدمة لحقنه بفيروس "إيدز" من أجل الخلاص منه. وعندما سئلت عما اذا كانت تعتبر نفسها مثل هيلاري كلينتون رفضت ذلك بقوة بحجة ان الاتهامات ضد زوجها كاذبة فلا مجال بالتالي للمقارنة. ثالثاً، في الفضيحة الاميركية كما في الفضيحة الماليزية كان للاعلام الدور المميز وبشكل خاص للتلفزيون، ولقد وصل الامر الى ذروته في نشر تحقيق ستار عبر شبكة "انترنت" ثم في بث الشهادة التي أدلى بها كلينتون. وتكرر الأمر في ماليزيا، ولو بطريقة مختلفة بعض الشيء. لم يكثر مهاتير محمد من الكلام، ولما فعل ذلك اعتذر عما ورد في الاتهامات من كلام إباحي وخاطب الصحافيين بقوله: "انه لا يملك أي تأثير عليهم وهو يعرف تماماً العداء الذي تكنه له وسائل الاعلام الاجنبية والموروث من حملاته على الأوساط الغربية التي سبق له اتهامها بتدبير الأزمة المالية التي تعاني منها ماليزيا. في المقابل "نجح" انور ابراهيم في تسجيل مجموعة رسائل بالفيديو تولت محطات تلفزة عاملة خارج البلاد إرسالها. وهو يبدو فيها مدافعاً عن نفسه، مهاجماً خصومه ومخاطباً أولاده لتنبيههم من "الأكاذيب التي تطاله وتحاول تشويه سمعته"، داعياً إياهم الى عدم التصديق طبعاً والى عدم الشعور بالإحباط والى الاتكال على أمهم التي تعرف الحقيقة وتعرف كيف تربيهم. رابعاً، ليس سراً ان هناك خلفية سياسية لمطاردة كنيث ستار لبيل كلينتون. فالمحقق لا يخفي قربه من الأوساط اليمينية المتطرفة في الحزب الجمهوري ولا من الاصوليين المسيحيين "كارهي كلينتون" حسب التسمية التي يطلقونها على أنفسهم. ولقد تأكد وجود هذه الخلفية مع الانقسام الحزبي للنواب الاميركيين وأجواء الاستنفار التي يعيشها الجمهوريون والديموقراطيون. والواضح ان المعسكرين يحتكمان الى الرأي العام ويراقبان بقلق نتائج الاستطلاعات شبه اليومية. يمكن القول، كذلك، ان ثمة خلافات سياسية نشأت بين مهاتير محمد ونائبه أنور ابراهيم تتعلق بطريقة معالجة نتائج الأزمة المالية. فقد حاول كل منهما التوجه مباشرة، وبقدر المستطاع، الى الرأي العام المحلي أولاً والعالمي ثانياً. فعندما انفجرت القضية كانت ماليزيا تستضيف الألعاب الرياضية للكومنولث ومعها زائرة ذات اهمية استثنائية: الملكة اليزابيث، ومع ان هذه الأخيرة معتادة، بعض الشيء على الفضائح ذات الطابع الجنسي، فإن مهاتير تعمد عدم التصعيد أثناء وجودها، على العكس من ذلك، قدم أنور ابراهيم على تحريك جماعاته محاولاً الاستفادة من الحشد الاعلامي الموجود لتغطية الألعاب وحث مناصريه على التوجه نحو الملاعب وأماكن التجمع. وقد فسر مهاتير هذا السلوك بأنه تأكيد لوجود مؤامرة تستهدف زعزعة استقرار البلاد، هذا الاستقرار الذي كان وما زال، في رأيه، عنصر الجذب الأول للاستثمارات. التهمة القاتلة إذا كانت هذه أبرز معالم الشبه بين القضيتين فإن عناصر أخرى كثيرة تميز بينهما. أولاً، في الولاياتالمتحدة يقف الرئيس شخصياً في قفص الاتهام مثل أي مواطن عادي. والشكوى، هناك، قائمة من تجاوز القاضي لصلاحياته، أو بالأحرى، من إفراطه في استخدامها. اما في ماليزيا فإن الرئيس هو المتحكم بسير الأمور وهو الذي يصب غضبه على شخص كان اختاره لوراثته سياسياً ثم قرر التخلص منه. ثانياً، أظهرت التجربة الاميركية مدى نفاذ فكرة الفصل بين السلطات واستقلالية كل واحدة حيال الأخرى. أما في الحالة الماليزية فالأمر شبه معدوم بدليل ان رئيس الوزراء "اغتصب" دور المحقق ولعب مكان كنيث ستار فاستدعى الشهود الى القصر واستصرحهم وحصل منهم على الاعترافات التي يريد ثم أمر بوضعهم في السجن. ثالثاً، يخضع تطور القضية في الولاياتالمتحدة الى شبكة معقدة من المداولات وإلى عملية تصاعدية في اتخاذ القرار. وهكذا، مثلاً، فإن اللجنة ستصوت على امكان الشروع في مناقشة توصية ستار بعزل كلينتون. فإذا وافقت يرفع الأمر الى مجلس النواب. فإذا وافق بالاكثرية البسيطة يرفع الأمر الى الكونغرس الذي يجب عليه ان يصوت بأكثرية الثلثين. ويحصل هذا لسبب بسيط هو ان النظام ديموقراطي. اما في ماليزيا فنحن أمام ديكتاتورية كانت توصف بالمتنورة ثم أخذت تفقد هذه السمة. لقد عزل انور ابراهيم وبات في السجن حتى قبل المحاكمة. والأنكى من ذلك انه مسجون بموجب قانون بريطانيا من أيام الاستعمار هو نفسه الذي تطبقه اسرائيل بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ويسمح هذا القانون باعتقال اداري يمكن تمديده الى ما لانهاية، وذلك من دون الاضطرار الى اجراء محاكمة! يمكن القول إن قضية كلينتون أكثر وضوحاً من قضية انور ابراهيم سواء لجهة المخالفة الشخصية أم الخلفية السياسية. ولذلك يمكن القول بأنه لن يكون سهلاً معرفة ما إذا كان نائب الرئيس المخلوع فاحشاً بالفعل وان كان يمكن القول بأنه يدفع ثمن خلافه مع رئيسه. لقد اختار مهاتير ان يواجه الأزمة المالية باتخاذ مجموعة من التدابير الحمائية وصلت الى حد فرض الرقابة على حركة رؤوس الأموال. ولقد خالفه انور ابراهيم في ذلك، معتبراً ان للأزمة أسبابها الداخلية وان العلاج يكون بمزيد من الانفتاح على الخارج. ويفسر هذا الاختلاف سر التعاطف الكبير الذي يلقاه الرجل في الاعلام الغربي. فلقد جرى تقديمه، منذ اشهر، بصفته النموذج الجديد للقيادات الآسيوية الأقل فساداً والأكثر انفتاحاً اقتصادياً وسياسياً حسب "نيوزويك" و"واشنطن بوست". ولقد أحس مهاتير بأن هذا التقديم يوحي بالسيناريو الاندونيسي لذلك بادر الى الهجوم. ولم يمنعه ذلك من التصريح بأنه كان يعرف عن "شذوذ" انور ابراهيم منذ سنوات ولكنه سكت، ولم يتحرك إلا عندما أدرك ان زعامة ماليزيا ستكون معقودة اللواء لپ"لوطي". ويعني ذلك ان "الشذوذ" المؤكد لابراهيم هو رغبته في دفع العجوز الماليزي الى مغادرة المسرح قبل نضوج الشروط المناسبة اندونيسيا : البحث عن الكنز المفقود الرياضة الوطنية المفضلة عند الاندونيسيين هي التباري في تقدير حجم الثروة التي جمعها سوهارتو في 32 سنة من الديكتاتورية. تتفاوت الارقام بين حد ادنى من ملايين الدولارات وحد اقصى يصل الى اربعين بليون دولار، اي ما يناهز مجموع القروض التي قدمها صندوق النقد الدولي و"الدول المانحة" لإقالة البلاد من عثرتها. اعتقد الاندونيسيون، قبل ايام، بأن هذا السر سيكشف طالما ان المحقق محمد غالب قابل الرئيس المخلوع في اطار التحقيقات التي يجريها حول فساد العهد السابق. غير ان هذه الآمال تبخرت بسرعة بعد الاعلان عن صعوبة التوصل الى معرفة الحقيقة واحتمال اغلاق الملف. رداً على ذلك عاود الطلاب تظاهرات الشوارع التي ادت قبل اشهر الى التغيير في قمة السلطة. وحاول الرئيس يوسف حبيبي تطويق التذمر بالقمع وتكليف الجيش حفظ الأمن. ولكن سرعان ما تبين ان الامور قد تفلت مجدداً ما لم يحصل الاندونيسيون على اجوبة واضحة حول الاموال المسروقة. بناء على ذلك اعيد فتح التحقيق و"تبرع" سوهارتو بتقديم رسائل تطالب المصارف بالكشف عن حساباته واظهار ما فيها واعادة الاموال، في حال وجودها، الى الخزينة. وتعهد، كذلك، بعدم مغادرة البلاد. يشك المراقبون في ان يتم التوصل الى نتائج ملموسة وذلك للأسباب التالية: 1 - من المرجح ان تكون المبالغ المنهوبة موضوعة بأسماء ابناء الرئيس السابق وبناته وأصدقائه. ولذلك فمن دون التوسع في التحقيق لن يكون ممكناً فك هذا اللغز. 2 - ليس لأصحاب السلطة الحالية مصلحة في هتك الاسرار. كثيرون منهم شاركوا في الحكومات السابقة والشبهات حولهم كثيرة خصوصاً اذا احس سوهارتو انه محشور وقرر الكلام. وينطبق ذلك بصورة محددة على حبيبي الذي كشفت تقارير صحافية انه، هو الآخر، يعرف توزيع المغانم على المقربين منه. 3 - اذا كان الجيش هو العمود الفقري للحكم الاندونيسي، وهو كذلك، فانه سيعارض تعويد المواطنين على عمل لجان تحقيق تذهب حتى النهاية. فمن المعروف انه اجرى تطهيراً جزئياً في صفوف قيادته من اجل ان يغلق ملف الاسئلة حول التعذيب وعمليات الاخفاء والقمع سواء ضد المعارضين او في تيمور الشرقية. ان التظاهر بالتفتيش عن الحقيقة سيشغل الاندونيسيين لبعض الوقت في حين تتكفل الازمة الاجتماعية المتفاقمة ملايين العاطلين عن العمل، مجاعة زاحفة... بإرغامهم على السعي الصعب نحو تحصيل رزقهم. ولكن هذه الازمة بالذات هي التي تحض ايضاً على كشف مصير البلايين المختفية وتضغط على حبيبي مانعة اياه من حماية راعيه القديم. ولعل هذا المشهد هو الذي حسم في ماليزيا مصير انور ابراهيم. فمع ان مهاتير محمد اقل فساداً، بما لا يقاس، من سوهارتو فإنه خشي ان يكون ابراهيم يتعلم من تجربة حبيبي