قبل اقل من شهر واحد على بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية 23 ايلول/ سبتمبر - 23 تشرين الاول/ اكتوبر، وجد قائد الجيش اللبناني العماد اميل لحود نفسه معنياً بتحديد موقف من هذا الاستحقاق داخل المؤسسة العسكرية ولها. فأوعز الى مديرية التوجيه في القيادة تعميماً بدا بمثابة "أمر يوم" شفوي على ضباط التوجيه في القطع العسكرية يُبلغ الى كل ضباط الجيش. ومفاده الآتي: 1 - في ظل المعلومات التي تتردد عن امكان انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية بعد تعديل المادة 49 من الدستور. فان هذا الانتخاب يخصّ العماد لحود الشخص وحده لا المؤسسة العسكرية، غير المعنية في كل حال بالاستحقاق، ولا بتداول اسم قائدها في موضوع الانتخابات الرئاسية، ولا اعتباره مرشحاً، ولا استعدادها للاضطلاع بأي دور مستقبلي. 2 - في حال انتخب مجلس النواب العماد لحود رئيساً للجمهورية، فهو وحده المعني بنتائج هذا الانتخاب لا المؤسسة العسكرية. والذهاب الى القصر الجمهوري يعني شخص العماد لحود دون الجيش، دحضاً لكل اعتقاد بانتقال السلطة المدنية الى المؤسسة العسكرية. 3 - في حال لم يُنتخب العماد لحود رئيساً للجمهورية فان العمل داخل المؤسسة العسكرية لن يتأثر بهذه النتيجة، ولن تكون ثمة خطوة من شأنها تجاوز القوانين النافذة التي تلتزم قيادة الجيش تنفيذها من خلال تطبيقها القرارات الصادرة عن السلطة الدستورية الممثلة بمجلس الوزراء. 4 - ان حرص قائد الجيش على التزام الاصول الدستورية والقوانين مؤداه عدم بلوغ رئاسة الجمهورية الا تبعاً للاحكام الدستورية والقانونية التي توجبها هذه الاصول، وتبعاً لارادة مجلس النواب. ويتعين عملاً بذلك عدم توقع رد فعل سلبي من قيادة الجيش، ناشئ من عدم انتخاب العماد لحود. وبمقتضى هذه التوجيهات الشفوية التي أُبقيت داخل جدران المؤسسة العسكرية، اراد اميل لحود من جهة تحديد موقفه الشخصي وكقائد للجيش من الاستحقاق الرئاسي، ومن جهة اخرى الزام القيادات التبعات المترتبة على هذا الموقف. كذلك رمى وفقاً لما بلغ مسامعه، الى وضع حد لالتباسات سرت داخل الجيش نقلاً عن اوساط سياسية وشعبية عدة، تأثر بها عدد وافر من الضباط، لا سيما الكبار منهم، اذ ذهبوا بعيداً في تأويل الدور المقبل للجيش في حال انتخاب قائده رئيساً، وتحديداً استعادة تجربة عهدي الرئيسين فؤاد شهاب وشارل حلو اللذين شهدا تدخلاً حاداً للجيش في الحياة السياسية والديموقراطية. بدا "أمر اليوم" المبادرة الوحيدة التي تخطى بها العماد لحود انقطاعه الكامل عن التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي، في ظل تفلّت الاتجاهات النيابية والسياسية في الشهرين الاخيرين من ضوابط مسار المعركة الانتخابية، لتتمحور حول ضرورة تعديل المادة 49 من الدستور وتأييد انتخابه رئيساً، بالتزامن مع معلومات مصدرها دمشق، لم يتردد الرئيسان نبيه بري، ورفيق الحريري في تكرارها وتُفيد بطي صفحة تمديد ثان محتمل للرئيس الياس الهراوي. ساهم الرئيس نفسه في تعزيز صحتها، بقوله بشكل شبه يومي انه زاهد في السلطة وعازم بالتأكيد على مغادرة القصر الجمهوري في الدقيقة الاخيرة من ولايته الرئاسية الطويلة 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989 - 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 1998. في مقابل هذا وذاك، امتنع اميل لحود عن استقبال الصحافيين والردّ على مكالماتهم، وأمر الاجهزة المعنية بالاعلام في القيادة مديريتي التوجيه والمخابرات عدم الخوض في كل ما يمت بصلة الى الاستحقاق الرئاسي، سوى من عبارة بسيطة ومقتضبة: الجيش، كما قائده، غير معني لا من قريب ولا من بعيد بكل السجال الدائر حول الانتخابات الرئاسية ولا بترشحه. الرئاسة المؤجلة منذ التمديد لإلياس الهراوي في 19 تشرين الاول اكتوبر 1995 اضحى قائد الجيش في صلب الاستحقاق الرئاسي التالي بعدما فقد فرصة انتخابه سنتذاك رئيساً للجمهورية، على رغم استقطابه غالبية مُرجحة في البرلمان تدعم وصوله الى سدة الرئاسة. على ان حديث الرئيس حافظ الاسد الى "الاهرام" 11 تشرين الاول/ اكتوبر عن رغبة لبنانية في التمديد - هي في الواقع رغبة النخب الاكبر في ابقاء الوضع الداخلي اللبناني على حاله - أطلق "كلمة السر" القاضية باستمرار الهراوي في السلطة ثلاث سنوات جديدة. في موازاتها مددت حكومة رفيق الحريري لاميل لحود في قيادة الجيش ولاية مماثلة تنقضي بانقضاء ولاية رئيس الجمهورية خريف العام 1998. وكان هذا الموقف متخطياً مجرد تعديل قانون السن الملزمة لتقاعد الضباط من رتبة عماد، في الشهر التالي للتمديد لإلياس الهراوي في 15 تشرين الثاني نوفمبر تعبيراً عن ارادة سورية مباشرة وصريحة باستمرار وجود إميل لحود في قلب المعادلة السياسية، وبتلازم تعزيز دمشق مواقع حلفائها السياسيين اللبنانيين في مناصب السلطة ورهانها على الجيش اللبناني وقائده. سمعت دمشق، كما معظم المسؤولين اللبنانيين الذين وصلوا الى الحكم بعد إقرار تسوية الطائف عام 1989 بالعميد البحري إميل لحود من مواليد بعبدات 10 كانون الثاني/ يناير 1936 متأخرين. بالنسبة اليهم جميعاً هو ضابط بحري ماروني من بيت سياسي وعسكري. والده جميل لحود لواء متقاعد في الجيش حال فؤاد شهاب بعد انتخابه رئيساً عام 1958 دون وصوله الى قيادة الجيش خلفاً له، إلا انه أتاح له بلوغ مقاعد مجلس النواب في دورتين متتاليتين في 1960 و1964. ثم أضحى جميل لحود وزيراً في عهد شارل حلو. ولم يتردد كمال جنبلاط في ترشيحه لرئاسة الجمهورية العام 1964. كما خاض اللواء نفسه تلك المعركة في استحقاق 1970 وحاز خمسة أصوات فقط. ومع ذلك ظل إميل لحود على هامش الحياة السياسية على رغم انخراط بيته في العمل السياسي في النيابة والوزارة مع والده. كما مع ابني عمه سليم وفؤاد لحود تباعاً من الخمسينات الى السبعينات، مكتفياً بوجوده في القاعدة البحرية لبيروت ثم رئيساً لقسم النقل في الشعبة الرابعة في وزارة الدفاع الوطني، فرئيسياً لمكتب قائد الجيش، فمديراً للأفراد، ثم رئيساً للغرفة العسكرية التابعة للوزير، فقائداً للجيش بعد بضعة أيام على انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية، في تشرين الثاني نوفمبر 1989. لم تكن دمشق تعرف الضابط لحود، كما لم يعرف هو بدوره أياً من مسؤوليها، ولم يزر من قبل مسؤولاً سورياً عسكرياً أو مدنياً في لبنان ولا في سورية. إلا ان مطلع العام 1993 أضاف تحولاً كبيراً الى سمعة العماد لحود في قيادة الجيش. في 31 كانون الثاني يناير من ذلك العام، تلقى قائد الجيش دعوة رسمية من رئيس الأركان العامة في الجيش السوري العماد حكمت الشهابي لزيارة دمشق على رأس وفد عسكري ضم رئيس الأركان وكبار الضباط ومدير المخابرات، لإجراء محادثات عسكرية. قوبل لحود في العاصمة السورية باستقبال حافل ولقاءات جمعته مع مسؤولين مدنيين وعسكريين، من غير ان يتضمن برنامج الزيارة استقبال الرئيس حافظ الأسد له. في اليوم التالي فاجأه الشهابي بأن الرئيس الاسد سيستقبله تعبيراً عن تقديره له. استمرت المقابلة ثلاث ساعات لم يُفصح اميل لحود عن مضمونها لأي من المسؤولين اللبنانيين، قائلاً لصديق سأله عنها لاحقاً: "إنها ملك الرئيس الأسد"، من غير ان يكتم أمام محدثه إعجابه بشخصية الرئيس السوري ذي الرؤية الواضحة جداً للمنطقة ومشكلاتها". ولم تكن تلك زيارته الأولى لدمشق، ففي 27 تشرين الثاني نوفمبر 1990 ذهب اليها لاستعادة عدد من الضباط المؤيدين لميشال عون من بينهم شامل موزايا ومخول حاكمة ولويس خوري ومارون أبو ديوان أوقفهم الجيش السوري أثناء تنفيذ العملية العسكرية اللبنانية - السورية في 13 تشرين الأول اكتوبر التي أخرجت العماد عون بالقوة من قصر بعبدا واليرزة. العقيدة العسكرية يكاد يجمع السياسيون اللبنانيون على بضعة أفكار في معرض تزكيتهم انتخاب إميل لحود رئيساً للجمهورية أبرزها اثنتان: الأول، فصل السياسة عن العسكر، ومنع تدخل المؤسسات السياسية والسياسيين في شؤون الجيش. ثانياً، إرساء عقيدة للجيش شكلت تتويج توحيده وإعادة بنائه. وفي اعادة البناء هذه أرسى إميل لحود قاعدتين اثنتين: الأولى دمج القوى العسكرية على مستوياتها المختلفة، استمرت اكثر من سنة وترافقت مع اجراء تبديلات في الأولوية بين المناطق وتوسيع نطاق انتشارها على كل الأراضي اللبنانية، فلا يقتصر وجود لواء على منطقة من دون اخرى، أما الثانية فتوزيع الأسلحة والمعدات على كل الألوية بالتساوي تفادياً للتمييز في ما بينها على غرار ما ساد في مرحلة مطلع الثمانينات. وتبعاً لذلك حدد آليتين أبرزتا الوظيفة الأولى للجيش: استعادة سلطة الدولة على كل أراضيها وتعميم الأمن الشرعي من جهة. واعادة بناء الجيش وتنظيمه وتقويته من جهة اخرى تعزيز القدرات والتسلح والتجهيز والتدريب الموحد والمعسكرات المشتركة والتطوع وتطبيق خدمة العلم والتقديمات الاجتماعية.... أما القواعد التي أرسى عليها عقيدة الجيش، فتكمن في الآتي: 1- في المواجهة مع اسرائيل في الجنوب والبقاع الغربي، عبر الأوامر المسبقة بالرد على أي اعتداء اسرائيلي. 2- في حفظ الأمن الوطني في الداخل انطلاقاً من التزامه قرارات السلطة المركزية التي تأتمر بها المؤسسة العسكرية، وهي مجلس الوزراء بواسطة وزير الدفاع الوطني صلة الوصل مع قيادة الجيش. 3- في تمييز القيادة بين العدو والصديق، على النحو الذي يجعل من اسرائيل العدو الأول للبنان وأمنه واستقراره ووحدته الوطنية، واعتبار مقاومتها حقاً مشروعاً. 4- ترسيخ العلاقات مع سورية بدءاً بالتعاون بين الجيشين اللبناني والسوري لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي