اختلفت الأرقام والتقديرات عن حجم القتلى الذين سقطوا في غرب الجزائر خلال شهر رمضان الدامي حتى الآن. فالاحصاءات الرسمية تتحدث عن حصيلة لا تتجاوز 500 ضحية، في حين يرتفع هذا العدد الى ثلاثة اضعاف في تقديرات المراقبين المحليين والخارجيين. ويتضح من الايقاع المتسارع لأعمال القتل الجماعية، أن عدد الضحايا مرشح للارتفاع أكثر فأكثر، اذ لا يمضي يوم واحد من أيام الصوم إلا ويحمل معه أرقاماً سوداوية جديدة، حيث تتجول آلة القتل في قرى وبلدات وأماكن معزولة في غرب البلاد وعلى أطراف محافظة الجزائر نفسها. وعلى رغم ان العنف الدموي والقتل العشوائي الذي يشمل المدنيين من مختلف الأعمار ومن الجنسين، لم يتوقف منذ أكثر من خمس سنوات، فإن المجازر الجديدة تحصل في ظل ظروف سياسية مختلفة، أبرزها خروج "الجبهة الاسلامية للانقاذ" أو ما تبقى منها من ساحة العمل المسلح، واستكمال العمليات الانتخابية المختلفة، والضغط الدولي المتزايد للتدخل في الأزمة الجزائرية. وتفيد التطورات الأخيرة أن أعمال القتل والمجازر لم تتوقف بخروج "الجبهة الاسلامية" من الصراع، وان استكمال بناء المؤسسات الجديدة لم يضع حداً للأزمة، وأن ردود الفعل الدولية التي أثمرت عن اشكال خجولة من التحرك والتدخل في الأزمة الجزائرية، ما زالت غير مؤهلة لوضع حدٍ لعذابات المدنيين الجزائريين، لكنها تبقى الوجهة الوحيدة التي تستأثر باهتمامات الشارع الجزائري، باعتبار أن الجامعة العربية والدول العربية المعنية بالشأن الجزائري عبّرت صراحة عن دعمها الحكومة ورفضها أي تدخل خارجي في شؤون الجزائر، أي في السياسة التي تقودها هذه الحكومة منذ بداية الأزمة. ويرى مراقبون في العاصمة الفرنسية ان قبول الحكومة الجزائرية ببعثة أوروبية تمثل الترويكا التي تدير الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الستة الجارية، والمؤلفة من بريطانيا واللوكسمبورغ والنمسا ثم تراجعها عن استقبال هذه البعثة بحجة أنها تضم مدراء وزارات الخارجية في الدول الثلاث لا يضع حداً للتدخل الأوروبي. ويعتقد المراقبون أنفسهم ان قبول السلطات المحلية المبادرة الأوروبية ناتج عن ازدياد الضغوط عليها خلال النصف الأول من شهر رمضان، وهي ضغوط صدرت عن بلدان يهم الجزائر أن تحتفظ بعلاقات وثيقة معها، شأن المانيا التي تعتبر شريكاً اقتصادياً أساسياً لهذا البلد وتؤوي مجموعات اسلامية جزائرية مهمة، في طليعتها رئيس الهيئة التنفيذية ل "الانقاذ" رابح كبير، وبريطانيا التي تعتبر شريكاً اقتصادياً للجزائر، وتؤوي هي الأخرى جماعات اسلامية جزائرية من جميع التيارات، وتعتبر قاعدة مهمة للاسلاميين اللاجئين، بل القاعدة الأبرز لهم في أوروبا. فضلاً عن رئاسة بريطانيا للاتحاد الأوروبي لهذه الدورة وحاجة الجزائر لدول الاتحاد على أكثر من صعيد. وإذا كانت الحكومة الجزائرية قد رضخت للمبادرة الأوروبية فانها رضخت ايضاً لضغوط أميركية وقبلت باستقبال موفد للأمم المتحدة مهمته التحقق من احترام حقوق الانسان في الجزائر. ولعل هذه الموافقة جاءت لتحل مشكلة المطالبة الأميركية بلجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة لتقصي الحقائق كانت واشنطن قد اقترحت تشكيلها من قبل. والراجح ان المسؤولين الجزائريين والأميركيين توصلوا الى تفاهم على حل وسط يقضي بأن تتخلى الولاياتالمتحدة عن مطلب لجنة التحقيق في مقابل موافقة الجزائر على استقبال مبعوث أممي لحقوق الانسان. غير أن الأميركيين عبروا عن ثقتهم ودعمهم للمبادرة الأوروبية ولم يكتفوا باقتراح المبعوث الأممي. ولعل المساعي الجزائرية الحثيثة في قبول المبادرتين الأوروبية والأميركية من جهة وتحجيم أثرهما على الوضع الداخلي من جهة أخرى، ما زالت مستمرة، وقد تمكنت السلطات المحلية من اقناع الأوروبيين والأميركيين بأن يتم التحرك الدولي تحت شعار "معاونة الحكومة الجزائرية في مكافحة الارهاب والتضامن مع الجزائر" ويبذل الاعلام الرسمي الجزائري والناطقون الرسميون جهوداً كبيرة لتقويم التدخل الخارجي بوصفه رديفاً لجهود الحكومة في مكافحة الارهاب، وهو أمر ساهمت فيه ايضاً بعض التصريحات الأوروبية، خصوصاً الفرنسية منها التي تحدثت عن التضامن مع الجزائر وليس مع الارهابيين. وحاولت الحركة الديبلوماسية الجزائرية استباق أي "انحراف" في التدخل الأوروبي والأممي الذي يبدأ في 26 الشهر الجاري، لذا أعلن الرئيس زروال عن محادثة هاتفية مع الأمين العام للجامعة العربية الدكتور عصمت عبدالمجيد الذي أكد، حسب مصادر الرئاسة الجزائرية، دعم الجامعة للدولة الجزائرية في النضال ضد الارهاب ورفضها أي تدخل خارجي في شؤون الجزائر. كما استطاعت الحكومة الجزائرية أن تحصل على موقف روسي قوي في هذا المجال عبّر عنه ناطق باسم الخارجية الروسية بقوله ان بلاده تثق بقدرة الحكومة الجزائرية على مكافحة الارهاب. في حين التزم وزير الخارجية الصيني كيان كيشين الصمت خلال زيارته الأخيرة للجزائر وفضل تجاهل ما يحصل فيها والحديث عن أزمة الشرق الأوسط. وتتيح هذه المواقف للحكومة الجزائرية تحجيم أثر المبادرتين الأوروبية والأممية على الأوضاع الداخلية. واستعانت حكومة الرئيس زروال بهذه المواقف للتذكير بمواقفها التقليدية من الأزمة، لقطع الطريق على التدخل الأوروبي، مؤكدة ان لا حوار مع الاسلاميين، وان هذا الحوار تم وانتهى قبل أربع سنوات مع المعارضة الرسمية، وان لا شيء يدعو للتحقيق في المجازر لأن مرتكبيها معروفون وينتمون الى "الجماعة الاسلامية المسلحة" الجزائرية وان الدولة تجابه ارهاب "الجماعة" وتحتاج الى التضامن الأوروبي لمكافحة الارهاب في أوروبا وليس في الجزائر. وتلقت السلطات الجزائرية في مساعيها الرامية لتحجيم التدخل الأوروبي، دعماً ملحوظاً من الأحزاب المعارضة باستثناء "جبهة القوى الاشتراكية" التي يتزعمها حسين آيت أحمد، فقد أكدت هذه الأحزاب رفضها أي تدخل في الشؤون الجزائرية، وذهب السيد سعيد سعدي زعيم حزب "التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية"، البربري العلماني، الى أبعد من ذلك، عندما أكد ان التدخل الخارجي يبتغي التغطية على "الارهاب الاسلامي" في حين أكد انصار آيت أحمد ترحيبهم بالمبادرة الأوروبية، وكان زعيم "جبهة القوى الاشتراكية" قد طالب مراراً بتدويل الأزمة و"بالمصالحة الوطنية" وبالتحقيق الدولي في المجازر وهي مطالب لا تبتعد كثيراً من مطالب جبهة "الانقاذ الاسلامية" في الخارج. وإذا كانت المواقف الدولية منقسمة بين مؤيد للحكومة الجزائرية وغير راغب في استفزازها، فإن الموقف الايطالي يذهب في اتجاه آخر حيث يرى وزير الخارجية لمبرتو ديني أن لا بد من المصالحة والتحقيق في المجازر، علماً بأن ايطاليا كانت على الدوام ترغب في رعاية حل سياسي للأزمة الجزائرية، وقد سبق لها أن استضافت المعارضة الجزائرية في العام 1994 التي وقعت اتفاق "سانت ايجيديو" الشهير. موقف إيراني مثير ويبقى الموقف الايراني الأكثر إثارة بين المواقف الدولية من الأزمة الجزائرية، وهو يخدم بصورة غير مباشرة التصلب الرسمي الجزائري، خصوصاً ان السيد ناطق نوري رئيس مجلس الشورى الايراني يحمل السلطات الجزائرية مسؤولية المذابح ويدعو الى تولي الاسلاميين الحكم، وعليه لن يصعب على ممثلي الدولة الجزائرية تقديم هذه التصريحات بوصفها دليلاً حاسماً على أن المذابح الجزائرية يرتكبها متطرفون تدعمهم طهران. يسمح ما تقدم باستخلاص عدد من النتائج التي ستتحكم بالأزمة الجزائرية خلال الفترة المقبلة ويمكن حصرها بالخطوط العريضة الآتية: أولاً: دخول الأزمة الجزائرية عتبة التدويل لأن تدخل أوروبا والولاياتالمتحدة، بغض النظر عن شكل هذا التدخل وحجمه يعتبر محطة جديدة في مسار الأزمة ولن يكون التدخل الأول والأخير. فكما استدرجت مجازر رمضان هذا التدخل يمكن لمجازر أخرى مقبلة أن تستدرج تدخلاً آخر وردود فعل أوروبية وأميركية أخرى أقل تحفظاً وأقل مسايرة للحكم الجزائري. لذا يمكن القول ان الأزمة دخلت هذه المرة منعطفاً دولياً حقيقياً ومحطة جديدة في تاريخها. ثانياً: يتيح هذا التدخل اصطفافاً جديداً للقوى في المعارضة الجزائرية، فهو يدعم مواقف "جبهة القوى الاشتراكية" التي دعت اليه منذ شهور ويساعد "الجبهة الاسلامية للانقاذ" المحظورة على العودة الى المسرح السياسي باعتبار ان أمينها العام عباسي مدني كان قبل وضعه مجدداً في الاقامة الجبرية، قد طالب في رسالة الى الأمين العام للأمم المتحدة بتدخل المنظمة الدولية في الأزمة. ويساعد الاسلاميين البرلمانيين على استئناف مطالبتهم بتحقيق برلماني في المذابح، وهو ما عبر عنه أخيراً محفوظ نحناح والشيخ عبدالله جاب الله. من جهة ثانية يضعف هذا التدخل مواقف التيار العلماني المعارض الذي يتبنى منذ اندلاع الأزمة طروحات استئصالية ويطالب بحلها عسكرياً. وبديهي أن يطال الضعف "التجمع الوطني" الحزب الحاكم ايضاً الذي ما برح يتحدث منذ سنتين عن تصفية وشيكة لفلول الارهاب ونهاية قريبة للأزمة. ثالثاً: لا يمكن لأوروبا والولاياتالمتحدة والأمم المتحدة أن تدعم بعثة "الترويكا" والموفد الأممي لحقوق الانسان وتعود بعد انتهاء مهمة البعثتين الى الحديث عن مكافحة الارهاب فقط، ذلك ان هذه الأطراف تعرف المواقف الرسمية الجزائرية في هذا الصدد ولا تحتاج الى زيارة الجزائر لسماعها مكررة، ما يعني أنها ستكون ملزمة أمام الرأي العام في بلدانها بمواقف جديدة متناسبة مع خطورة الأزمة. وتعتقد مصادر فرنسية مطلعة بأن المبادرة الأوروبية قد تدخل تعديلات على السياسة الجزائرية المتصلبة، خصوصاً اذا ما اعتمدت ممارسة الضغوط وتقديم المساعدات في الوقت نفسه. رابعاً: على رغم طابعها الايجابي، فإن سبب انطلاق المبادرة الأوروبية يعود الى المذابح التي اندلعت في شهر رمضان، ما يعني ان أعمال القتل الدموية ليست مرشحة للتراجع وانما للتصاعد من أجل استدراج المزيد من التدخل الخارجي، وتوسيع اطار الحروب الانتقامية المتبادلة التي تهدد بالتحول الى حرب أهلية شاملة غير محصورة بجهة واحدة. خامساً: يلحق التدخل الخارجي أذى أكيداً بتصلب العسكريين المتشددين ويوفر فرصة لتعديلات أساسية في موازين القوى في السلطة الجزائرية. وإذا كان من المستبعد الحديث منذ الآن عن تراجع العسكريين الاستئصاليين، فإن استمرار المذابح وعجزهم عن التصدي لها قد يطيح باستراتيجية الاستئصال ويفتح الباب أمام تقدم العسكريين المعتدلين لتولي المناصب العليا، لكن من السابق لأوانه اختبار مدى تأثير المعتدلين على مسار الأزمة ووضع حد لها، لأن استمرار المذابح واتساعها قد يجعلان الأزمة نفسها خارج نطاق السيطرة. سادساً: ينعكس التدخل الأوروبي في الأزمة الجزائرية سلباً على الجامعة العربية التي عجزت عن تقديم أية مبادرات أو تصورات لحل هذه الأزمة، كما ينعكس سلباً على الاتحاد المغاربي الذي ما برح يتصرف وكأن الأزمة تحدث في بلد ينتمي الى مجموعة غير مغاربية، فهل يحدث الأوروبيون ردة فعل "استفزازية" لدى الجامعة والاتحاد المغاربي فيؤدي ذلك الى مبادرة عربية لتحقيق المصالحة الجزائرية - الجزائرية بموافقة الحكم الجزائري؟ هذا السؤال ما انفكت تطرحه أوساط في المعارضة المغاربية من دون أن تجرؤ على الحديث عنه بصوت عال. وخلاصة القول ان الأزمة الجزائرية اجتازت عتبة التدويل وسط مقاومة الحكم الجزائري الذي يدافع عن حقه المبدئي في وضع حد لها بوصفها أزمة داخلية. فإذا كان التدويل يضعف قبضة الحكم وأحكام سيطرته على الأزمة فإنه في المقابل لا يحمل علاجاً سريعاً لعذابات الجزائريين وللمذابح التي تتنقل بين مدنهم وقراهم.