كثير من ساسة فرنسا التاريخيين اصبحوا سياسيين بفضل الجزائر، منهم من أصاب في خياراته بعد الحرب كالجنرال شارل ديغول الذي وافق على استقلال الجزائر، بعدما كان هو أيضاً قاد الحرب فيها ومنهم من اتخذ مواقف ندم عليها لاحقاً كالرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران الذي لا تزال كتب التاريخ الحديث تحفظ له تصريحاً يقول فيه ان الحل الوحيد للجزائر هو الحرب. كان ذلك طبعاً في أوج القتال بين البلدين. وحينما اشتدت وطأة القتل والمذابح الأخيرة في الجزائر، أصابت شظاياها فرنسا في الصميم. اذ تعرضت الأراضي الفرنسية منذ صيف العام 1995 للعديد من المتفجرات ذات البعد الاسلامي الجزائري وفق التحقيقات القضائية. العلاقة اذن بين البلدين عضوية، والبلدان مرتبطان، سواء شاءا أم أبيا، بعلاقة "حب وكراهية" لن تنتهي بين عشية وضحاها. من هذه الزاوية يمكن النظر الى كل المواقف الفرنسية الحديثة منذ اندلاع الأزمة الجزائرية، لأن الحساسية الموجودة بين البلدين لا تشبه أي علاقة بين الجزائر والدول الغربية الاخرى. ومع زيارة وفد الترويكا الأوروبية اليوم الى الجزائر من دون ان يكون في عداده أي مسؤول فرنسي، يمكن رصد تآلف ظاهري في المواقف بين الحكومة الاشتراكية والرئيس الديغولي جاك شيراك عنوانه "الحذر" وتجنب كل إثارة وتفادي خصوصيات أو تباينات أي انتقاد علني. لكن في العمق، ثمة خصوصيات، لكي لا نقول تباينات، في نظرة كل من شيراك ورئيس الحكومة ليونيل جوسبان ووزير الخارجية هوبير فيدرين ووزير الداخلية جان بيار شوفنمان. ويتحدث فيدرين بإيجابية عن الحكم الجزائري. وينطلق من ان الرئيس اليمين زروال كرس شرعيته بانتخابات منحه خلالها قسم كبير من المواطنين ثقته. ويستند فيدرين في نظرته الايجابية ايضاً الى شرعية الموسسات القائمة في الجزائر، رغم انها لم تصل بعد الى أفضل ما يمكن ان تصل اليه. لكن شيراك، الذي كان نظر بارتياح الى الانتخابات الرئاسية، مقتنع اليوم بأن زروال لم يستغل التأييد الشعبي له على النحو الصحيح، وانه كان قادراً على ان يستند الى شعبيته لتغيير المعادلات وادخال اصلاحات اجتماعية واقتصادية تساهم في تخفيف الأزمة. أما جوسبان الذي كان عرف السياسة مقرونة بالجزائر، والذي كان من أنصار الاستقلال، فلديه اعتبارات خاصة أولها انه اشتراكي بما يعني ان تعاطفه الطبيعي ينبغي ان يصب في خانة اشتراكيي الجزائر، أي جبهة القوى الاشتراكية بزعامة حسين آيت أحمد والقوى الديموقراطية اليسارية. وهذا ما يبرر حذره، وما يبرر ايضاً تصريحه الذي كان أدلى به بعيد تسلمه رئاسة الحكومة والذي حمل فيه المسؤولية مناصفة للنظام والجماعات الاسلامية. ويرفض وزير الداخلية جان بيار شوفنمان "الارهاب" والارهابيين. ويلتقى مع فيدرين أو لعله يذهب أبعد منه في تفادي انتقاد السلطة. ويدرك شوفنمان ان أداء السلطة ربما ليس مثالياً في الجزائر لكنه مقتنع بأن المرحلة الراهنة في العالم العربي تتطلب عدم انتقاد الذين يواجهون الارهاب الأصولي. ونظرته لا تقتصر على الجزائر، بل تصل ايضاً الى مصر. وعلى عكس الكثير من الآراء الصحافية الفرنسية التي تسعى بين الوقت والآخر الى التشديد على ان الجيش الجزائري مشارك في المجازر، فإن فيدرين وشوفنمان يعتبران ذلك خطأً فادحاً. وغالباً ما يرحب وزير الخارجية الفرنسي ببعض المقالات التي تحاول تصحيح هذه الصورة، وكان آخرها تحقيق نشرته صحيفة "لوموند" للكاتب الفرنسي برنار هنري ليفي كان عاد به من الجزائر. لكن هذه الخصوصيات في نظرة المسؤولين الفرنسيين لا تعني وجود "سياسات" خارجية فرنسية. فعلى الأقل، لا تزال تجربة التعايش ناجحة، حتى الآن، على المستوى الخارجي، اضافة الى ان جميع المسؤولين الفرنسيين يرفضون الارهاب الأصولي ويدعمون كل من يقف حائلاً ضده. ومن هذا المنطق يمكن القول ان فرنسا تؤيد الوفد الأوروبي وتدعمه، ليس لأنها مقتنعة بأنه سيعود بنتائج ضخمة تعرف فرنسا حدود عمل الأوروبيين في الجزائر ولكن لأن مجرد قبول السلطات الجزائرية استقبال الوفد، يعتبر من المنظور الفرنسي، كما قال فيدرين لپ"الحياة" أخيراً تقدماً ايجابياً لأنه يوفق بين السيادة وبين السماح بالتدخل الخارجي"، خصوصاً ان الوزير الفرنسي نفسه كان نوه أيضاً بانفتاح السلطات الجزائرية الجديد على الصحافة. لن تكون مهمة الوفد الأوروبي، على الأرجح، حاسمة لجهة كشف أسباب المجازر الجزائرية والمتسببين بها. لكنها مهمة للتخفيف من استياء الرأي العام العربي من الصمت الرسمي. وعلى كل حال فإن الموقف الفرنسي المناهض للارهاب الأصولي كان أعطى ثماره ليس فقط لدى الحلفاء الأوروبيين، خصوصاً بريطانيا التي كانت مترددة نظراً لخصوصية الوجود الاسلامي لديها، ولكن ايضاً على الاميركيين. وكان ذلك واضحاً من خلال المحادثات الاميركية - الفرنسية التي جرت أخيراً بين المسؤول الاميركي بيكرنغ ومسؤولين في الخارجية والرئاسة الفرنسية.