لم تحقق وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت في جولتها الأولى على منطقة الشرق الأوسط أكثر مما كان متوقعاً لهذه الجولة، فجاءت نتائجها منسجمة مع الأهداف المتواضعة جداً التي حددتها الوزيرة نفسها سلفاً لمحادثاتها في عواصم المنطقة قبل وصولها اليها. وعكست أولبرايت هذا الواقع بدقة في تصريحاتها عند اختتام جولتها التي شملت كلاً من اسرائيل والأراضي الفلسطينية ومصر وسورية والأردن والمملكة العربية السعودية ولبنان إذ لخصت النتائج بقولها: "لقد حاولت خلال محادثاتي في المنطقة إعادة بناء بعض الثقة. ولكن، ولكي أكون صادقة، اعتقد بأني حققت بعض الخطوات الصغيرة في وقت نحن في حاجة الى خطوات كبيرة. لكن تحقيق شيء ما يظل أفضل من عدم تحقيق أي شيء على الاطلاق". وأشارت الوزيرة الأميركية في صورة خاصة الى تمكنها من ترتيب اجتماعات ستعقد قي وقت لاحق من هذا الشهر في كل من واشنطن ونيويورك بين مسؤولين فلسطينيين واسرائيليين، وهي خطوة اعتبرت "الانجاز" الوحيد الملموس على صعيد مساعي احياء عملية السلام وإعادة تحريك مساراتها. وذكرت مصادر الخارجية الأميركية ان جولة المحادثات الأولى التي من المقرر عقدها بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي ستبدأ في واشنطن خلال هذا الاسبوع، على أن تتبعها بعد ذلك محادثات يفترض أن تبدأ قبل نهاية الشهر الجاري بين المسؤول الفلسطيني محمود عباس أبو مازن ووزير الخارجية الاسرائيلي دافيد ليفي بمشاركة الوزيرة أولبرايت. سباق المسارات وكان مسؤولو الخارجية الأميركية أعربوا، في التقويمات التي قدموها لاحتمالات نجاح مهمة الوزيرة أولبرايت عشية جولتها، عن استبعادهم احتمال تمكنها من إعادة تحريك جميع مسارات العملية السلمية واصفين ذلك بأنه سيكون "شيئاً رائعاً لو تحقق، لكن ظروف المنطقة تجعله أمراً بعيد المنال في هذه المرحلة". وشددت المصادر الأميركية آنذاك على أن الأسلوب الذي ستتبعه أولبرايت في مقاربتها للأزمة الحادة التي تعانيها عملية السلام سيكون نابعاً من مبدأ "تحقيق ما هو ممكن وترك الجوانب الأكثر صعوبة لفترة لاحقة". ويبدو أن هذا الأسلوب أثمر في التوصل الى "الخطوات الصغيرة" التي تحدثت عنها الوزيرة أولبرايت، لكن هذه الخطوات لم تتم على المسار السوري، حسبما كان متوقعاً قبل الجولة، وانما على المسار الفلسطيني الذي كانت التوقعات في شأنه أكثر تشاؤماً بكثير. فعلى خلاف التكهنات التي سرت خلال الأسابيع الماضية ورجحت احتمال توصل أولبرايت الى صيغة لاستئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية، لم تسفر محادثات الوزيرة الأميركية مع الرئيس حافظ الأسد عن موافقة دمشق على العودة الى المفاوضات، بل اقتصرت نتائجها على "اتفاق الجانبين الأميركي والسوري على متابعة اتصالاتهما من أجل تحريك عملية السلام". وعلى ما يبدو، فإن أولبرايت لم تحمل معها الى دمشق أي اقتراحات جديدة تشجع القيادة السورية على اتخاذ قرار باستئناف المفاوضات المجمدة مع اسرائيل. وبكلام آخر، فإن العقدة التي حالت حتى الآن دون استئناف هذه المفاوضات لا تزال قائمة، وأن ما أشيع خلال الأسابيع الماضية عن احتمال حلحلة هذه العقدة والعودة الى المفاوضات بين الجانبين على أساس صيغة حل وسط تتبناها الولاياتالمتحدة وتعتمدها أساساً لهذه المفاوضات لم يتحقق. ولا يعني ذلك ان المسار السوري - الاسرائيلي غير مرشح للاستئناف في وقت لاحق قد يكون قريباً. لكن موقف دمشق من هذه المسألة لا يزال ثابتاً، وان وافق الجانب السوري على صياغته بشكل أكثر مرونة خلال المرحلة المقبلة. فسورية لن تستأنف المفاوضات إلا إذا كانت على الأساس الذي قامت عليه عملية السلام منذ البداية، أي مبدأ "الأرض في مقابل السلام" وتطبيق قراري الأممالمتحدة 242 و338، والتزام اسرائيل الانسحاب الشامل من مرتفعات الجولان المحتلة حتى حدود الرابع من حزيران يونيو 1967 في مقابل حصولها على السلام الشامل. وخلال الفترة التي سبقت زيارة اولبرايت الى المنطقة، حاولت الأوساط الاسرائيلية والأميركية اشاعة "أجواء تفاؤلية" عن امكان تحقيق تقدم على المسار السوري يؤدي الى اعادة تحريك المفاوضات عليه. وسرّبت معلومات أشارت فيها الى احتمال موافقة دمشق على استئناف المفاوضات على مستوى السفراء والخبراء في صيغة مشابهة لصيغة "واي بلانتايشن" التي توقفت المفاوضات عندها قبل نحو عام ونصف العام. اما الأساس الذي كان يفترض ان يتم عليه ذلك فكان، استناداً الى الأوساط نفسها، "قبول سورية بصيغة معدّلة يلتزم فيها نتانياهو مبدأ ان كلّ شيء مطروح للتفاوض، بما في ذلك الانسحاب الاسرائيلي الشامل من الجولان، على ان تتخلّى دمشق في المقابل عن ضرورة اعلانه التزام ما تعهد به رابين وبيريز في جولات المفاوضات السابقة". وذكر ديبلوماسيون عرب مطّلعون على الموقف السوري ان "دمشق كان يمكن ان توافق، ولو من باب اثبات حسن النيّة والرغبة في اظهار استعدادها لتسهيل مهمة اولبرايت، على صيغة كهذه لو حملتها وزيرة الخارجية معها من اسرائيل، ولكان أصبح ممكناً عندئذ الحديث عن استئناف جدّي للمفاوضات على المسار السوري - الاسرائيلي، وربّما ايضاً على المسار اللبناني - الاسرائيلي". لكنّ ذلك لم يحدث، وكان التفسير الوحيد الذي اوردته المصادر الديبلوماسية لعدم نجاح الوزيرة الأميركية في سعيها الى تحريك المسار السوري "عدم حصولها على أيّ تنازلات من الجانب الاسرائيلي تكفي لاقناع دمشق بأنّ استئناف المفاوضات سيكون مجدياً، أقلّه في المرحلة الحالية". وتجنبّت المصادر في الوقت نفسه اضفاء "انطباع تشاؤمي" كامل على احتمالات تطوّر الموقف على المسار السوري، مشيرة في صورة خاصة الى عبارة "الاتفاق على متابعة الاتصالات" بين دمشقوواشنطن باعتبارها "دليلاً على اهتمام الجانب السوري باظهار أن حصيلة محادثات اولبرايت لم تكن سلبية بالكامل، وأن وزيرة الخارجية لم تغادر دمشق بجعبة فارغة تماماً". واعتبرت هذه الأوساط ايضاً ان ثمة "نقاطاً ايجابية" أخرى برزت في محادثات اولبرايت مع القيادة السورية، خصوصاً فيما يتعلق بالوضع في الجنوباللبناني، مشيرة الى ان "حرص وزيرة الخارجية الأميركية على زيارة بيروت كان، في جانب منه على الأقل، نابعاً من رغبتها في التشديد على أهمية المسار اللبناني في عملية السلام، وفي جانبه الآخر، دليلاً على ان التلاقي في وجهات النظر حول ضرورة تفادي تصعيد الوضع في الجنوب والحؤول دون افلاته من زمام السيطرة وتحوّله الى خطر يهدّد باندلاع مواجهة اقليمية بين سورية واسرائيل يشكل رغبة مشتركة لدى كلّ من دمشقوبيروت وتل أبيب وواشنطن، الى جانب انه يعكس اقرار الولاياتالمتحدة واسرائيل ضمنياً باستحالة الفصل بين المسارين السوري واللبناني وبضرورة التعامل مع مشكلة الجنوب والوسائل الكفيلة لحلها من هذا المنطلق دون غيره". ومع الاقتناع السائد بأن وزيرة الخارجية الأميركية "لم تتمكن من الخروج بانجاز ملموس على المسارين السوري واللبناني، وأنها اكتفت بتحقيق نوع من الاستقرار النسبي على هذين المسارين في انتظار توافر ظروف أكثر ملاءمة لتحريكهما بشكل عملي"، فإن اهتمام أوساط الخارجية في واشنطن يتركز الآن على المسار الفلسطيني الذي هو "أبعد ما يكون عن الاستقرار وأقرب ما يكون الى احتمالات الانفجار"، على حدّ تعبير أحد كبار الديبلوماسيين الأميركيين الذين رافقوا اولبرايت في جولتها. المسار الفلسطيني: الثقة مفقودة ولخصّ الديبلوماسي الأميركي النهج الذي اعتمدته اولبرايت في تعاملها مع المسار الفلسطيني - الاسرائيلي بقوله انه "انطلق اساساً من ضرورة العمل على تفادي الكارثة". وأضاف: "لقد اكتشفت وزيرة الخارجية ان الأزمة بين الفلسطينيين والاسرائيليين أكثر حدّة وعمقاً من أسوأ توقعاتها وأشدها تشاؤماً. وكان طبيعياً ان تؤكد السيدة اولبرايت في تصريحاتها الموجهة الى الجانبين على مسائل الأمن والتشدّد في مكافحة الارهاب والقضاء على الجماعات المتطرفة التي تتحمّل مسؤولية تنفيذه، فهذه بديهيات معروفة تماماً في السياسة الأميركية. لكن تصريحاتها في ما يتعلق بضرورة التزام الجانبين الاتفاقات المعقودة بينهما، وتجنّب الاجراءات الأحادية الجانب التي تؤدي الى وقائع جديدة على الأرض تفقد عملية السلام مضمونها، ودعوتهما الى اعتبار كل منهما الآخر شريكاً في هذه العملية لا خصماً، كانت جميعها موجهة في الدرجة الأولى الى نتانياهو وحكومته. وفي اعتقادي، ان هذه التصريحات، والعبارات الحيوية التي تضمنتها، هي الحدّ الأقصى من التوازن الذي تستطيع وزيرة الخارجية اظهاره في اطار التوجهات العامة لسياسة الادارة الحالية تجاه النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والوسائل المطلوبة لمعالجته". والأمر الثابت ان الحكومة الاسرائيلية تدرك تماماً محدودية هذه التوجهات الأميركية والضوابط التي تحول دون اتخاذ واشنطن مواقف أكثر حزماً في معارضة الخطوات السلبية التي ينفذها نتانياهو على المسار الفلسطيني، والتي باتت تهدد فعلاً بنسف ما تحقق على هذا المسار. ولهذا، لم يكن مستغرباً ان يسارع المتحدث بلسان رئيس الحكومة الاسرائيلية الى رفض الدعوة التى وجهتها اولبرايت لتجميد النشاط الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية، ولو الى حين، كخطوة تهدف الى اعادة بناء قدر من الثقة المتبادلة بين الجانبين، ووصفه وقف الاستيطان بپ"وقف الحياة نفسها". كما ان الاجراءات التي أعلنت الحكومة الاسرائيلية اتخاذها "استجابة" لمساعي وزيرة الخارجية، مثل الافراج عن نصف المبالغ المالية المستحقة للسلطة الفلسطينية وتخفيف اجراءات الاغلاق والحصار المفروضة على أراضي السلطة والسماح لعدد اضافي من العمال الفلسطينيين بالتوجه لممارسة وظائفهم في اسرائيل، كانت أقل بكثر من الحد الأدنى المطلوب لإعادة تثبيت وضع هذا المسار وتحريك المفاوضات عليه بشكل فعال. ولهذا لم تتمكن أولبرايت من تحقيق هدفها الأساسي المعلن للشق الفلسطيني - الاسرائيلي من جولتها، أي "إعادة بناء الثقة بين الجانبين". وجاءت طبعاً، بعيد مغادرتها المنطقة، عملية استيلاء مستوطنين اسرائيليين على منازل في حي راس العامود في القدسالشرقيةالمحتلة، لتصب مزيداً من الزيت على جمر الموقف المحتقن أصلاً، وتعيد الوضع في القدس والأراضي الفلسطينية عموماً الى حافة الانفجار الذي ربما استبق اجتماعات واشنطن المقررة بين الجانبين وأجهضها من أساسها. وفي ضوء هذه المخاطر المتزايدة التي تحدق بالمسار الفلسطيني، عادت الأوساط الديبلوماسية الاميركية الى الحديث عن "آمال محدودة" في امكان تجنب الانهيار على هذا المسار من خلال المحادثات الفلسطينية - الاسرائيلية - الاميركية المرتقبة. لكن ما يحدث على الأرض قد يؤدي من جديد الى القضاء على هذه الآمال. ولا تملك هذه الأوساط تفسيراً لذلك سوى تكرار ما سبق لمسؤولين في واشنطن ان اعربوا عنه وهو "الاقتناع بأن أي تقدم حقيقي في العملية السلمية لن يكون قابلاً للتحقيق ما دام نتانياهو على رأس السلطة في اسرائيل، وما دامت ادارة الرئيس كلينتون متمسكة بعدم ممارسة أي ضغوط جدية عليه لتعديل سياساته". وتؤكد مصادر ديبلوماسية عربية واميركية، ان "مشاعر الترحيب الهادئة والانطباعات الايجابية النسبية" التي صدرت عن الزعماء العرب حيال جولة اولبرايت ومساعيها "كانت ضرورية لتأكيد الرغبة العربية الشاملة في استئناف المفاوضات واستكمال التسوية، وكذلك لإظهار الاقتناع بأن مجرد عودة المساعي الاميركية الناشطة لإحياء عملية السلام هو في حد ذاته مطلب عربي. وبالتالي، لا يمكن للعواصم العربية الا ان تنظر بإيجابية الى تطور كهذا، وان تعرب عن آمالها في إمكان تحقيق تقدم يخرج العملية السلمية من مأزقها بفضل استئناف الجهود الاميركية وعودة الولاياتالمتحدة الى ممارسة دورها بفاعلية". لكن "المشكلة" في نظر هذه المصادر ما زالت على حالها. فما ان غادرت اولبرايت المنطقة حتى عادت الحقائق على الأرض لتثبت وجودها ولتجعل من جولة وزيرة الخارجية والنتائج التي اسفرت عنها مسألة مضى عليها الزمن. وسواء تعلق الأمر بالمسارين السوري واللبناني المجمدين، أم بالوضع الفلسطيني المتفجر، يظل الواقع المؤلم نفسه هو المسيطر، وتظل عملية السلام أسيرة الحلقة المفرغة إياها التي تدور فيها. فلا الحكومة الاسرائيلية الحالية مؤمنة بالمبادئ التي قامت عليها هذه العملية أو بالاهداف التي كان يفترض ان تؤدي اليها، ولا الإدارة الاميركية الحالية مقتنعة بضرورة ممارسة أي خطوات ضغط فعلية تضمن اعادة السياسة الاسرائيلية الى الالتزام بتلك المبادئ والأهداف. وطالما لم يتحقق أي من هذين الشرطين، فإن أي تحريك للمفاوضات لن يكون إلا من قبيل كسب الوقت. فالتفاوض من أجل التفاوض شيء، والتفاوض في للتوصل الى نتائج ملموسة شيء آخر. وربما نجحت أولبرايت في اقناع الأطراف بضرورة العودة الى المفاوضات. لكن وصول هذه العملية الى أهدافها يتطلب تغيراً نوعياً في سياسة الإدارة وتوجهاتها، وهو ما لم تظهر أي مؤشرات على احتمال حدوثه حتى الآن. والخطورة الحقيقية تكمن في أنه ما لم تصل واشنطن الى اقتناع ذاتي بالحاجة الى مثل هذا التغير النوعي، فإن الأحداث المتسارعة على أرض الواقع قد تتولى مثل هذه المهمة مستقبلاً، سواء كانت انفجاراً دموياً في الأراضي الفلسطينية، أم تصعيداً عسكرياً خطيراً في جنوبلبنان، أو حتى مواجهة أقليمية شاملة بين سورية واسرائيل. ويبدو الآن أن الخيار في المنطقة أصبح منحصراً أساساً، على حد تعبير الأوساط الديبلوماسية العربية والأميركية، "بين وصول عملية السلام الى أهدافها قبل وقوع مثل هذه الأحداث المأسوية وتفادياً لها، أو بعد اندلاعها ونتيجة لما سينجم عنها". وتضيف المصادر: "لا أحد يملك القدرة على التحكم بهذا الخيار كالولاياتالمتحدة. والأمل هو أن تكون أولبرايت توصلت الى هذا الاقتناع نتيجة جولتها، فمن شأن الاستنتاجات التي لا بد ان تكون توافرت لديها بعد هذه الجولة ان تحدد بشكل كبير المسار المتوقع لأحداث المنطقة وتطوراتها خلال المرحلة المقبلة"