حياة المهرجانات والمؤسّسات الثقافيّة تشبه إلى حدّ بعيد، في نموّها وصيرورتها، حياة الأفراد. وهذا ينطبق على "موسم أصيلة الثقافي" الذي بلغ مرحلة النضج على أعتاب الذكرى العشرين لانطلاقته. فالتظاهرة الفنيّة والفكريّة والأدبيّة التي حوّلت تلك المدينة من قرية صيادين منسيّة في الشمال المغربي، إلى عاصمة ثقافيّة عربيّة جامعة وفضاء للحوار والتفاعل مع ثقافات العالم، شهدت قبل أيّام مفترقاً حاسماً في تاريخ حافل بالمحطّات المشرقة. خلال الدورة السابقة، وبعد انقطاع قسري صيف 1995، بدا "الموسم" لاهثاً بعض الشيء، وبانت عليه علامات الارتباك والتعب. وأجمع "القدامى" ومن التحق بهم على مرّ السنوات، على أن وقت اعادات النظر قد أتى. كان هناك شعور بضرورة التجدّد والتكيّف مع معطيات الراهن والاستعداد لرفع تحديات المرحلة المقبلة. وها هو السفير والوزير السابق محمد بن عيسى يفاجئ جمهوره وضيوفه بالاعلان عن المنعطف الجديد. فعمدة المدينة الذي كان لولب تلك المغامرة، مع الفنان محمد المليحي والآخرين، ورافق تطوّرها، يعرف أكثر من سواه مسؤوليّة عدم التفريط بالتراث الذي باتت أصيلة مؤتمنة عليه. هكذا أعلن هذا العام عن ولادة "منتدى أصيلة"، وهو مؤسّسة غير حكوميّة ستدير الدفّة من الآن فصاعداً، ومقرّها قصر الريسوني الشهير الذي بدأت ورشة ترميمه بدعم من الأمير بندر بن سلطان. كما أعلن عن انشاء مكتبة مجهّزة بالوسائل المتطوّرة، فيها جناح للشعر باسم بلند الحيدري. ولعلّ من علامات التحوّل أن صحيفة مغربيّة معارضة مرموقة، غطّت نشاطات الموسم للمرّة الأولى في تاريخه! وهذه المرحلة الجديدة تدفع فئة من الجمهور إلى مطبّ الحنين، فيما تدفع فئة ثانية إلى المراهنة العمياء على المستقبل. يحنّ بعض أصدقاء أصيلة إلى السنوات البطوليّة، إلى زمن العفويّة والزخم والبراءة أيّام كان كلّ شيء ممكناً. ويخاف هؤلاء أن تفقد أصيلة روحها، ألا تعود تملك نفسها، بحكم الاحتراف واتساع دائرة المشاريع. ويحنّ البعض إلى حفلات الهواء الطلق في ساحة القمرة، وعند باب البحر، أو إلى النقاشات التي تمتدّ إلى الصباح بين فنّانين ومثقفين جاؤوا إلى محترفاتها ومنتدياتها من مختلف أنحاء العالم . لم نعد نرى البحر من كورنيش أصيلة يشكو البعض، بسبب مشروع "المارينا" الذي التهم المشهد. ربح الموسم رهان "الثقافة في خدمة التنمية"، فهل تتواصل التنمية على حساب الثقافة؟ يغالي البعض الآخر. في أزقّة المدينة القديمة يحوم الفنّانون المؤسسون، رفاق الساعة الأولى، فريد بلكاهية، محمد القاسمي، فؤاد بلامين، عمر خليل، مروان، بحثاً عن تاريخهم وذاكرتهم. صحيح أن ندوات الموسم حقّقت نجاحاً ملحوظاً من الحوار العربي - الأميركي إلى تكريم بلند الحيدري، لكن الفنّ التشكيلي الذي كان حجر الزاوية، ما موقعه من التصوّرات الجديدة؟ حين بدأت فرنسواز غروند هذا الموسم برسم جداريّتها ضمن مجموعة من الفنّانين، خيّل إليها - لكثرة العراقيل - أنّها لن تتمكّن من اتمام المشروع. لكنّها صارعت خشونة الجدار ومشاكسة صبية الحارة، ودجّنت كلّ المصاعب، برفقة "مساعدها" الزيلاشي محمّد الذي يبلغ من العمر ثمانية أعوام. وتركت قبل أن تمضي "شعباً" محتشداً على جدارين متقاطعين، بعد أن عهدت إلى محمّد - رسّام المستقبل ؟ - بالفراشي والزيوت والألوان، وكلّفته بمهمّة السهر على الجداريّة. هذه هي رهانات أصيلة الرابحة التي ينبغي أن تستمرّ...