هل تعود روسيا الى الشرق الاوسط، عبر البوابة المصرية؟ السؤال يشغل أوساط الديبلوماسيين الغربيين في القاهرة، وهم يتابعون تحركات روسيا في الشرق الاوسط، خصوصاً تجاه مصر. وبرأي هؤلاء فإن العلاقات الروسية - المصرية مرشحة لتطورات مهمة مقبلة. وهم يذكّرون بأن مصر كانت بوابة عبور الدور السوفياتي في المنطقة، مثلما كانت بوابة انحساره. ويلفتون الى أن الاسابيع الاخيرة شهدت تطورات مهمة في العلاقات الروسية - الايرانية اعتراف موسكو بدعم مشروع نووي ايراني وفي العلاقات مع سورية. ويربطون بين هذه التحركات الروسية وبين اجواء حرب باردة روسية - اميركية، على قاعدة توسيع الحلف الأطلسي. ما يجعل مساعي موسكو التي يباشرها وزير الخارجية يفيغيني بريماكوف لإعادة التوازن الى الدولة العظمى الثانية سابقاً، أحد تجليات هذه الاجواء. وفي هذا الاطار، يترقب الديبلوماسيون الغربيون نتائج الزيارة التي يقوم بها الى القاهرة - الشهر الجاري - وزيرالخارجية الروسي بريماكوف. حيث يوقع مع نظيره المصري عمرو موسى "اتفاق اطار للتعاون والتنسيق السياسي"، تمهيداً لزيارة أرفع مستوى يقوم بها الى مصر أواخر آب اغسطس المقبل، رئيس الوزراء الروسي فيكتور تشيرنوميردين بدعوة من نظيره المصري الدكتور كمال الجنزوري، وسيقومان معاً برئاسة أعمال الدورة الاولى للجنة العليا المشتركة تأسست العام الماضي. ووضع اتفاقات مهمة تم التوصل اليها موضع التنفيذ، ايذاناً بعصر جديد في العلاقة. ويشار إلى أن زيارة المسؤولين الروس لمصر، تتواكب مع مرور 54 عاماً على بدء العلاقات الديبلوماسية بين البلدين 1943. بعدما كان الاحتفال بمرور خمسين عاماً عليها 1993، تأجل بسبب الاوضاع السياسية الداخلية في موسكو وقتها. وكانت لجان فنية مشتركة عقدت، طوال الأشهر الستة الماضية، اجتماعات مكثفة في القاهرةوموسكو. وأنجزت جملة مشاريع لاتفاقات ثنائية في المجالين السياسي والاقتصادي، تضمنت بعض المشاريع العملاقة، وذلك في إطار صياغة جديدة من ستة أسس سياسية عامة ارتضاها الطرفان وتشمل العمل على ترسيخ العلاقات في مختلف المجالات، وتأمين المصلحة العليا للطرفين، والتشاور في القضايا ذات الاهتمام المشترك، والعمل بجدية على تحقيق السلام العادل الشامل في الشرق الاوسط على أساس القرارات الدولية والاتفاقات التعاقدية، ورفض الهيمنة وسياسة الأمر الواقع في النظام العالمي او في أي إقليم، وعدم تبني أو المشاركة في أي سياسة تمثل تهديداً لمصلحة وأمن أي من الطرفين. وطالت الاجتماعات المشتركة ثلاث قضايا سياسية ذات صلة بالوضع في الشرق الاوسط. فقد سعت روسيا الى موقف مصري يدعم موقفها المعارض لتوسيع حلف الناتو شرقاً. حيث أكدت الانعكاسات السلبية لذلك على المنطقة. وسعت مصر الى دعم روسي لانتخابها عضواً دائماً في مجلس الامن، عندما يحين موعد اعادة هيكلة المجلس وتوسيع عضويته. وتعلقت القضية الثالثة ببلورة موقف مشترك لطرحه على مجلس الامن، لإعادة النظر في نظام العقوبات المعمول به دولياً، لجهة وضع ضوابط وآلية جديدة لأسلوب فرض العقوبات وتخفيفها او انهائها. وعلى الصعيد الاقتصادي، أعدت اللجان المشتركة مشاريع لاتفاقات التعاون ركزت على انشاء خط بحري منتظم أوديسا - الاسكندرية، وضمانات للاستثمارات. ومنع الازدواج الضريبي كفاتحة لتنفيذ مشاريع كبرى في منطقة توشكي وغيرها. وخلال الشهر الماضي بلور السفير الروسي في القاهرة فلاديمير جوداييف الصياغات النهائية لمشاريع الاتفاقات. وذلك خلال أربعة اجتماعات مكثفة عقدها مع وزير الخارجية عمرو موسى ومساعديه للشؤون الاوروبية فتحي الشاذلي وللشؤون الدولية قاسم المصري والمستشار السياسي للوزارة نبيل فهمي. كما تبادل موسى وبريماكوف أربع رسائل خلال الشهر نفسه. وقال السفير الشاذلي إن هذه الاتصالات هدفت الى "تسريع المفاوضات الجارية على النصوص النهائية من الاتفاقات تغطي مجالات عدة منها التعاون الأمني وحرية تنقل الأفراد والاستثمارات والنقل البحري عبر المتوسط". واللافت أن مسؤولين في الخارجية المصرية كانوا عقدوا اجتماعاً مع رجال أعمال مصريين أخيراً، حضُّوهم خلاله على إبرام عقود اقتصادية وتجارية مع روسيا. وشهد الاجتماع لوماً ملحوظاً لرجال أعمال تراجعوا عن تنفيذ عقود كانوا أبرموها مع رجال أعمال ومؤسسات روسية السنة الماضية. وتعطي الاوساط الديبلوماسية الغربية في القاهرة اهتماماً أكبر لملاحظتها "تجاهل الطرفين الروسي والمصري رسمياً أي اشارة الى أن عودة الحميمية الى العلاقة تتضمن شقاً تسليحياً". ويلفتون الى تصريحات كان أدلى بها قبل فترة النائب الأول لرئيس مؤسسة "روسفوروجينيه" العسكرية الروسية الجنرال ميخائيل تيمكين. وقال فيها إن بلاده "تجهز لصفقات سلاح دفاعية كبيرة مع دول مهمة في الشرق الاوسط بينها مصر" التي وصفها بأنها "الشريك الواعد". وهي التصريحات التي اعتبرتها الاوساط الديبلوماسية الغربية انها "تحمل في طياتها اشارات ذات دلالة". ولا تبدو إسرائيل والولاياتالمتحدة مرتاحتين إلى هذه التحركات. وعبرت الادارة الاميركية عن قلقها الذي تجلى في كشف البنتاغون لما سماه "مفاوضات مصرية - روسية تسعى مصر من خلالها الى شراء 224 صاروخاً للدفاع الجوي من طراز "إس 300"، و100 منصة إطلاق متحركة وأنظمة رادار ضمن صفقة تبلغ قيمتها 700 مليون دولار". واستناداً الى البنتاغون ايضاً نشرت جريدة "واشنطن تايمز" ما وصفته بأنه "صفقة تسليحية روسية لمصر". قالت إنها تتضمن "مشروعاً مشتركاً لتصنيع صواريخ محمولة مضادة للطائرات". ولوحظ تناغم في ردة الفعل الاميركية والاسرائيلية. فبعد أيام من نشر "واشنطن تايمز" أنباء هذه الصفقة، ذكرت صحيفة "معاريف" - الشهر الماضي - ان مصر تسعى الى الحصول من موسكو على صواريخ مضادة للطائرات محمولة على الكتف من طراز "ايجلا" وتتفاوض مع موسكو على شراء أفضل صواريخ أرض - جو في العالم. ويعتقد مراقبون أن كشف واشنطن وتل ابيب عما وُصف بأنه صفقة تسليح روسية جاء "للتغطية" على زيارتين مهمتين قام بهما الى واشنطن وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي خلال شهري نيسان ابريل وحزيران يونيو الماضيين. وقد حصل خلالهما على موافقة الولاياتالمتحدة على طلب اسرائيل زيادة المساعدات العسكرية وتمويل مشروع تطوير الصواريخ المضادة للصواريخ واعتماد معونة طارئة قدرها 50 مليون دولار منها 40 مليوناً لمشروع انشاء نظام لاعتراض قذائف الكاتيوشا. والباقي للمساهمة في مشروع انتاج الصاروخ "هيتس" المضاد للصواريخ البالستية. كما لوحظ ان تسريب البنتاغون لأنباء الصفقة جاء غداة اعتراف جدعون فرانك رئيس لجنة الطاقة النووية في مجلس الوزراء الاسرائيلي امتلاك بلاده "قدرات عسكرية نووية لا تستطيع ان تتخلص منها قبل 170 عاماً في حال التوصل الى سلام مع العرب". إلا أن المراقبين لاحظوا أيضاً أن رد الفعل الاميركي والاسرائيلي جاء فاتحة لرسائل اميركية تضمنت تلويحاً بإلغاء المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر، وذلك في أعقاب عدم ارتياح مصري من نتائج زيارتي موردخاي لواشنطن ومن التعاون العسكري التركي - الاسرائيلي شرق المتوسط. ومن جانب مصر فهي تبدو وكأنها تتجاهل حديث واشنطن وتل ابيب عن صفقات روسية. في سياق رفضها محاولات سابقة للابتزاز أهمها اثارة واشنطن موضوع حصول مصر على مكونات صواريخ "سكاد" من كوريا الشمالية عشية عقد القمة العربية في القاهرة العام الماضي. ورفض الرئيس مبارك طلب وزير الخارجية السابق وارن كريستوفر مناقشة الموضوع بناء على طلب الاخير خلال لقائهما في القاهرة بعد أسبوع من انعقاد القمة. لكن روسيا تتجاهل هذه الرسائل وتبدو ماضية في دعم مركزها في الشرق الاوسط عبر البوابات الثلاث مصر وسورية وإيران. وحتى حين حاولت اسرائيل دق إسفين لتعطيل تزويد سورية أسلحة، وأعلنت عن حصول سلاح الجو الإسرائيلي من دولة أوروبية شرقية على نماذج من طائرة "ميغ 29" التي تشكل عماد تسليح القوات الجوية السورية، سارعت موسكو إلى إرسال وفدين عسكريين الى دمشق لطمأنة السوريين في شأن ميزات عالية التقنية يصعب على الاسرائيليين فك طلاسمها، ولتزويد دمشق معدات دقيقة متطورة تحل محل معدات في "الميغ - 29" التي حصلت عليها اسرائيل. كما لوحظ في الاسبوعين الماضيين أن موسكو أبلغت دولاً عربية بأن الاتفاق الذي تم بين مؤسسة روس فوروجينيه الروسية الحكومية وبين شركة إيلتا اسرائيل للتعاون في تصنيع طائرة إنذار مبكر من طراز "آي-50"، إنما هو مجرد تعاون "تقني في مجال المكونات الالكترونية للطائرة". وفي موازاة ذلك أيضاً تساعد روسياإيران على بناء محطة "بوشهر" النووية وتسليم ايران غواصات ومدها بأسلحة مختلفة. ما دعا وزير الدفاع الاسرائيلي الى مناشدة اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة ممارسة ضغوط على روسيا لوقف التعاون العسكري بينها وبين دول في الشرق الاوسط بحجة "خطورته على الأمن الاقليمي وأمن إسرائيل". ولا تعبر التحركات الروسية عن توجهات حكومية فقط، بل تأتي في سياق اهتمام القوى السياسية الرئيسية بذلك، خصوصاً الحزب الشيوعي الذي أعلن زعيمه غينادي زيغانوف أخيراً أن السياسة الخارجية سواء لروسيا او لحزبه تعطي أولوية للعلاقات مع الدول العربية في منطقة الشرق الاوسط. وإضافة إلى ذلك تأتي التحركات الروسية في سياق فترة تشهد خلافات بين موسكووواشنطن، بسبب توسيع حلف الناتو وانضمام دول أوروبية شرقية إليه، الأمر الذي اعتبرته موسكو ماساً بمصالحها الأمنية. علاوة على شكوى الاخيرة من استرخاء المساعدات الغربية تنفيذاً لوعود حصلت عليها روسيا من قبل. وتجلى رد الفعل الروسي في تطورين مهمين خلال شهر نيسان ابريل الماضي: الاول اتفاق الاتحاد بينها وبين روسيا. والثاني بيان القمة الروسية - الصينية الذي شجب توسيع الحلف الأطلسي ورفض الهيمنة الاميركية على العالم وعلى الأممالمتحدة، ودعا الى قيام نظام دولي متعدد الأقطاب. وجاء التجاوب المصري سريعاً بإعلان رئيس مجلس الشعب المصري الدكتور فتحي سرور خلال زيارته لموسكو في نيسان ابريل الماضي، ترحيب مصر باتفاق الاتحاد وببيان القمة. ما يعكس ترجمة لاتفاق الطرفين على الخطوط السياسية العامة. ولا ينفصل اهتمام روسيا ومصر بتنشيط العلاقة الثنائية عن هذه التطورات، خصوصاً أن وزير الخارجية بريماكوف، مهندس السياسة الروسية تجاه التحديات الغربية، هو الذي يتزعم المساعي الهادفة الى اعادة بناء العلاقات الروسية، ليس فقط مع مصر بل أيضاً مع ايران والصين والهند ودول عربية أخرى.