كثيرون يساورهم القلق من عودة هونغ كونغ الى دولة الصين الأم، فلقد اصبحت بفضل بقائها مستعمرة بريطانية حتى مساء 30 حزيران يونيو 1997 احد ابرز "نسور" آسيا والمركز التجاري الرقم 8 في العالم. واليوم تسلم بريطانياالمدينة الرأسمالية المتألقة إلى سيادة دولة الصين الشيوعية، بعد ادارة دامت اكثر من قرن، فهل معنى ذلك، كما يزعم بعضهم ان هونغ كونغ سينطفئ بريقها، وستفقد مزاياها، لتصبح مدينة شاحبة، مسطحة، شأن الكثير من مدن الصين؟ ام متوقع لها على العكس مستقبل باهر، بحجم التحديات التي تواجه آسيا على مشارف قرن جديد؟ الحقيقة ان القضية جديرة بتأمل عميق، لأسباب لا تتعلق بآسيا وحدها. وقد اتيح لي شخصياً أن أزور هونغ كونغ ما لا يقل عن ست مرات عبر فترة زمنية تكاد تصل الى ربع قرن. وشاهدت بعينيّ، من زيارة الى اخرى، كم تطورت المدينة، وبأية وتيرة، من مدينة تجاور فيها الثراء المدهش مع الفقر المدقع. وأذكر في هذا الصدد، في أول زيارة لي مشاهدة الاحياء التي اكتظت بمن وصفوا بأهل المراكب BOAT PEOPLE وهم حشد من الصيادين كانت الارصفة التي ازدحمت بها مراكبهم، وهي أيضا مساكنهم، مصدر روائح كريهة... الى مدينة لم يعد فيها لمثل هذه الظواهر المزرية أثر على الاطلاق. لقد أخذت ناطحات السحاب تملأ سمواتها. فيما تربط أنفاق تحت البحر بين جزيرة "فيكتوريا" و"كاولون"، مركز هونغ كونغ التجاري المنتمي الى بر آسيا. وتجري الآن اقامة مطار على قدم وساق، بديلا من مطار المدينة القديمة، الخطر لإطلاله على البحر مباشرة. والمطار الجديد أحد أكبر المطارات في العالم. وقد اعتُمدت لبنائه بلايين عدة من الدولارات. ومستقبل هونغ كونغ تحكمه معادلة صعبة. فمن المؤكد انه ليس من مصلحة الصين ان تفقد المدينة صفتها الحالية كأكبر بوابة لها على آسيا والعالم الخارجي، في عصر قررت ان تنفتح على الاسواق العالمية. ومؤكد ان الصين تدرك أن من مصلحتها أن تثبت أنها أكثر قدرة من بريطانيا على إدارة مدينة صينية كبرى، وان هذه قضية هيبة وكبرياء. كما انه يحمل معنى الرد على الاهانات التي تحملتها الصين طوال حقبة الاستعمار البغيضة. غير ان هناك أيضاً مبررات تدعو الى تقييد الحريات في هونغ كونغ لدرجة او اخرى، حتى لا يترتب على اندماجها داخل الصين انفلاتات يتعذر ضبطها، وتفضي الى صدامات كتلك التي وقعت مع الطلاب في ميدان تيان آن مين عام 1989. صحيح ان السلطات المركزية في بكين قررت ان تضع فواصل صارمة بين هونغ كونغ الرأسمالية على الاقل طوال نصف القرن القادم بمقتضى الاتفاقات التي ابرمت مع بريطانياوالصين الشيوعية. ومع ذلك فليس من شك في ان انتماء الصينوهونغ كونغ معاً الى دولة واحدة، سيغري شرائح من المثقفين الصينيين، وبالذات بين الشباب، كي تسعى الى توسيع اطار الحريات في الصين عموماً، بدلا من انتهاج الخط المضاد وتقييدها في هونغ كونغ. وتتمثل المعادلة الصعبة في اي من الاعتبارين ستكون له الغلبة: الاستفادة من رأسمالية هونغ كونغ لمواكبة آسيا الناهضة عموماً، بل لتشجيع الوحدة مع تايوان مستقبلا، إعمالا لمبدأ "دولة واحدة - نظامان اجتماعيان"، ام تقييد بعض صور ازدهار هونغ كونغ لعدم زعزعة اركان النظام الصيني عموما. وهو نظام شجع اقتصاد السوق الى حد بعيد، ولكن من دون الخروج، على ما يراه قادة الصين، على مبادئ الماركسية والشيوعية. والجدير بالملاحظة ان الصين خاضت تجربة تختلف عن تلك التي خاضها الاتحاد السوفياتي في مرحلته الاخيرة، إن دينغ كسياو بينغ لم يكن غورباتشوف. وتميزت "بيريسترويكا" غورباتشوف بأنها أولت الاسبقية للاصلاح السياسي، من دون التفات الى مقتضيات الاقتصاد، فيما حرص دينجغ على ان تظل الحريات السياسية مقيدة، وركز الجهد كله على الاصلاحات الاقتصادية والانفتاح على الاسواق. إن عملية تيان آن مين ضد الحركات الطلابية المنادية بالديموقراطية كانت عملية فظيعة. وأثارت - بحق - استنكار العالم كله. لكن قادة الصين رأوا ان يتحملوا تبعات عدوانهم على الحريات، لئلا تترتب على الإصلاحات الاقتصادية انفلاتات سياسية يعجزون عن السيطرة عليها، اسوة بما حدث في روسيا وانتهى بانهيارها. وقد حاول آخر حاكم بريطاني لهونغ كونغ، كريس باتن، احراج السلطات الصينية باقامة هيئة منتخبة منذ وقت وجيز لتكون لها كلمة فاصلة في تقرير شؤون المستعمرة، مما وضع سلطات الصين امام إحراج اكيد. فهل تظل لهذه الهيئة صلاحياتها ام تقوّض وتحل محلها هيئة اعضاؤها معينون؟ وكيف اعطاء الانطباع بأن الصين حريصة على الحريات التي بات اهل هونغ كونغ يتمتعون بها، ويكون احد قراراتها الاولى إحلال هيئة معينة محل هيئتها التشريعية المنتخبة؟ هذا في ظرف مطلوب من هونغ كونغ، بمجرد عودتها، أن تصبح نموذجاً لصين اخرى، صين تنتعش فيها من جديد مدن مثل شنغهاي. وغيرها من مدن الصين الساحلية المتطلعة الى ان تحذو حذو هونغ كونغ، لا أن تنطفئ هونغ كونغ، وتفقد جميع هذه المدن فرصة ان تصبح معابر للصين على العالم بأسره في عصر "العولمة" وتعاظم شأن آسيا. إن شكل التصدي لمعادلة هونغ كونغ الصعبة هو محك في تقدير مركز آسيا مستقبلاً، كأحد اقطاب عالم الغد المتعدد الاقطاب . كاتب مصري.