عند هبوطك في مطار شنغهاي في الصين الشعبية، تجد نفسك أمام دعاية"سيتي بنك"الأميركي وأمام العديد من الإعلانات الأميركية المعروفة. ولا تجد في طول المطار وعرضه صورة واحدة للزعيم ماو تسي تونغ أو للزعيم التاريخي شو أن لاي أو لأي من زعماء الصين التاريخيين. كما انك لا تجد شعاراً واحداً يندد بالولاياتالمتحدة والغرب، كما كان الوضع في زمن الحرب الباردة. أما الصورة الوحيدة لماو تسي تونغ، مؤسس الصين الحديثة والشيوعية عام 1949، فهي تلك الموجودة على العملة الصينية التي تعرفت عليها في المطار. هكذا تجد في مطار شنغهاي وضعاً لا يختلف عن أي مطار أوروبي أو عالمي. وفي الطريق الى المدينة تنطلق السيارة عبر الشوارع وعبر الطرق السريعة والانفاق الضخمة، حيث تبرز أمامك سلسلة من ناطحات السحاب والأبنية العملاقة والجميلة. فجأة تجد نفسك أمام نهر كبير ومدينة شامخة وكأنك في نيويورك أو لندن أو في مدينة هي في أبنيتها عشرة أضعاف ما تشاهده في دبي اليوم. هذا التغيّر الكبير في الصين، والذي بدأ في بكين أواخر السبعينات وفي شنغهاي أوائل التسعينات وينتقل الى مدن الصين الأخرى، يمثل الجسر الذي تسعى من خلاله الصين الى تبوؤ مركز دولة كبرى من الطراز الأول. خلال السير في الأسواق في مدينة شنغهاي، وتعدادها ثمانية عشر مليوناً، يشعر المرء بأن الصينيين هناك اعتادوا على الأجانب، فلا أحد يشعرك بأنك غريب في بلاد كانت مغلقة حتى السبعينات. كما أن تحيات الصينيين في الفندق وفي المطاعم والأسواق لا تنقطع تعبيراً عن سعي الى مزيد من القدوم العالمي الى بلادهم. السعي الصيني الى العالمية يقابله سعي صيني الى جعل الصين مفتوحة لغير الصينيين من أوروبيين وأميركيين وشركات عالمية من آسيا ومن كل مكان. وبينما كان حجم الأجانب في شنغهاي لا يذكر منذ عشرين عاماً أصبح اليوم في هذه المدينة يتجاوز المئة ألف. وفي المدينة تمر بمكتبة صينية مكونة من طابقين. تلفتك أعداد الصينيين ممن يقرأون في المكتبة بلغاتهم الأم بنهم وهدوء. المجتمع الصيني قارئ يحب المعرفة ويعيش تجربة غنية مع الترجمة من اللغات العالمية والانكليزية، كما يوجد لديهم عدد من الجامعات المتميزة... وفي الوقت نفسه ترى أمامك في الجهة المقابلة للمكتبة أعداداً من الصينيين ممن يقرأون أو يجلسون يحتسون القهوة في"ستارباكس"الأميركي الذي يمتلك فروعاً عدة في مدينة شنغهاي. ويلاحظ زائر المدينة بروز نخب من سكان الصين من الصناعيين وأصحاب الأعمال والطبقات المتوسطة وما فوق المتوسطة. هذه النخب لم تكن موجودة قبل الثمانينات في الزمن الشيوعي. كما يلاحظ دور متميز للمرأة التي سبق للشيوعية أن ساوتها بالرجل وأصبحت الرأسمالية الجديدة أكثر دعماً لدورها في الاقتصاد وفي الحياة العامة. تجذبك خلال التجول في الأسواق صور الأسرة الصينية المكونة من أم وأب وطفل واحد. ففي هذا الاقليم من الصين والذي يضم مدينة شنغهاي، لا يسمح للأسرة بأكثر من طفل. لهذا فإن عدد الأطفال قليل نسبة الى عدد السكان. وهذا مختلف عن الوضع في الدول العربية حيث يمثل الأطفال والشبان النسبة الأكبر من السكان. ومن الملاحظ في شنغهاي صعوبة تحصيل مأكولات غير صينية، فهناك أطباق عالمية لكن في معظم الأحيان الأكل الصيني التقليدي هو الشائع في كل مكان. كما أن السمنة أمر نادر بين الصينيين هناك، فقلما تجد صينياً وقد تضاعف وزنه وامتد به الانتفاخ كما هي الحال في معظم بلاد العالم وفي البلاد العربية. وعند التساؤل عن مصدر النهضة الصينية يتبين أن الصين اكتشفت منذ زمن بعيد أن الشيوعية حيث تتملك الدولة جميع وسائل الانتاج والأراضي والمصانع، أصبحت خارج إطار الزمن. لهذا بدأت الصين تتحول منذ أوائل الثمانينات نحو الرأسمالية المفتوحة. والآن يمكن الشركات الأميركية أن تستثمر في أي موقع في الصين، فتحصل على تسهيلات وعلى ملكية عملها بنسبة مئة في المئة. الصين في جلها تحولت كما هو الأمر في بعض مناطق دبي وأخيراً في ابوظبي الى منطقة حرة مفتوحة في مجال الاقتصاد والتعامل الاستثماري والأسواق والتكنولوجيا. أما في السياسة، فلا يزال الحزب الشيوعي يمسك بزمام السلطة. الزعماء الصينيون في غاية الذكاء، إذ نجحوا في تفادي مصير الاتحاد السوفياتي. وحققوا نهضة كبيرة لبلادهم وتراجعوا عن الفكر الشيوعي من دون أن يغيروا من هرم السلطة والقوة... ولذلك فليس من الصدفة أن تفتح الصحيفة في الصباح في الصين وتجد صفقة كبرى بين شركة نفط الكويت وبين إحدى أكبر شركات الطاقة الصينية لبناء مصفاة نفطية والاستثمار في الطاقة النفطية في الصين. وليس صدفة أن كل أخبار الصين هذه الأيام مرتبطة بنهضة الصين والاقتصاد والأعمال والتعليم والترجمة. الصين سائرة الى تبوؤ مركز الدولة الكبرى الثانية المنافسة للولايات المتحدة خلال عقد ونصف العقد. هذا ما تؤكده كل المشاهدات في دولة الأكثر من بليون مواطن. وهذا لا يعني على الاطلاق أن الولاياتالمتحدة ستختفي، على العكس، فالصين الصاعدة ستقابلها ولايات متحدة قادرة على تطوير أوضاعها واصلاح قدراتها وإدامة صعودها. فالبلدان يتمتعان بطاقات شابة كبيرة، فسياسة الهجرة الأميركية وسياسة الاقتصاد الأميركي المفتوح والقوانين المالية المتطورة تجعلها قادرة على ابداع طاقات جديدة لعقود في القرن الواحد والعشرين. في الوقت نفسه تجد أن حركة الاصلاح المالي في الصين وحركة التحول نحو الرأسمالية في ظل أعداد السكان الضخمة والتي لم تدخل عجلة الاقتنصاد الحديث ستتحول هي الأخرى الى طاقة كبيرة للتنمية. ويمكن القول ان زعماء الصين يسعون الى جعل شنغهاي تقترب من أن تكون الى نيويوركالصين بينما تتحول بكين العاصمة السياسية الى واشنطنالصين. أما هونغ كونغ فقد أصبحت واحة اقتصادية رابطة بين العالم والتحول الجديد في الصين، إذ نجد أن زعماء هونغ كونغ الاقتصاديين، الذين كانوا ضمن الحكم البريطاني حتى الأمس القريب، تحولوا الى قادة صناعيين واقتصاديين كبار في الصين الشعبية. لكن معظم الصين لا تزال تعيش حياة بسيطة بعيدة عن الاستهلاك وتقوم على الزراعة التقليدية. وبينما يعيش سكان مدن مثل شنغهاي على خمسة آلاف دولار سنوياً نجد أن معظم الصين يعيش على خمسمئة دولار سنوياً. لكن هذه الاحصاءات تعكس قوة الصين، فمعظم ما يقع في مجال النهضة الاقتصادية يتحول هذه الأيام نحو الاستثمار وليس الاستهلاك. اذ ان الصين التي كانت تعاني الفقر الكبير أصبح لديها الآن وفي فترة وجيزة ما يتجاوز 750 بليون دولار من الاحتياطي العام، ولحسن حظ الصين فإن هذه الأموال لم تأخذها نخبة أو لم يسرقها زعيم أو حزب حاكم كما لم يصرفها قائد على برامج التسلح أو الحروب كما حصل في التجارب العربية الثورية. لقد أصبح اقتصاد الصين في فترة وجيزة ألفاً وخمسمئة تريليون. انه نمو يعكس تجربة. ومن جهة أخرى، فإن سرعة التعليم، وفتح المدارس الأجنبية، والتركيز على الانكليزية وسرعة التنمية وانتقال مئات الملايين من الناس من الريف الى المدن، هو الذي ينذر بتحولات كبيرة هي أهم تحولات في التاريخ الحديث من حيث انتقال الناس من الريف الى المدن وسرعة التنمية وانتشار التكنولوجيا والحداثة. وتشير التوقعات الى ان الصينيين سيتجاوزون الهنود بعد 20 سنة في مقدرتهم على التخاطب باللغة الانكليزية. تختلف الصين عن الهند اختلافاً كبيراً على رغم النهضة الكبيرة في الهند. فالنظام في الصين أكثر تطوراً، والبنية التحتية في الصين من شوارع نظيفة وطرق سريعة ومواصلات، اكتملت في مناطق كبيرة. والأهم ان التنمية في الصين تقع في ظل نظام موحد يقوده حزب واحد الحزب الشيوعي الصيني الذي فقد شيوعيته. أما في الهند فمن الواضح ان الديموقراطية الهندية حولت الهند سياسياً الى أزمة غياب القرار وكثرة الاختلاف مما حدّ من سرعة التنمية. لهذا تقع التنمية في الهند في ظل غياب كبير لصنع القرار مما يجعل التجربة أبطأ وأقل قدرة على التحول السريع. أما الصين فمن حظها أن هذه النهضة تقع قبل الديموقراطية والتعددية. ومن حظها ايضاً انها تتمتع بقيادة تتعلم وتستمع وتقود التنمية والاصلاح ومواجهة الفساد والحداثة ومراكمة رأس المال والاستثمار. لقد اكتشفت الصين منذ زمن غورباتشوف في الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينات بأنها يجب أن لا تسمح ببروز شخص مثله في الصين يعتبر غورباتشوف مهندس نهاية الاتحاد السوفياتي. كما ان الصين منذ حركة الديموقراطية الطلابية في أواخر الثمانينات والتي أدت الى صدامات حول الديموقراطية مع طلاب الجامعات أخذت قرارات بمنع الديموقراطية قبل نجاح التنمية الشاملة للصين. لهذا كان القرار في الصين: أولاً منع بروز غورباتشوف في الصين ثم العمل بشدة وقوة على التنمية السريعة والفعالة. ثم فتح البلاد للديموقراطية على مراحل تكتمل في عام 2020. وقد عنى ذلك ضرورة البدء بحركة اصلاح واسعة النطاق لم يعرف التاريخ الصيني مثيلاً لها. الفارق كبير بين التجربة الصينية والتجربة العربية. فالأخيرة أرادت التمسك بالسلطة ومنع بروز اصلاحيين من نمط غورباتشوف لكنها من جهة أخرى لم تفعل شيئاً حقيقياً باتجاه تبني مشروع للنهضة والتنمية والانفتاح والتوسع المدني. لهذا انتهى الوضع في العالم العربي الى التآكل والتدخل الأجنبي العشوائي بينما الصين قطعت مسافات كبيرة باتجاه العالمية والتفاعل المدروس. ان الصين التي بدأت تنفتح على العالم ستسعى الى تصدير حضارتها الى حضارات أخرى ولديها رسالة للسيطرة والنفوذ العالمي مثلما كان الوضع بالنسبة الى الولاياتالمتحدة في معظم سنوات القرن العشرين. سيبقى السؤال: كيف سيتأقلم العالم مع العملاق الجديد؟ وما هو الجديد الايجابي والسلبي بما فيه الحروب والتحديات التي ستأتي مع تحول بلد البليون مواطن الى دولة كبرى جديدة تسعى الى النفوذ والسيطرة في الشرق وفي الغرب؟ رئيس الجامعة الأميركية في الكويت.