جاء كابيلا من النسيان. النسيان الذي دفن افريقيا تحت البؤس. والنسيان الذي أصاب ذاكرة الكونغو من فرط الخذلان والحرمان ومحاولات التحرير البائسة… هكذا حضر فجأة فبدا للبعض وكأنه قد اخترع اختراعاً، ولكن الذين يعرفونه جيداً كانوا يعتقدون انه سيخرج لا محالة في اللحظة المناسبة… صحيح ان لوران ديزيريه كابيلا ليس بالمنظّر الكبير مثل نيريري ولا هو بالمناضل الكبير مثل مانديلا ولا هو بالخطيب الكبير مثل نكروما، ولكن لا أحد يشك بأنه المغامر الكبير بلا منازع. ان هذا الصنف هو ما تفتقده افريقيا. ولو فكر كابيلا جيداً في مساحة البلاد التي ستشهد مغامرته مليونان ونصف مليون كلم مربع وفي عدد نفوس الشعب الذي سيروّض عواطفه ونوازعه 45 مليون نسمة وفي صولجان وأبهة عدوه موبوتو، ما كان ليتقدم خطوة. كانت خطوته الأولى في رحلته الأخيرة المظفرة قد بدأت في شرق البلاد بمدينة غوما على بحيرة كيفو المحاذية لرواندا… لم يكن هناك ما يوحي له بالنصر. فاللاجئون يموتون بالمئات يومياً والانهاك وضع الجميع تحت رحمة التماسيح والحيوانات المفترسة. والرجال الذين يمكن ان يحاربوا قليلون جداً… مع ذلك عقد العزم مع نفسه ومع أكثر الناس بؤساً وعزلة وكذلك مع قوة اليأس… ثم بدأ مغامرته الكبرى والأخيرة. هكذا، في السابعة والخمسين من عمره، وبعد ان أصبح جداً لپ12 حفيداً، عاد كابيلا ليحترف السياسة الساخنة من جديد. فقبل ان تدخل منطقة البحيرات الكبرى الى المذابح التي بدأت مع انقلاب بوروندي الأول ثم انقلاب رواندا اللذين أطاحا بسلطة أقلية التوتسي التاريخية عام 1994، كان كابيلا قد استكان للتجارة والحياة المترفة وهو يجتر ذكرياته الكثيرة مع حرب العصابات التي خاضها أكثر من مرة في الستينات بعد مقتل لوممبا وفي السبعينات مع ثوار كاتنغا - شابا، وفي أواسط الثمانينات مع فهود كيفو في شرق البلاد. محطة في بيروت كان غنياً جداً، فقد عرف كيف يجمع المال حين فشل في السياسة. ولكن الذين لا يعرفون مصادر ثروته ومجالات أعماله التي تمتد من دار السلام الى عنتيبي ومن بلجيكا الى هولندا، ليس بإمكانهم ان يلحظوا عليه أية علامات من علامات الثراء. فهو يعرف جيداً كيف يخفي أسراره. انه قصير القامة حتى ليبدو وكأنه الرجل الوحيد الذي أصيب بالقصر وسط أفراد شعب التوتسي الطوال القامات. بدين، حليق الرأس وأمرد الوجه، عيناه تحدقان بعيداً واحدة مثبتة على أعدائه في الخلف والثانية ترعى أصدقاءه في الأمام. نظرته حادة، لكن ضحكته المجلجلة والحاضرة باستمرار كثيراً ما تخفف من تلك الحدة. فهو حين يتمادى في الضحك يصفق بقوة ثم يركض بعض الخطوات ماسكاً ببطنه جاثماً على ركبتيه مكرراً: "الهي يا الهي. ماذا فعلت لك؟". لقد عرفت كابيلا في أواخر صيف العام 1981 في بيروت. كان في عقده الرابع. لم يكن أقل وزناً من اليوم. ومع ذلك كان يحب الأكل والسباحة. جاء الى بيروت مع فرنسوا لوممبا ابن الزعيم لوممبا فسكنا في فندق "البوريفاج" في منطقة الرملة البيضاء. كان مظهره بسيطاً. بدا لي انه لا يحب الا السخرية من كل شيء. كان يكتفي بلباس متقشف يتكون من قطعتين داكنتين. كان يفضل الأحذية الرياضية ويحرص كثيراً على وضع كل يوم قبعة على رأسه. قال: "انه يملك أكثر من دزينة من القبعات المكسيكية العريضة والبيريه الايطالية والكاسكيتا الأميركية وحتى المظلة الهندية. ظننت ان رأسه الحليق لا يتحمل الشمس. ولكن حين يستلقي قرب مسبح البوريفاج، فإنه لا يغادر الشمس الا حين تغادره". قال أيضاً "انه شغوف بالسباحة في الأنهار وكذلك بملاعبة التماسيح"، وقال أيضاً "انه التقى الموت مرات عدة لكنه حيّاه ومضى في سبيله". بدا لي انه رجل متبجح أو هو يفتعل القوة لاخفاء ضعفه تجاه الحياة اللذيذة، لكن فرنسوا أكد لي "انه رجل مخيف… فهو يخفي قوته تحت الشحم جيداً". مع ذلك لم أكن مهتماً كثيراً بهذا الذي اسمه لوران ديزيريه. لقد بدا لي رجلاً عادياً رغم ان فرنسوا لوممبا كان يتحاشى المزاح معه وهو لا يتعب من القول لي: "انه الرجل الوحيد الذي يمكن ان يفتك بالوحش موبوتو". كنت التقيت فرنسوا لوممبا في جنيف في 1980 عن طريق الصدفة في احدى المكتبات العربية. نسج العلاقة بيننا صديق لبناني مشترك أ. بيطار. كان فرنسوا يسكن آنذاك في بروكسيل. كان يتكلم العربية بلهجة مصرية. فهو قد تربى في بيت عبدالناصر مع منى وعبدالحكيم وخالد. جاء الى القاهرة وهو طفل مع شقيقته وأمه بعد ان قتل والده. أخذني معه الى بيت الكاتب والبرلماني السويسري جان زيغلر. وهناك أعلن عن رغبته في الذهاب الى بيروت. وفي ليلة من ليالي حزيران يونيو 1981 كنت برفقة لوممبا الابن عند القائد الفلسطيني "أبو جهاد". تحدثنا عن افريقيا عموماً وعن زائير بوجه خاص. روى "أبو جهاد" بعضاً من قصة لقائه بغيفارا في الجزائر وكان آنذاك عائداً من الكونغو بمرارة طغت على مزاجه، فألهب ذلك حماس فرنسوا الذي راح يتذكر هو الآخر غيفارا لما رآه وهو طفل في بيت عبدالناصر. بعد ذلك طلب فرنسوا من "أبو جهاد" مساعدته لتدعيم المعارضة الزائيرية. طرح "أبو جهاد" على فرنسوا اسئلة دقيقة سجل أجوبتها بسرعة وباختصار ثم طلب منه ان يزوره بعد شهرين مع وفد من رفاقه. بعد شهرين جاء فرنسوا الى بيروت ومعه رجلان أحدهما ديزيريه كابيلا قائد حزب "الشعب الثوري". تواصلت اللقاءات بين الفلسطينيين والمعارضة الزائيرية بعد ذلك. وأخبرني فرنسوا فيما بعد ان "أبو جهاد كان رجلاً جاداً ودقيقاً في معاملاته"… ثم عرفت ان اللقاءات تواصلت في تونس وان لوممبا كان يزور "أبو جهاد" في تونس بمعدل مرتين في كل سنة. وكان يقيم باستمرار في فندق "الديبلومات". مهنة الحرب وفي أواخر العام 1984، قال لي فرنسوا "ان كابيلا قد فتح الحرب على موبوتو، ولكنه لا يتمتع بدعم المعارضة. لقد اختار التوقيت بنفسه، وأظن انه سيفشل في كيفو كما فشل في كاتنغا"… وهكذا في بداية 1985 تفاوضت حكومة موبوتو مع قيادة حزب "الشعب الثوري" من اجل وضع حد للحرب بعد ان فقد كابيلا جزءاً كبيراً من رجاله وعتاده ثم ذهب الى تانزانيا وأوغندا ليستأنف أعماله الخاصة. بعد نحو 10 سنوات من تلك الهزيمة، لاحت فرصة اخرى لكابيلا لكي يعود الى مهنته الأولى، وهي الحرب. فقد انقذه أهل ألبانيا - مولينغ وهم قوم من سلالة التوتسي الروانديين استقروا في بداية القرن التاسع عشر في المرتفعات القريبة من أوفيرا جنوب كيفو، من النسيان. وكرد على دعم موبوتو لأغلبية الهوتو في رواندا وبورونديوأوغندا، قامت هذه الدول بتسليح أهل البانيا - مولينغ الذي يتعرضون باستمرار لاضطهاد كنشاسا، وهم لا يحملون أية جنسية، فكبدوا الجيش الزائيري خسائر فادحة، وأخرى أكثر فداحة للهوتو البورونديين والروانديين. في الخامس والعشرين من تشرين الأول اكتوبر عام 1996 جاء القدر الى ما بين يدي كابيلا ليرد اليه اعتباره. ففي اللحظة التي قرر فيها أهالي ألبانيا - مولينغ الحرب الى النهاية، قفز كابيلا الى المقدمة بعد ان جمع أربع حركات سياسية صغيرة في تحالف أسماه "التحالف الديموقراطي" ليقول لشعب البانيا - مولينغ "ان التحالف هو حركتكم ضد الطغيان والفساد… علينا جميعاً ان نطيح بموبوتو ونلقي به الى التماسيح"… لقد عرف ابن قبائل الباليباكات التوتسية الذي ولد في موبا على ميناء بحيرة تانجانيقا في أواخر الثلاثينات كيف يصل في موعده المناسب مع نهاية التسعينات. كان قد درس في ألمانياالشرقية قبل عودته الى الكونغو في نهاية الخمسينات في وقت كانت بلاده تتهيأ لنيل استقلالها من بلجيكا. كان مفعماً بالأفكار الاشتراكية والحماسة للماركسية ومعادياً للامبريالية ممتلئاً بالوعود الجميلة للعالم الثالث، لذلك سرعان ما وجد طريقه نحو الصعود في حركة باتريس لوممبا. أصبح كابيلاً نائباً عن قبيلته، ولكن سقوط لوممبا سيفقده مقعده في البرلمان ثم يرغمه على التوجه الى المنفى… وفي العام 1963 التحق كابيلا بالتمرد المسلح الذي أعلن في لوممباشي ثم انضم الى القائد اللوممبي بيار موليل. استمر ذلك التمرد نحو سنة ثم خفت. تعب الكثير من رفاقه لكن كابيلا لم يتعب فانضم مجدداً الى "ثورة الصامبا" بقيادة غاستون سوماليو ولكن تلك الثورة التي دعمتها موسكو ستمحق كلياً بفضل التدخل الأميركي، بيد ان الصامبا سكان مناطق الشرق المعروفين بصلابتهم سيستأنفون حرب الاستنزاف ضد كينشاسا الى عام 1968. في تلك الأثناء كان كابيلا قد أصبح على رأس حركة تسمى "حزب الشعب الثوري"، وهي تتشكل من أنصار لوممبا الأوائل والجدد، الأمر الذي دفع بقائد حرب العصابات الارجنتيني تشي غيفارا الى الذهاب اليهم في مشروع "الف بؤرة وبؤرة لزعزعة الامبريالية". وهناك عاش غيفارا أياماً حزينة عاد على اثرها الى الجزائر بمرارة لا تنسى… خيبة غيفارا كان الخلاف قد دبّ بين كاسترو ورفيقه غيفارا في العام 1964. ضاقت كوبا الرسمية بغيفارا الثائر، فنصحته أمه بالتوجه الى الجزائر عند صديقه أحمد بن بلة… أمضى بن بلة أياماً وأسابيع في منتجع الشريعة وهو يقنع غيفارا بالبقاء في الجزائر كمستشار، لكن هذا الأخير كان مولعاً بإشعال الحرائق في كل مكان. وقد روى لي بن بلة في كتاب "بن بلة يتكلم" عقب خروجه من السجن مباشرة عام 1981 "كيف انه نصح غيفارا بعدم التوجه الى افريقيا لأن الافارقة يتحسسون من البيض، وهو يخاف ان يعاملوه كمرتزق" لكن لم تكن أية قوة لاقناعه. وبعد زيارة سرية الى الجنوبالتونسي منطقة قابس للاطلاع على الطبيعة اذ كان معارضو بورقيبة يفكرون في اعلان تمرد مسلح عزم غيفارا على الذهاب الى الكونغو على رأس مجموعة من الرفاق… تمت الرحلة بمساعدة الجزائر. وظل بن بلة ينتظر الأخبار… يضيف بن بلة متذكراً: "بعد مدة قصيرة جاءني غيفارا متألماً ليقول لي: "انك على حق. لقد عاملوني كمرتزق أو كأستاذ أبيض جاء ليعطيهم تعاليم أفيونية لكي يتمكن من سرقتهم". في الجزائر تعرف أبو جهاد على غيفارا العائد من الكونغو وتواعد على لقاء آخر، لكن حين سافر غيفارا، سقط بن بلة، فلم ينتج ذلك اللقاء اليتيم أي شيء… لم يخف غيفارا حزنه أمام بن بلة لوضع الكونغوليين الذين رآهم غير عابئين بالعمل لغياب قادتهم على الميدان. وقال عن كابيلا بالذات "بأنه رجل غامض. وما من شيء يدل على انه رجل حرب أو رجل سياسة. فهو لا يذهب الى الجبهة ولا يحب النقاش السياسي وخصوماته كلها بسبب النساء والأموال". أما كابيلا فقد كان يرد دائماً على ذلك: "ان غيفارا لم يخبرني بقدومه. بلدنا مختلف وأظن أنه أصيب بخيبة أمل لأنه كان يحمل أفكاراً أخرى"… دخل بن بلة الى السجن ثم اغتيل غيفارا بينما كابيلا تابع طريقه. وفي العام 1968 أصبح عدد مقاتليه في شابا وكيفو نحو 3 آلاف مسلح ينفذون عملياتهم انطلاقاً من زامبيا وتانزانيا. كانت الحرب الباردة على أشدها. رمى نيريري الماوي بكل ثقله وراء كابيلا ثم دعمه كينيث كاوندا الزامبي بتشجيع من موسكو فكان كابيلا يجمع دعم عاصمتين شيوعيتين انهكهما الخصام الايديولوجي. ضغط نظام التمييز العنصري على زامبيا فسحبت دعمها، ثم ضغط عيدي أمين في أوغندا على تانزانيا فخف حماسها، أصبح كابيلا للحظة بلا حلفاء فيما برز موبوتو وكأنه أحد أباطرة أفريقيا الكبار، لكن كابيلا المغامر لن يستسلم. قام بعمليات خطف لمواطنين غربيين، فبدا في ذلك الوقت رئيس عصابة أكثر منه زعيماً حربياً، وتاجراً أكثر منه مناضلاً. كان يتلمس طريق الثروة بجميع الوسائل. وقد تمكن من بسط شبكاته في البلدان المجاورة، فأصبح ينام على ثروة كبيرة تتمثل في أسطول للصيد على سواحل زنجبار ودار السلام وفنادق في زامبيا وكينيا. لقاء مصالح وحسابات حتى وان اتخذ كابيلا من لوممبا الابن صديقاً له، فإن لوممبا الأب القتيل لا بد انه كان يتقلب في قبره لتصرفات هذا الرجل الذي رفع اسمه كيافطة لنشاطاته السياسية والتجارية، ولكن لا شك انه سيغفر له كل ذنوبه لأنه أسقط قاتله. فقد تحالف كابيلا في سبيل الاطاحة بموبوتو مع جميع الشياطين الكبار والصغار. تحالف مع موسكو ثم مع بكين وأخيراً مع واشنطن. كما تحالف مع أوبوتو ثم عيدي أمين وأخيراً مع موسفيني. ربط علاقات جيدة بنيريري وكاوندا ثم دوس سانتوس وأخيراً مع مانديلا. لم يكن مغلقاً على أي علاقة. فهو رجل يتمتع بمواهب عديدة، لكن الموهبة الأكثر بروزاً هي قدرته على كسب ثقة أكثر الناس تشككاً وحذراً، وهو ما أعطاه امتياز طرق أبواب المستحيل. قبل ان يشرع في قيادة تمرده في خريف 1996 وقد رتب كل شيء قال لأصدقائه: "بقى الآن أمامي الأميركان. سأعرف كيف أجعلهم يأتون اليّ"… وهكذا بعد لقاءات مع موسفيني ومانديلا، تبنى الأميركان كابيلا بلا تردد. فالروانديون يريدون استئصال بقايا القوات المسلحة الرواندية السابقة وميليشيات الهوتو المتطرفة من الزائير. والأوغنديون يريدون استتباب الأمن في شرق الزائير بعد القضاء على جميع أجنة التمرد المعادية التي كان ينفق عليها موبوتو. ومانديلا يريد الانتقام من موبوتو الذي تعاون مع نظام التمييز العنصري، والأنغوليون كانوا يريدون لموبوتو الذي مزق بلادهم التمرْغ في التراب. اما الأميركيون فهم يريدون التخلص من عبء الماريشال المريض وتطهير وسط افريقيا من الفرنكفونية… بذلك جمع كابيلا أكثر من حليف كان يصعب جمعهم لو ان العدو لم يكن موبوتو. وكما ان تحالف كابيلا الخارجي كان يشكل أكثر من دولة لا تجمعها أية رابطة ايديولوجية أو سياسية، فإن تحالف القوى الديموقراطية من اجل تحرير الكونغو في الداخل كان أشبه ما يكون بفسيفساء مزركشة بزعامات سياسية ودينية وعرقية. ففيها البانتو والمولينغ والتوتسي الكونغوليون والتوسي الروانديون من أصل كونغولي وتوتسي أوغندا وأتباع لوممبا القدامى وفهود كاتنغا وصامبا الكيغو وكذلك الانتهازيون والسماسرة والتجار… وهذا الخليط من شأنه ان يجعل كابيلا يطيل التفكير لايجاد التوازن السياسي الدقيق. ففي عالم الرمح والبقرة أو عالم البحيرات الكبرى، لا بدّ للصياد البري أو البحري ان يعرف كيف يعود سالماً من رحلة الصيد كل مساء… لقد انتهى مشوار الصيد الآن، ولكن موعد تقسيم الغنائم قد حان… وهذا يحتاج الى الحكمة لا الى المغامرة… عرفنا لوران المغامر، وبقي ان نعرف كابيلا الحكيم!…